تعلمت من الوزارة أشياء وحقائق كثيرة كنت في حاجة إلى تعرفها، حقا إني كنت أشعر ببعضها من قبل، ولكن الوزارة زادتني معرفة بها وعرفتني بغيرها.
لاحظت بعد دخولي الوزارة أن احترام الناس حتى أقاربي قد زاد على ما كان عليه أضعافا مضاعفة. ولم ترضني هذه الظاهرة؛ فإنها دلتني على قلة تقدير الناس للجهاد البعيد عن مظاهر الحكم بالنسبة إلى تقديرهم للجاه والمناصب، وقلة التقدير للخدمات التي تؤدى للبلاد ما لم يكن صاحبها ذا مركز حكومي كبير، ومعنى هذه الظاهرة أيضا أني لم أكن محترما الاحترام الكافي قبل دخولي الوزارة، وهذا ما لم أرضه لنفسي ولا للناس.
ويدخل في هذا السياق أني لم أهنأ في حياتي على عمل بقدر ما هنئت على دخولي الوزارة، مع أن دخول الوزارة في ذاته ليس عملا بل هو ابتداء لعمل. فإذا كانت التهنئة مقصودا منها الشكر على عمل نافع فلينتظر المهنئون حتى يعمل الوزير عملا نافعا للبلاد فيهنئونه عليه. ولكن الحال هنا على عكس ذلك؛ إن التهنئة هي على الوزارة في ذاتها؛ أي على تقلد المنصب، أو بعبارة أخرى على كرسي الوزارة. وإني لواثق أنه إذا عمل الوزير عملا يستحق التهنئة فقلما يهنأ عليه التهنئة الكافية، وأغلب الظن أن يمر ولا يلتفت إليه أحد.
تلقيت بعد أن دخلت الوزارة نحو ستمائة تهنئة برقية وبريدية، عدا التهاني الشخصية وهي تعد بالمئات؛ أي إني تلقيت نيفا وألف تهنئة. وقد كنت أتساءل في خاصة نفسي: ليت شعري ألم يسبق لي عمل في حياتي الوطنية يستحق مثل هذه التهاني أو نصفها أو ربعها أو واحدا في المائة منها؟ إني مع شكري العميق لمن هنئوني وتقديري لشعورهم النبيل كان لي أن أسأل نفسي هذا السؤال فلا أجد جوابا عليه. (2) عملي في الوزارة
توليت بدخولي الوزارة أول منصب حكومي في حياتي. وكان بعض الناس يظنون أني لعدم خبرتي بالروتين الحكومي سأرتبك أو أعجز عن الاضطلاع بأعباء وزارة هي في ذاتها من أعقد الوزارات ومن أكثرها مسئوليات (وزارة التموين). ولكني والحمد لله وجدت في الأسبوع الأول من توليتي شئونها أني أفهمها وأديرها إدارة خبرة ودراية، وأن الاستقامة في إدارة شئون أي وزارة مع الكفاءة حتى المتوسطة هي الكفيلة بإصلاح الأداة الحكومية وجعلها أقرب إلى تحقيق مرافق البلاد ومصالح الجمهور.
أيقنت في الأشهر التي قضيتها بالوزارة أن استقامة الوزراء هي أساس الإصلاح؛ فالوزير المستقيم يشيع روح الاستقامة في نفوس موظفيه كبارا وصغارا، ومن السهل على الوزير المستقيم حتى إذا لم يكن فنيا أن يستعين بآراء الفنيين في الوزارة. وإني أعتقد أن المستوى الفني لموظفي الوزارات عندنا هو مستوى حسن وممتاز ويمكن الاعتماد عليهم في النهوض بمرافق البلاد. ولكن على الوزير أن يكون، إلى جانب استقامته، غيورا على العمل رقيبا على الموظفين، يكافئ المحسن الأمين ويجازي المسيء والمقصر منهم، وأن يكون دءوبا على الدرس والبحث وعلى جانب من الذكاء ويكفي أن يكون متوسط الفهم، وبذلك كله يفهم شئون وزارته ويديرها بنجاح وتوفيق.
بعد أن توليت الوزارة بعدة أيام ولمناسبة ذهابي إلى دار الوزارة بالقاهرة جمعت رؤساء المراقبات والإدارات وبعض كبار موظفي الوزارة وألقيت فيهم كلمة كانت وحي اللحظة. قلت لهم فيما قلت: «لقد دخلت الوزارة لأول مرة وأنا لا أملك إلا سمعتي وماضي الطويل، وقد جعلت سمعتي وتاريخي وديعة في أيديكم، فأنتظر منكم أن تحافظوا على هذه الوديعة.» فكان لهذه الكلمة العابرة أثر عميق في نفوسهم ولاحظت هذا الأثر باديا على وجوههم.
ومن الحق أن أقول إني، في الفترة التي توليت فيها هذه الوزارة، وجدت كبار موظفيها ومتوسطيهم وصغارهم قد عاونوني بصدق وإخلاص، وحافظوا فعلا على الوديعة التي ائتمنتهم عليها. وكانوا يرون مني أني في عملي لا أريد إلا الحق ورعاية مصالح الجمهور، ولا أريد لنفسي مغنما، لا في الحاضر ولا في المستقبل. وكنت ألمح من طريقة عرضهم لشئون الوزارة وطريقة إبداء آرائهم في المسائل التي تستدعيها هذه الشئون أنهم يتوخون تلبية رغبتي في الوصول إلى الحق. وكانوا يرون من مناقشتي لهم أني أدرس مذكراتهم وآراءهم بروح الفحص والتدقيق، وأني رغم ميلي إلى الطيبة لا أتساهل في كل ما له علاقة بالصالح العام. فكان هذا حافزا لهم إلى توخي هذا الصالح. ومن الحق أن أقول أيضا إن أحدا منهم لم يحاول أن يدخل الغفلة علي.
لم أدخل الحزبية ولا الميول الشخصية في أعمالي ولا في معاملتي للموظفين، بل كنت أنظر إليهم جميعا بعين العدل والمساواة؛ فمن كان له حق يناله، ومن لم يكن له حق لا أعطيه ما ليس له حق فيه. قد أكون أخطأت في التقدير، كالقاضي الذي يجوز عليه الخطأ في بعض أحكامه. ولكن ما دام الحق هو رائد الإنسان فإن هذا يكفي لاستقامة الأمور التي يضطلع بها. وبهذه الروح كنت أنظر إلى ذوي المصالح وطلاب الحاجات، كنت أنظر في طلباتهم كما لو كنت قاضيا يقضي في دعاوى الناس ويعطي كل ذي حق حقه. وكثيرا ما كان يحضر لي أشخاص لهم طلبات في الوزارة ويصطحبون صديقا أو قريبا لي أو يحضرون توصيات منهم، فكنت لا أعير هذه التوصيات التفاتا ولا أعطي شخصا إلا ما أعتقد أنه حقه.
لم أعين أحدا من أقاربي أو أصهاري في الوزارة ولم أعط أحدا منهم درجة استثنائية.
صفحه نامشخص