ولقد تذكر كيف كان وهو في تلك الأرض القصية، التي قضى فيها عهد عبوديته وعاره وشناره، يتمثل مسقط رأسه كما تركه، لا كما سوف يبدو عند مآبه، فلم تلبث هذه الحقيقة المرة أن نزلت باردة جامدة على فؤاده، وأمسكت بكفها الباردة بقلبه، وأحس روحه تهوي في أعماقه، فلم يجد في نفسه شجاعة تغريه بسؤال الناس عما صنع الله بأهله، أو تحمله على التقدم إلى الإنسان الوحيد الذي يحتمل أن يتلقاه بحنان ورحمة، بل مضى يمشي مبطئ الخطى، متحاميا عدوة الطريق كالمجرم الأثيم، وعرج على بعض المروج التي كان يعرفها حق المعرفة، وراح يتهالك على الحشائش، دافنا وجههه في راحتيه.
ولم يفطن عندئذ إلى رجل كان راقدا فوق الجسر غير بعيد، وإن كان هذا قد شعر به، فاستدار ليختلس نظرة إلى هذا الطارئ الغريب؛ فأحدثت ثيابه حفيفا، فانتبه أدموندز من غشيته، ورفع رأسه ليتبين ما سر هذا الحفيف وباعثه.
وكان الرجل الآخر قد استوى جالسا فوق الثرى، وقد بدا كأنه مقوسا، ووجهه مغضنا، ولونه أبهر شاحبا، ويوحي لباسه بأنه من العاملين الكادحين في الأرض، ويدل مظهره على أنه قد بلغ من الكبر عتيا، وإن لاح عليه أن الشيخوخة التي أدركته كانت من أثر الإسراف على نفسه، واصطلاح السقام عليه، لا من مطال العمر وتقادم السنين.
ولبث يحملق البصر في ذلك الطارئ الغريب، وإن كان بريق عينيه قد خبا، وجفناه متثاقلين خلال النظرة الأولى، فما عتمتا أن أبرقتا، وخطف عليهما وميض غير طبيعي، ونظر مروع رهيب، بعد أن استقرتا على ذلك الوجه الغريب القائم حياله، كأنما توشك عيناه أن تخرجا من محجريهما.
وانثنى أدموندز يتحامل شيئا فشيئا ليستوي على ساقيه، ويطيل النظر في وجه ذلك الشيخ المهدم، وإذا الرجلان يتبادلان النظرات في صمت مستطيل.
وبدا الشيخ شاحبا في مثل شحوب الموتى، وأخذته رجفة راجفة، وترنح حتى استوى على قدميه ، كما وثب أدموندز من مكانه، وتراجع خطوة أو خطوتين، ثم دنا من الشيخ.
قال بصوت متهدج متقطع: «دعني أسمع منك قولا ...»
ولكن الشيخ المهدم صاح به ساخطا ناهرا: «اغرب عني!»
وعاد السجين يدنو منه ويقترب.
وانثنى الشيخ يصرخ: «اغرب عني!» واشتد به الرعب فرفع عصاه، وضرب أدموندز بها ضربة شديدة على وجهه.
صفحه نامشخص