ثم عرجت بمسألة الاحتكام وحذرت منه، وقلت في هذا الصدد: «لا يصح لنا صيانة لقضيتنا أن نعرضها كمحتكمين، ولا يصح لنا أن نلجأ إلى طريقة الاحتكام؛ لأن جوهر ما نطالب به هو الاستقلال في ذاته؛ لأن الجلاء هو الاستقلال، ولا يصح أن يكون الاستقلال موضع تحكيم، ولا توجد أمة تقبل أن يكون استقلالها موضع تحكيم. إنما يكون التحكيم في مسائل فرعية أو خلافات محلية بينها وبين بلد آخر، فتعرض الأمر على الهيئات الدولية محتكمة إليها لتفصل بينها وبين الدولة الأخرى التي يكون بينها وبينها خلاف. لقد قال الكثيرون بالاحتكام إلى محكمة العدل الدولية، ومعنى الاحتكام إليها أن نقبل قرارها، وفي هذا من الضرر ما فيه؛ ولذلك قلت إنه لا يصح الاحتكام، بل يجب أن يكون موقفنا أمام الهيئات الدولية موقف مطالبة لا موقف احتكام، يجب أن نطالب بالجلاء لأن هذا الجلاء هو حق طبيعي لنا، ولأن هناك سببا من شأنه أن يضم إلينا مجموعة الأمم وهو أن الجلاء أمر لازم للسلام العام.»
وقلت في جلسة 13 يناير سنة 1948: «إن الوقت المناسب لعرض قضية مصر على مجلس الأمن كان فبراير ومارس سنة 1946 حيث عرضت على هذا المجلس قضايا سوريا ولبنان وإيران، ولعلكم تذكرون حضراتكم أنه في هذا الوقت قد عرضت هذه القضايا على مجلس الأمن وكسبت هذه الدول قضاياها؛ إذ تقرر فيها وجوب جلاء القوات الأجنبية عنها. فاسمحوا لي أن أقول إننا تأخرنا في عرض قضيتنا على مجلس الأمن عاما ونصف عام، لقد تعطل عرض القضية لأن الحكومة لجأت إلى طريق المفاوضة.»
منع تملك الأجانب الأراضي الزراعية والعقارات
في 8 ديسمبر سنة 1948 قدمت إلى مجلس الشيوخ مشروع قانون بمنع تملك الأجانب للأراضي الزراعية والعقارات المبنية أو المعدة للبناء في المملكة المصرية. وكان غرضي من هذا المشروع صيانة الأملاك المصرية من أن تنتقل إلى الأجانب وحفظها للمصريين، وأرفقت بالمشروع مذكرة إيضاحية توضح الغرض منه وترسم خطوطه الرئيسية قلت فيها: «تحرص الأمم على حفظ كيان أملاكها الثابتة وجعل ملكيتها مقصورة على المواطنين؛ لأنها بوصف كونها ثابتة لا منقولة تعتبر ملتصقة بأرض الوطن بل هي جزء منه؛ ومن ثم تمنع الحكومات تملك الأجناب لها حفظا لكيان الوطن ذاته. ولقد سارت مصر على هذه القاعدة إلى منتصف القرن التاسع عشر؛ إذ كانت قوانينها المقتبسة من قوانين تركيا وقتئذ لا تجيز التصرف للأجانب في الأراضي والعقارات، وكانت هذه حجة الخديو إسماعيل في معارضة شروط الامتياز التي نالتها شركة قناة السويس في عهد سعيد باشا وحصلت بمقتضاها على ملكية رقعة واسعة من الأراضي المصرية، ولكن مصر تحللت من هذه القيود وجعلت حق الملكية العقارية عاما للمواطنين والأجانب على السواء، فانتقلت على تعاقب السنين ملكية جزء كبير من الأراضي إلى الأجانب أفرادا وشركات. فبحسب إحصاء سنة 1946 يتبين أن مجموع الأراضي الزراعية في المملكة المصرية تبلغ 5903143 فدانا منها 357192 فدانا يملكها الأجانب عدا ما لهم من حقوق عقارية على جزء كبير من الأراضي المملوكة للمواطنين. ومما يستوقف النظر في هذا الإحصاء أن الملكية الزراعية التي يزيد نصابها على ألفي فدان يبلغ عدد ملاكها 35 مالكا «عدا الوقف» منهم ثمانية عشر من المصريين ومجموع ما يملكونه 54882 فدانا، وسبعة عشر من الأجانب ومجموع ما يملكونه 114607 فدانا؛ أي إن كبار ملاك الأجانب يملكون أكثر من ضعف ما يملكه كبار الملاك المصريين؛ ولهذا الوضع من الدلالة ما لا يخفى.
وفضلا عن أن في انتقال ذلك الجزء الكبير من الأملاك الثابتة إلى أيدي الأجانب خطرا على الكيان القومي، فليس معروفا إلى أي مدى يستفحل هذا الخطر في المستقبل إذا ترك انتقال الملكية العقارية إلى الأجانب مطلقا من كل قيد.
فالتطورات الاقتصادية والمالية، والوسائل الاستغلالية، قد تتنوع وتغري الملاك المصريين بمختلف الأساليب بالتصرف في أملاكهم للأجانب إذا لمحوا بريقا من الكسب الوقتي، ولو كان بريقا خداعا لا يلبث أن يكون سرابا. فعلى الدولة أن تحتاط لكيان الملكية العقارية وتضع من القوانين ما يمنع تسربها إلى أيدي الأجانب أفرادا أو شركات. وليست هذه القوانين بدعا في التشريع؛ فإن معظم الدول حتى العظمى التي لا يخشى على كيانها الاقتصادي تسير على هذا الوضع، إما بمقتضى قوانينها أو بموجب الأمر الواقع بحيث لا ترخص للأجانب بامتلاك أملاك ثابتة في بلادها، ويكفي لمن يريد أن يتثبت من هذه الحقيقة أن يجرب طلب شراء أرض زراعية أو عقارات مبنية في أي بلد من هذه البلدان فإنه يصطدم حتما بقوانين تحظر تملك الأجنبي لشيء منها أو يرفض طلبه بحكم الأمر الواقع المعمول به في هذه البلاد.
فهذه الحماية للملكية العقارية في الدول المتحضرة هي التي يستوحي منها المشروع المعروض على هيئة المجلس أحكامه ونصوصه.
وليس في هذا المشروع مساس بالحقوق المكتسبة للأجانب؛ فإنه لا يسري على ما يملكونه قبل أن يصير قانونا بل يبقى ملكا لهم، ولا يسري كذلك على ما يئول إليهم بعد صدوره بطريق الإرث، وبذلك تصان الحقوق المكتسبة للأجانب من كل وجه.
هذا إلى أنه قد قصر الحظر بالنسبة لأراضي البناء والعقارات المبنية على المخصصة منها للسكن، فأباح بذلك تملك الأجانب لهذا النوع من الأملاك الثابتة إذا كان الغرض منها إقامة المصانع أو المتاجر. وقد روعي في هذا التمييز ألا يضيق التشريع مجال النشاط الاقتصادي الصناعي والتجاري والمالي في البلاد إذا ساهمت فيه رءوس أموال أجنبية؛ ففي هذه الحالة لا يسري الحظر الوارد في المشروع لأن الأصل فيه أن يقتصر على الأملاك الثابتة دون المنقولة. ولما كانت المنشآت الصناعية والتجارية لا تعد من الأملاك الثابتة فلا تدخل ملحقاتها العقارية في مدلول الأملاك المقصودة بالحماية التشريعية؛ لأن هدف المشروع إنما هو حماية الملكية الملتصقة أصلا وحكما بأرض الوطن والتي تعد جزءا لا يجوز أن ينفصل عنه.
ولقد سبق للمشرع المصري أن أخذ بهذه الحماية ولكن في دائرة ضيقة؛ إذ حظر في المرسوم بقانون رقم 111 لسنة 1945 على كل شخص طبيعي أو معنوي أجنبي الجنسية أن يمتلك بأي طريق كان غير الإرث عقارا كائنا بأحد المناطق التي تقوم على إدارتها مصلحة الحدود، ويسري الحظر في هذا المرسوم على كل وقف على أجنبي وتقرير حقوق عينية له.
صفحه نامشخص