قبل موعد الخروج من البنك زارني في مكتبي الصديق علي يوسف وألح علي في أن أقرضه شيئا من المال لأنه دعا بعض زملائه إلى نزهة خلوية، ولذلك يحتاج إلى كذا من»الفلوس»!! فأعطيته ما طلب ... وأنا أحمد الله على «زحلقته» وأدعو بطول العمر لأصدقائه أولئك الذين شغلوه عني في هذا الظرف السعيد. وودعت أبا يوسف إلى الباب وعدت إلى مكتبي مطمئنا. وفي الموعد المحدد قصدت إلى محطة سكة الحديد فوجدت «الكتكوتة» على أحر من الجمر في انتظاري على رصيف القطار الذي امتطيناه وقلوبنا ترقص فرحا.
وسار القطار بنا ينهب الأرض نهبا ونحن نحلم بالسعادة التي سترفرف علينا بأجنحتها في الثغر الباسم!
ووصل بنا القطار إلى الإسكندرية فنزلنا نسير وخلفنا «الشيال» يحمل حقيبتنا «المشتركة» وما كدت أسير خطوات متأبطا ذراع المحبوبة، حتى برز أمامي عزرائيل! في ثياب الصديق الملعون ... علي يوسف!! لقد اقترض اللعين مالي ... واشترى منه تذكرة السفر وجاء معنا في عربة أخرى بالقطار نفسه، وراح يستقبلنا هاشا باشا مرحبا، وهو يمد يده لي بالتحية شاكرا إياي على قيامي بدفع نفقات السفر، لحضرته ولحضرة بسلامتها «الست المصونة والجوهرة المكنونة» ... التي استلبها مني وتركاني أعض بنان الندم ... ولات ساعة مندم!!
أصارحك أيها القارئ الحبيب بأن الدنيا أظلمت في عيني في تلك اللحظة. وأحمد الله إذ كنت خلوا من السلاح. ولم أكن أحمل حتى ولا سكينة البصل، فأغسل بها الشرف الرفيع من الأذى!! وذهب العاشقان بينما ظللت واقفا في مكاني، حتى دنت ساعة القطار العائد إلى مصر فامتطيته وجئت أضرب أخماسا في أسداس!!
أحببت الدرام
ولنعد إلى غرامي بالتمثيل.
لم أكن في هذا الوقت أميل للكوميدي، بل كانت كل هوايتي منصبة على الدرام وحده. وكم كنت أستظهر قصائد هيجو وأشعار المتنبي ولزوميات أبي العلاء المعري، ثم أخلو بنفسي في المنزل، وهات يا إلقاء، وخذ يا تمثيل، حتى ضجت والدتي وكاد «يهج» من البيت إخوتي. ومع ذلك فإنني لم أكن أعبأ بمثل هذه العراقيل، وما دمت أرضي هوايتي، فبعدها الطوفان. وفي سنة 1908 استقال الأستاذ عزيز عيد من عمله في البنك وألف فرقته التمثيلية الأولى، مشتركا مع الممثل القديم سليمان الحداد. وقد احتلت هذه الفرقة مسرح إسكندر فرح بشارع عبد العزيز. وكانت رواياتها تترجم عن الفرنسية وكلها من نوع الفودفيل، ولعل القراء الأفاضل لم ينسوا بعد روايات «ضربة مقرعة» و«الابن الخارق للطبيعة» و«عندك حاجة تبلغ عنها» و«ليلة زفاف». وهذه الأخيرة ترجمها الأديب الكبير إلياس فياض.
وقد كنت بحكم ارتباطي برابطة الزمالة مع الأستاذ عزيز في البنك عضوا في الفرقة، وكانت تسند لي في هذه الروايات أدوار ثانوية صغيرة. ولم يكن هذا ليضيرني لأني - كما قلت - لم أكن أميل لهذا النوع إطلاقا.
وهنا كان إهمالي لعملي في البنك قد بلغ حدا لا يحتمله أحد والشهادة لله. فكم من ساعات بل أيام كنت أتغيبها وكم من ممثلة كانت تقتحم علي مكتبي في البنك - وخصوصا منية القلب الست «ص!».
ولم تجد إدارة البنك إزاء هذه الحالات الصارخة إلا أن تستغني عن عملي. وأي عمل يا حسرة؟ هو أنا كنت باشتغل؟!
صفحه نامشخص