كان لهذا الإضراب تأثير كبير في نفسي، يعدل تأثير نادي المدارس العليا؛ إذ كان بداية اتصالي الروحي الوثيق بالزعيم مصطفى كامل.
في يناير سنة 1906 وضعت وزارة المعارف نظاما لمدرسة الحقوق كان الغرض منه استفزاز شعور الطلبة والتضييق عليهم ومعاملتهم بنظام المدارس الابتدائية، وقد يكون لتظاهرهم بالشعور الوطني دخل في وضع هذا النظام إذلالا لهم وكبحا لجماحهم، فما إن علمنا به حتى قررنا الإضراب احتجاجا عليه. وأضربنا فعلا عن الدراسة في فبراير، وكانت طلباتنا العدول عن النظام الذي وضعته الوزارة والرجوع إلى النظام القديم.
لم يكن إضرابنا خروجا على النظام، ولا رغبة في التعطل عن الدراسة، أو التسكع في الشوارع، أو سعيا لمطالب مادية شخصية، بل كان مظهرا من مظاهر المقاومة الوطنية لسياسة الاحتلال في التعليم.
كان هذا الإضراب هو الأول من نوعه في مصر؛ لأنه شمل مدرسة عالية بأسرها، وكان موجها ضد سياسة التعليم التي وضعها الاحتلال، وقد تدخل اللورد كرومر (المعتمد البريطاني) في شأنه وأمر وزارة المعارف بأن تأخذ الطلبة بالشدة، فأعلنت تعطيل الدروس في المدرسة من يوم 26 فبراير سنة 1906 حتى يوم السبت 3 مارس، وأنذرتنا بأن من يتأخر عن الحضور في ذلك اليوم يفصل من سلك التلاميذ. وكان للإضراب لجنة تقوم على تنظيمه، فاجتمعت على عجل للنظر في هذا الإنذار. وتدخل المستشار القضائي البريطاني السير مالكولم ماكلريث في الأمر، وكان يعطف على الطلبة (بعكس المستر دنلوب) فوعدهم بالنظر في طلباتهم على شرط أن يعودوا إلى الدراسة، فاتفق الطلبة رأيا على الرجوع إلى المدرسة يوم السبت 3 مارس سنة 1906، وكان لهذه العودة أثرها في نفوسنا، وكان فيها معنى الرضوخ والإذعان، فزادتنا سخطا على الاحتلال وسياسته. وأراد اللورد كرومر تثبيت مركز المستر دنلوب - وكان إلى ذلك الحين سكرتيرا عاما لوزارة المعارف، وعليه تقع مسئولية الإخلال بنظام التعليم الذي أدى إلى الإضراب - فرقي مستشارا للوزارة في مارس سنة 1906 مكافأة له على أخذه الطلبة بالشدة.
وكتبت مقالة عن هذا الإضراب، ذهبت بها إلى مصطفى كامل يوم رجوعنا إلى الدراسة، وكانت لهجتها شديدة ضد الاحتلال، فقرأها الزعيم وأثنى علي، ولكن فهمت من حديثه أنه لا يرى نشرها، حرصا على مستقبلي، وكانت هذه المقالة (التي لم تنشر) بدء مراسلتي للصحف. (11) حادثة دنشواي سنة 1906
وقعت حادثة دنشواي في 13 يونيو سنة 1906، فزادتني سخطا على الاحتلال وتعلقا بالحركة الوطنية.
كنت عام وقوعها طالبا بالسنة الثانية بمدرسة الحقوق، وكنت أطالع أنباءها في «اللواء»، فأدهش لمخالفة منهج التحقيق والمحاكمة فيها لما كنا نتلقاه من أصول المحاكمات الجنائية التي تقضي بها القوانين، وتساءلت: ما فائدة ما نتلقاه من الدروس والقواعد القانونية إذا كانت لا تنطبق على الناس كافة. ولما تلوت وصف تنفيذ الحكم في «اللواء» بقلم الأستاذ أحمد حلمي أحد محرريه، اقشعر بدني من هول ما قرأت، وأدركت مبلغ هوان المصري في نظر الاحتلال، وتحققت ألا كرامة لأمة ولا لأي فرد من أبنائها بغير الاستقلال، وحفزتني هذه الحادثة إلى أن أخصص حياتي للجهاد في سبيل الاستقلال. (12) وفاة مصطفى كامل سنة 1908
كنت في السنة النهائية لمدرسة الحقوق لما فجعنا بوفاة مصطفى كامل يوم الاثنين 10 فبراير سنة 1908، ويا لها من لحظة رهيبة حين فوجئنا بنعيه ونحن في المدرسة، فقابلناه بالذهول والوجوم، وفاضت دموعنا حزنا وأسى على الزعيم الذي كان لنا إماما وطنيا وأبا روحيا. وفي غمرة الذهول الذي أصابنا من هول الكارثة تباحثنا فيما يجب علينا عمله إظهارا لشعورنا، فقررنا بالإجماع اعتبار يوم تشييع جنازة الزعيم يوم حداد عام تعطل فيه المدارس جميعها ويشترك طلبتها في تشييع الجنازة، واتصلنا بالمدارس العليا والثانوية، فرأينا من طلبتها نفس هذا الشعور ونفس هذا الإجماع، واتخذوا نفس القرار الذي اتخذناه، واشتركنا في الجنازة، وكنت ممن حملوا النعش ضمن طلبة الحقوق الذين ندبوا لذلك من قبل جميع طلبة المدارس العليا. وكان لهذا اليوم في نفسي أثر لم تمحه الأيام والأعوام؛ فلقد طبع في قلبي مبادئ الزعيم فصارت عقيدتي الوطنية. وإلى هذه الصلة الروحية أشرت في كتابي عن «مصطفى كامل» سنة 1939؛ إذ قلت في إهدائي الكتاب إليه: «إلى من كانت حياته للأمة بعثا وطنيا، من كان لي أبا روحيا، وسأبقى له تلميذا وفيا، من علمني أن الحياة بغير المثل العليا عرض زائل وعبث ضائع، إلى مصطفى كامل أهدي كتاب «مصطفى كامل» هدية الوفاء إلى روحه العظيمة.» (13) صلتي بمحمد فريد
إني إذ أعد نفسي تلميذا لمصطفى كامل، فإني كذلك تلميذ لمحمد فريد، بل إن صلتي بفريد كانت أطول مدى من صلتي بمصطفى؛ فإني لم أدرك مصطفى كامل إلا في أوقات محدودة حين كنت أستمع لبعض خطبه أو أقابله في «اللواء» منذ سنة 1906 مرات معدودة، أما فريد فقد اتصلت به عن كثب وعملت معه تحت لوائه سنين عديدة.
كنت سنة 1908 لم أتخرج بعد من مدرسة الحقوق حين تولى فريد بك زعامة الحركة الوطنية، وكنت أتردد عليه كثيرا في «اللواء»، وتلقيت عنه مبادئ الوطنية كما تلقيتها من قبل عن مصطفى، فصادفت من نفسي موضع العقيدة والإيمان، واتخذته بعد مصطفى أستاذا وإماما لي في الوطنية، وبدأت أكتب في اللواء على عهده وأنا طالب بمدرسة الحقوق. (14) أول مقالة لي في الصحف سنة 1908
صفحه نامشخص