وأرخى إمساكته بمعصمي، وانقلب على وسادته، منهوكا مجهدا ...
وكنت أعرف حق المعرفة المراد من ذلك كله، وإذا كان شيء من الشك قد خامرني لحظة، فإن نظرة واحدة إلى وجه المرأة الشاحب، وبدنها الذاوي كانت كافية لشرح حقيقة الأمر، وكشف خافيته.
فقلت للمرأة المسكينة: «يحسن أن تنتبذي من الحجرة مكانا قصيا ... فإنك لن تستطيعي له خيرا، ولعله سيهدأ إذا لم يرك.»
فتوارت عنه، وعاد الرجل بعد بضع لحظات يفتح عينيه، ويدير بصره فيما حوله، قلقا موجسا ...
قال في لهفة: «هل ذهبت؟»
قلت: «نعم ... نعم ... إنها لن تمسك بأذى.»
قال، وهو يغض من صوته: «سأقول لك شيئا يا جم ... إنها تؤذيني فعلا ... إن في عينيها شيئا يلقي في قلبي رعبا يذهب بلبي، فقد قضت الليلة البارحة كلها وعيناها الواسعتان المحملقتان ووجهها الشاحب بقرب عيني ووجهي، كلما تحولت تحولت، وكلما أجفلت من نومي وجدتها بجانب فراشي تنظر إلي ...»
ومضى يدنيني منه، ويقول في همس عميق مروع: «هي حتما روح شرير ... صه ... إنني أعرف أنها كذلك ... ولو كانت مخلوقة آدمية لماتت من عهد طويل ... فليس في البشر امرأة تتحمل ما تحملت.»
وأحسست ألما بالغا في نفسي حين تخيلت صنوف القسوة، وألوان العذاب، والآلام والإهمال التي لا بد أن تكون قد اصطلحت على إحداث هذا الأثر المخيف في نفس هذا الرجل ومشاعره، ولم أجد جوابا أجيب به، ومن الذي يستطيع أن يجدد الأمل، أو يعرض العزاء، أو يهب السلوى، لهذا المخلوق المنكر الذي يرقد أمامي ...؟
وقضيت في مجلسي ذاك أكثر من ساعتين، لبث خلالها يتقلب في مرقده، ويلقي بذراعيه متململا هاهنا وهاهنا، وينكفئ على هذا الجانب، ثم ينقلب على الآخر، حتى هبط أخيرا إلى حال من الغيبوبة يطوف فيها العقل المكدود من مشهد إلى مشهد، وينتقل من موضع إلى موضع، دون رقابة عليه من الفكر، وإن ظل مع ذلك عاجزا عن التخلص من إحساس غامض مما هو فيه من عذاب، وما يشعر به من ألم، ولما تبين لي من هذا الهذيان المنقطع، والتخريف المجرد من كل صلة أو تماسك، أن هذه هي حقيقة حاله، وأدركت أن الحمى على أكبر الظن سوف لا تزداد سوءا في الحال، تركته واعدا زوجته المسكينة أنني سأكرر زيارتي مساء اليوم التالي، وأنني إذا اقتضى الأمر ماكث مع المريض الليل كله.
صفحه نامشخص