لم أكد أسكن سلكت وأجد نفسي محاطا بإخوان السرور، وتمد الحياة إلي يدها ممسكة بها حتى تهت عن صوابي مبهورا، وأردت أن آخذ من ذلك كله أعطته لي الصدفة ولم تمنع عني شيئا أردته، كل ما أرغب ما علي إلا أن أمد يدي فأتناوله.
قضيت كذلك شهرين من حياتي، شهرين جاءا في لحظة ما كان أحوجني إليهما، شهري لذة وسرور.
وإذا كنت أنظر لهما اليوم بشيء من الأسف فإن لهما كذلك شفيعا من أنفسهما كما أن الحياة التي تلتهما كفرت عنهما.
وكأن النفس التي ربيت بين الكتب والمطالعات والكتابة مهما وجدت في هذا العيش من اللذة تسأمه أخيرا، تسأم تلك الساعات الفارغة والليالي الساهرة لغير فائدة والأوقات الطويلة الضائعة بين جدران القهاوي أو حول ترابيزات البليار؛ لذلك أحسست في النصف الأول من فبراير بقلق أخذ بخناقي وأنذرت (ويكث) أني تارك اللوكاندة لآخر الشهر، وكل يوم يمر يزيدني قلقا، حتى إذا كنا حوالي الأيام الأخيرة ذهبت وأخذت لنفسي مكانا في سان كلو.
في سان كلو كان معي عائلة من رجل وزوجه وابن صغير، ثم سيدة أخرى، وكل جماعة في ناحية من قاعة الطعام، ولم يمض علي بها ثلاثة أيام حتى سافر هؤلاء وأصبحت الغرفة الواسعة لا أحد بها إلا أنا ... وأحسست في تلك الوحدة المطلقة بعد الذي كنت فيه من الضجة الدائمة براحة كبيرة، لكن ما أسرع ما وجد الضيق سبيله لنفسي، فكنت أهاجر لباريس ثلاث مرات وأكثر في الأسبوع الواحد، وبقيت في تلك الوحدة أياما.
جاءت عند صاحبة الدار ليلة عجوز كانت ساكنة عندها، وسألتها أن تذهب معها للكنيسة، وسألاني أن أصحبهما ففعلت، وجاءت العجوز عندنا تتناول طعام الغذاء، وكانت غرفة الطعام قد صار فيها غيري شخصان رجل وسيدة، سيدة مريضة يكاد المرض يجيء عليها ذاهبة اللون مسؤومة الوجه غائرة العينين، فلما انتهينا من الطعام وذهبت إلى الصالون وقد شيعتني إليه هذه السيدة الرومانية العجوز جاءت صاحبة الدار تحادثنا، وسألتنا أن ننادي بهذه السيدة المريضة من غرفتها فنزلت، وقضيت معهن حتى الساعة الثالثة بعد الظهر.
كنت في هذه الأيام قد أخذت في العمل من جديد، الشهر مارس والسنة اقترب آخرها ولم يبق من التحضير للامتحان محيص، وكأن تلك العادة المكسوبة بالزمان من تأدية امتحان والنجاح فيه كل عام من سنين عديدة مضت جعلتني أحس بمسؤولية مضاعفة؛ لذلك فرغما مما كنت أجده من لطف السيدتين لم أكن أعطيهما من وقتي أكثر مما يلزم.
غير أن رقة المرأة لها من القوة على قلب الرجل ما يسحره عن نفسه، كم من رجال أمناء أضعفتهم النساء! وكم من ضعاف أعطتهم النساء قوة، وأقوياء أورثنهم ضعفا! ولا أظن أن هناك ضرورة لدخول الحب في قلب الرجل من أجل أن يصرفه عن طريقه، بل يكفيه قليل من الإحساس بالميل نحو امرأة لتأخذة عن نفسه إلى حد كبير، لذلك صدتني رقة صاحباتي وخصوصا رقة مدام س. عن عملي إلى حد ما.
وكل يوم كانت تحكي لي فيه عن مركزها كانت تزيدني رحمة بها وعطفا عليها وبالتالي عملا لإرضائها ... أول ما عرفت عنها أنها زوجت في السابعة عشرة من عمرها ثم طلقت زوجها بعد سنتين بعد أن رزقت منه ولدا، وبعد أن ذاقت من زواجها الذي خلفت بعده أن لا تجعل لرجل عليها سبيلا، ثم تعلق بها المسيو س. وجعل يجاهد سنتين حتى قبلت يده وهي في الثالثة والعشرين، وبقيا زمنا وهو أطوع لها من يدها، ثم انصرف عنها بعد أن رزقت منه صغيرا، وهو اليوم يدور مع أخرى وهي تقاسي في الوحدة آلامها.
جاهدت بعد ذلك أريد أن أقف على كثير من أمرها، وزادني ذلك تحريضا على صرف بعض وقتي معها، وهي دائما تلك السيدة الرقيقة الطيبة القلب الواقعة تحت حكم الألم.
صفحه نامشخص