وفي سنة 1922 أخرجت كتاب «الجمعيات الوطنية» كمقدمة لدراسة الحركة القومية، ومرت الأيام والسنون والمشروع لا يزال في حيز التحضير والتفكير، أتهيب تنفيذه خشية عدم إمكاني إخراج حلقاته كلها حلقة بعد أخرى، وأخذت أؤجل وأسوف، إلى أن أبعدت عن الحياة البرلمانية سنة 1926 وانقطعت صلتي بها وأصبحت «عاطلا» من العمل الذي أعددت نفسي له منذ صباي.
فماذا تراني أفعل؟ أأسترسل للهموم وخيبة الأمل؟ أم أغير مسلكي في الحياة وأفهمها على حقيقتها كما يقولون؟ أم أنصرف عن خدمة الشعب ما دام قد خذلني وصارحني بأنه لا يريدني معبرا عن آماله مدافعا عن حقوقه وأهدافه؟
كل هذه التخيلات لم تقبلها نفسي؛ إذ ما ذنب الشعب؟ أليس هو مسوقا بقادته وزعمائه وكبرائه وذوي النفوذ فيه، متأثرا ببعض الحوادث التي تنتابه دون أن تكون له إرادة في وقوعها؟ وكثير منها قد تضل في غمراتها العقول والأفهام؟
كان لا بد لي من عمل يشغلني ويستأثر بذهني فلا يدع لي مجالا للتفكير في سواه، وبذلك تتضاءل في نفسي صور الحوادث التي همتني وآلمتني ولا يبقى في ذهني مجال للبحث في تغيير مسلكي في الحياة ونظراتي إليها. فاعتزمت أن أنقطع إلى جانب عملي في المحاماة لتنفيذ الفكرة التي كانت تعاودني من سنة إلى أخرى، وهي تأريخ الحركة القومية لمصر الحديثة، وقد اقتضى مني هذا العمل أن أتفرغ له تفرغا شاملا لأن تأريخ هذه الحركة - منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى اليوم - أمر يكتنفه كثير من الصعوبات وخاصة لمن يريد أن يتفهم الحوادث ويتحرى الحقائق فيما يكتب ويدون.
وإذ رجعت بالدور الأول من أدوار الحركة القومية إلى المقاومة الأهلية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر، فقد اقتضاني هذا الوضع أن أتعمق في دراسة حالة البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية قبل هذه الحملة وفي أثنائها، وأن أجعل الكتاب شاملا لتاريخ مصر القومي الحديث منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى اليوم، مبحوثا ومعروضا على ضوء الحركة القومية؛ لأن عقيدتي أن التاريخ الحقيقي للأمم هو تاريخ نهضاتها القومية فهي أساس وجودها ومبعث تطورها. وازددت اعتقادا مع الأيام والأعوام بالتلازم التام بين تاريخ الأمة وتاريخ نهضتها، ومن هذا التلازم يتألف التاريخ القومي، والنهضة القومية هي معالم لهذا التاريخ وينبوعه الفياض، وما التاريخ القومي إلا كالمرآة تنطبع عليها صور النهضة وأطوارها، وحوادثها وأبطالها، وتقدمها وتراجعها، وأفراحها وأحزانها، وآمالها وآلامها.
وقد تشعبت أمامي المراجع التي تبلغ مئات الكتب والمؤلفات والتقارير والمذكرات وما إلى ذلك في كل مرحلة، بل في كل موضع من مواضع البحث، وكان لا بد لي أن أدرسها كلها، وهذا يقتضي فوق الجهد والعناء صبرا وجلدا، على أني أحمد الله على أن وفقني إلى كليهما. (1) ظهور الجزء الأول (1929)
ظهر الجزء الأول من هذا التاريخ في أول يناير سنة 1929؛ أي إنني سلخت نحو ثلاث سنوات في إخراجه منذ شرعت في تنفيذ الفكرة، وعدة سنوات سابقة منذ خالجتني كأمل أبتغي تحقيقه.
بدأت في طبع هذا الجزء يوم 10 يونيو سنة 1928 في مطبعة النهضة لصاحبها المرحوم محمود أفندي حمادة بشارع عبد العزيز، وكان رجلا أمينا مستقيما، وكنت أعرفه منذ كان رئيسا لمطبعة جريدة «الأخبار» في عهد أخي المرحوم أمين بك، وأنجز طبعه وتغليفه (تجليده) في أواخر ديسمبر سنة 1928.
يشتمل هذا الجزء على دراسة نظام الحكم في عهد المماليك، والحالة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد قبل مجيء الحملة الفرنسية، ثم أسباب هذه الحملة ومقدماتها ووقائعها وأحداثها الأولى، ووقائع المقاومة الأهلية التي اعترضتها في مختلف أنحاء البلاد من الإسكندرية إلى أسوان، ونظم الحكم التي أسسها نابليون وأثرها في تطور الحوادث، وتاريخ مصر القومي في هذا العهد. (2) الجزء الثاني
وفي أواخر ديسمبر سنة 1929 أخرجت الجزء الثاني، مشتملا على تاريخ مصر القومي من إعادة الديوان في عهد نابليون إلى جلاء الفرنسيين عن البلاد، ومن جلاء الفرنسيين إلى ارتقاء محمد علي الكبير أريكة مصر يوم 13 مايو سن 1805، وجعلت ولايته الحكم ثمرة من ثمرات الحركة القومية، وأوضحت على ضوء الوقائع أن العامل القومي الذي بدأ يظهر على مسرح الحوادث السياسية خلال الحملة الفرنسية ظل محتفظا بقوته بعد جلاء الفرنسيين، فلم يستطع الترك ولا المماليك ولا الإنجليز أن يهزموه أو يقهروه أو يبعدوه عن الميدان، وكان من نتائجه بعد انتهاء الحملة الفرنسية ثورة الشعب على حكم المماليك، ثم على الوالي التركي، ثم المناداة بمحمد علي واليا مختارا على مصر؛ فمصر هي التي خلقت محمد علي، وفي ذلك قلت عن يوم 13 مايو سنة 1805: «هذا هو اليوم المشهود الذي تولى فيه محمد علي باشا حكم مصر بإرادة الشعب، وهو من الأيام التاريخية المعدودة في تاريخ الحركة القومية؛ ففيه تم انقلاب عظيم في نظام الحكم، فيه وضعت مصر لنفسها أساس حريتها واستقلالها، فيه أعلنت عن حقها في تقرير مصيرها، فيه تجلت سلطة الأمة ممثلة في أشخاص زعمائها وذوي الرأي فيها، تجلت سلطة الأمة في خلع الوالي الذي لم ترتض حكمه وإسناد ولاية الأمر إلى من انتخبه زعماء الشعب ووكلاؤه. وتلك أول مرة في تاريخ مصر الحديث يعزل الوالي ويختار بدله بقوة الشعب وإرادته؛ فقد كان الولاة يعزلون بقوة الجند وإرادة رؤسائهم من المماليك، لكن هذه المرة كان الانقلاب شعبيا فوقع بإرادة الشعب وبقوة الشعب، ثم انتخاب محمد علي للولاية على الرغم من صدور الفرمان السلطاني بإسناد ولاية «جدة» إليه . وكان معروفا أن الحكومة التركية تؤيد خورشد باشا وتناصره في موقفه، فخلع خورشد وانتخاب محمد علي واليا على مصر فيه معنى الاستقلال عن الحكومة التركية ومقاومة تدخلها في حكم مصر. ويمتاز هذا الانقلاب بأنه لم يكن مقصورا على مجرد انتخاب وكلاء الشعب لولي الأمر، بل كان مقرونا باشتراطهم أن يرجع إليهم في شئون الدولة، فوضعوا بذلك قاعدة الحكم الدستوري في البلاد. وثمة ميزة أخرى أكسبت ذلك الانقلاب بهاء وجلالا، ذلك أنه تم في دار المحكمة، في ساحة القضاء، فاتخذ معنى الاحتكام إلى العدالة والتمسك بالحق، وهي فكرة جليلة امتازت بها الثورة المصرية، ولا نظن ثورة أخرى غربية أو شرقية تسامت إلى هذا المعنى البديع. فالثورة إذا كان قوامها المطالبة بالحق والاحتكام إلى العدل، كان أساسها الحق ومن ورائه قوة الشعب تسنده وتؤيده، وما أحوج الثورات والحركات القومية إلى أن تحافظ في كل أدوارها على معاني الحق والعدل والنزاهة؛ فإنها بذلك تسلم من الانحدار في مهاوي الرذيلة والفساد والفوضى والطغيان.» (3) عصر محمد علي
صفحه نامشخص