فعاد المستر بكوك يقول: «بل ستفعل لإرضائي.»
وقال المستر طبمن: «حسن، حسن، سأفعل!»
وكذلك تم الاتفاق على أن يرتدي المستر طبمن، والمستر ونكل، والمستر سنودجراس جميعا ثيابا تنكرية، وهكذا انساق المستر بكوك مع حرارة إحساسه الرقيق إلى قرار أمر كانت رجاحة عقله وأصالة رأيه تمجانه، وتنفران من قبوله، ولا نحسب مثلا أروع، ولا شاهدا أبلغ من هذا وأجل، يمكن أن نتصوره؛ للدلالة على لطف شخصيته، ولين عريكته، ولو افترضنا أن الحوادث المدونة في هذه الصفحات جاءت جميعا من نسج الخيال.
ولم يكن المستر ليو هنتر مبالغا فيما تحدث به عن كثرة موارد المستر سلمون لوكس، والألوف المؤلفة من الثياب التنكرية في متجره، فقد كانت خزائنه ملأى حافلة بها، لا بالقديم منها فحسب، ولا بالقشيب فقط، ولا بالمفصل التفصيل الدقيق على زي عصر بذاته، وجيل بعينه، بل كان كل شيء فيه مرصعا بالبرق، وأي شيء أبدع وأجمل مظهرا من التراصيع والبروق ...! ورب معترض يقول إنها ليست مناسبة في النهار، ولكن كل إنسان يعرف أنها تبرق وتتلألأ إذا كانت ثمة شموع ومصابيح، وأنه لا خلاف في أن الذنب ذنب الذين يقيمون الحفلات التنكرية، إذ هم أقاموها نهارا، ولم تبد الثياب براقة ذات سناء كما تلوح ليلا، وليس الذنب مطلقا للبروق ذاتها والتراصيع.
وكان هذا الرأي رأي المستر سلمون لوكس، وحجته المقنعة، وقد تأثر بها المستر طبمن والمستر ونكل والمستر سنودجراس، فقبلوا أن يستأجروا من الثياب ما وصاهم به الرجل، وزكاه لديهم، معتمدين على ذوقه وخبرته، آخذين برأيه فيها، وهي أنها مناسبة للحفلة إلى حد بديع.
واستؤجرت مركبة من فندق أسلحة المدينة «تاون آرمز»؛ لكي تقل البكوكيين، وأخرى مكشوفة من الفندق عينه ليركبها المستر بت وزوجته، إلى دار مسز ليو هنتر، وكان المستر بت قد عمد إلى وسيلة لطيفة لإبداء عرفانه للدعوة التي وجهت إليه، فكتب في جريدة «الغازت إيتنزول» يقول: «إنه لعلى ثقة بأن الحفلة سوف تتيح للعين مشهدا حافلا بأفانين وألوان مختلفة من الفتنة، والسحر المبين، وسوف تكون معرضا مدهشا يأخذ بمجامع القلوب، تتلاقى فيه أضواء الجمال والنبوغ، والكرم العظيم، والأبهة البالغة ... وفوق ذلك كله ستمتاز المأدبة بحد من الروعة يلطف منه الذوق الرفيع، وحد من الزينة يهذب من حواشيه الانسجام التام، والحشمة الطبيعية الواجبة، حتى ليبدو بهاء الشرق وأرض سحره التي تحدثنا عنها الأساطير، بالقياس إليها، قاتمة كدرة معتمة، كخاطر المخلوق الحقود الخسيس الذي يحاول أن ينال بسم حسده ونفث حقده، من جمال الاستعدادات التي تعدها السيدة الفاضلة الرفيعة المكانة التي تتقدم بهذا الإعجاب المتواضع إلى محرابها.» وكانت هذه العبارة الأخيرة سخرية لإذاعة موجهة إلى الإنديبندنت «الجريدة المستقلة» التي ظلت في أربعة أعداد متوالية تحاول الزراية بالحفلة؛ لأنها لم تدع إليها، وتشنع على المأدبة، بأكبر الحروف حجما، وتصفها بأسوأ الأوصاف.
وحل الصباح، فكان مشهدا بديعا ممتعا للعين أن ترى المستر طبمن في ثوب «قاطع طريق»، ذي سترة محبوكة ضيقة للنهاية، جالسة فوق ظهره وكتفيه أشبه شيء بمخدة الدبابيس، بينما بدا الجزء الأعلى من ساقيه محشورا في سراويل قصيرة من المخمل، والجزء الأدنى منهما ملفوفا مقمطا في تلك الأربطة، واللفائف المعقدة التي اعتاد قطاع الطرق جميعا ربطها وحزمها بنوع خاص، وكان من الممتع للعين كذلك أن تشهد وجهه المتفتح الصفي المزدان بالشارب، الشبيه بسدادة القوارير، وهو مطل من طوق قميص مفتوح، وأن تتأمل قبعته التي تحكي «قمع السكر» بأربطتها التي جمعت بين مختلف الألوان، وقد اضطر أن يحملها فوق ركبته، كما لو كانت شيئا مما يحمل ولا يعرف، وله قمة تعلوه، ولا يتواتى للمرء أن يحمله بين رأسه والسقف. وكان منظر المستر سنودجراس لا يقل إضحاكا وطرافة، فقد بدا في صدار وحلة من الحرير الأزرق، وسراويل محكمة من الدمقس الأبيض، وحذاء وخوذة إغريقية، يعرف كل إنسان - أو إذا لم يعرف، فإن المستر سلمون لوكس يعرف - أنه الثوب المألوف الذي يرتديه عادة شعراء الفروسية الغزلون، من أبعد عصور التاريخ إلى الوقت الذي اختفوا فيه جملة على وجه الأرض.
كل ذلك كان ممتعا، ولكنه لم يكن شيئا مذكورا بجانب هتاف العامة وصرخاتهم، حين وقفت بهم المركبة، وراء مركبة مسز بت، التي كانت واقفة بباب داره، وحين انفتح الباب ذاته، وبدا منه ذلك الرجل العظيم «بت»، مرتديا ثوب ضابط روسي من رجال الشرطة، يحمل سوطا ضخما في يده كأبدع رمز، وأنسب شارة، لسلطان «الغازت إيتنزول» ونفوذها المرهوب، وبأسها العظيم، وتلك السياط المخيفة التي يلهب بها ظهور المخطئين والمسيئين إلى الحياة العامة.
وصاح المستر طبمن والمستر سنودجراس من جانب الدهليز، حين شهدا هذا «الرمز» الماشي على قدمين: «مرحى!»
وهتف الجمهور: «مرحى! يا بت!»
صفحه نامشخص