وكان القسيس الشيخ حاضرا، فانتحى بالمستر بكوك ناحية، وأنشأ يقول: «لا أحسبك ذاهبا في الواقع، أذاهب حقا؟»
فردد المستر بكوك القول بأنه فعلا مسافر.
وقال السيد الكبير: «إذن هاك مخطوطا صغيرا كنت أرجو أن تتاح لي متعة قراءته عليك بنفسي، فقد عثرت عليه عند وفاة صديق لي من المشتغلين بالطب في مستشفى الأمراض العقلية ببلدنا، مع جملة أوراق أخرى ترك لي الخيار بين إتلافها، أو الإبقاء عليها إذا رأيتها تستحق الحرص عليها، ولا أكاد أعتقد أنه مخطوط حقيقي، وإن كان من المؤكد أنه ليس مكتوبا بخط صاحبي، ولكن لتقرأه، ولتحكم بنفسك، سواء كان حقيقة من وضع رجل مجنون فعلا أو مبينا على تخريفات إنسان معذب، وهو ما أعتقد أنه الأرجح.»
وتناول المستر بكوك المخطوط، وودع الشيخ الخير الطيب، مبديا له كثيرا من الاحترام وصادق الدعوات.
وكان توديع أهل الضيعة الذين أكرموا مثواهم، وأحسنوا وفادتهم أشق وأصعب من توديع ذلك الشيخ، وأقبل المستر بكوك على الفتاتين يقبلهما، وقد هممنا أن نقول كما لو أنهما ابنتاه، لكن المقارنة ما كانت تصح، وإن كان من الجائز أن يبث في هذا السلام قدرا أكبر من الحرارة، كما عانق السيدة العجوز عناق الابن لأمه، وربت بكفه خدود الخادمات في أبلغ صورة الأبوة وأصدق مظاهرها، وهو يدس في كف كل منهن بعض الأدلة المادية على رضاه وارتياحه. وكان تبادل التحيات بينهم وبين مضيفهم الكريم الكبير، والمستر تراندل أبلغ كثيرا من ذلك، وأطول أمدا، ولم يتمكن الأصحاب الثلاثة من الإفلات من مكرميهم إلا بعد أن نودي مرارا على المستر سنودجراس، فخرج أخيرا من دهليز مظلم، وتبعته وشيكا إملي، وكانت عيناها البراقتان تلوحان قاتمتين على غير العادة، وراحوا يلقون عدة نظرات إلى الضيفة، وهم سائرون في طريقهم بخطى بطيئة، وكم من قبلة حملها المستر سنودجراس الريح؛ ردا على شيء يشبه منديل سيدة كان ملوحا به من إحدى النوافذ العليا، حتى بلغوا منعرجا في طريقهم؛ فاحتجب البيت عن أنظارهم.
ولما وصلوا إلى ماجلتون استأجروا مركبة تقلهم إلى روشستر، وكانت شدة حزنهم قد خفت عند بلوغها إلى حد سمح لهم بتناول عشاء مبكر شهي فاخر، وبعد أن ظفروا بمعلومات ضرورية تتصل بالطريق إلى الوجهة المقصودة، عاودوا المسير إلى «كوبهام» مع الأصيل.
وكان السير بهيجا، فقد كان الأصيل جميلا في أحد أيام شهر يونية، وكان طريقهم يشق صميم غابة مترامية ظليلة، تهب عليها الأنسام فترسل حفيفا رفيقا وسط أوراق الشجر الألفاف، ويزيدها لطفا وجمالا شدو الأطيار الجامحة فوق الأغصان، ويتسلل خلالها اللبلاب والطحلب في عناقيد كثيفة متلوية حول الدوح، ويكسو العشب الناضر اللين الأرض بساطا من سندس، وما زالوا يسيرون في وسط تلك الغابة حتى ألموا على أرض فضاء، وبستان نضير، وبناء قديم، يدل طرازه الأثري الجميل على أنه يرجع إلى عهد الملكة «إليزابث»، وتبدو على كل جانب صفوف طوال من أشجار السرو الرائعة الفخمة، وأسمطة من «الدردار»، وتشاهد قطعان كبيرة من الغزلان وهي ترعى الكلأ الندي الصبيح، وبين الفينة والفينة يتراءى أرنب بري وجل يعيث في الأرض، ويجول في رحابها بسرعة الظلال التي تلقيها السحب الخفاف الخاطفة على ذلك المشهد المشمس، كأنها أنفاس عابرة انبعثت من أعماق صدر الصيف.
وقال المستر بكوك وهو يجيل العين فيما حوله: «يخيل إلي أنه لو كان هذا هو الموضع الذي يأتي إليه كل الذين يشكون مما يشكو منه صاحبنا، لعاودهم وشيكا تعلقهم القديم بهذا العالم.»
وقال المستر ونكل: «وهذا رأيي أيضا.»
ومضى المستر بكوك - بعد أن أوصلهم المسير نصف ساعة إلى القرية - يقول: «وفي الحق، إن هذا الموضع أصلح ما يختاره كاره الناس، وأجمل نزل، وأشهى مستقر رأيته في حياتي.»
صفحه نامشخص