مكثنا في رحلتنا بسوريا ولبنان ثلاثة أشهر كاملة، فلما عدت إلى مصر، راعني أن أجد في انتظاري قضية مدنية رفعها ضدي المرحوم (ديموكنجس) صاحب تياترو الأجبسيانة الذي كنت أعمل فيه. وإليك موضوعها:
كان في ذمة «ديمو» لي مبلغ ستمائة جنيه كتأمين، فلما اتفقت على القيام بالرحلة تراضينا على أن أدفع له مبلغ خمسة جنيهات عن كل يوم من أيام تغيبنا في هذه الرحلة. إلا أنه انتهز فرصة غيابي فرفع هذه الدعوى مطالبا إياي بتعويض مالي لما سببته له من خسائر «بامتناعي» عن العمل في مسرحه! واخد بالك!! نهايته استمرت هذه المنازعات حوالي شهرين، وانتهت والحمد لله في مصلحتي!
وفي أوائل سنة 1922 تقدمت إلي شركة سجاير ماتوسيان تعرض مشروعا للاتفاق معها على أن تعمل فرقتي ثلاثة أشهر في الإسكندرية لحسابها. وكانت طريقة الشركة أن تضع في علب سجايرها كوبونات يستطيع الزبون أن يقدمها لعامل شباك التياترو فيحصل بواسطتها على تنزيل.
وافقت على مشروع شركة ماتوسيان بالطبع، وبدأنا عملنا في تياترو كونكورديا بالميناء الشرقي بالإسكندرية، من أول شهر مارس وانتهى في مايو. وكانت هذه المدة فرصة استطاعت السيدة بديعة في أثنائها أن تحفظ أدوارا في رواياتي القديمة التي لم تكن يد السيد أمين عطا الله قد وصلت إليها، كما أن لهجتها السورية بدأت تنقلب في هذه الأشهر الثلاثة، وعدت إلى مصر، فشعرت بشيء غير قليل من الضيق، واحتل قلبي نوع من اليأس زاد في إضرامه موت والدتي.
وكأن قسوة القدر لم تكتف بهذه الكارثة، ففجعتني بأروع منها! ذلك أن أصغر إخوتي وأقربهم إلي وأعزهم على نفسي ... بل قل إنه كان التعزية الوحيدة لي، والأمل الباسم في حياتي، هذا الشقيق المحبوب، اختفى في ذلك العام المنحوس - ومازال إلى هذه اللحظة التي أسطر فيها مذكراتي، دامع العين، مفتت الكبد جريح الفؤاد، أقول مازال شقيقي هذا مجهول المصير مني ومن محبيه وأصدقائه - ولم تكن منزلته لديهم لتقل كثيرا عنها لدي فاللهم صبرا جميلا.
وبعد أن انتهت مدة الثلاثة أشهر التي اتفقنا فيها مع شركة سجاير «ماتوسيان» للعمل بتياترو «كونكورديا» بالإسكندرية، تقدم إلي متعهد يعرض علي أن تقوم الفرقة إلى سوريا مرة أخرى في رحلة فنية، ويسوؤني أن أقول إنها لم تكن أحسن حظا من سابقتها، خصوصا وقد لقيت في أثنائها من تعنت الممثلين الشيء الكثير.
يوسف وهبي وعزيز عيد
عاد إلي إذ ذاك فتوري القديم، وكدت أيأس من مواصلة العمل، لولا خبر نما إلي وأنا في ربوع لبنان.
أما الخبر فهو أن الأستاذين يوسف وهبي وعزيز عيد قد عادا من إيطاليا، وقررا تأليف فرقة يهيئان لها مسرحا في شارع عماد الدين.
ولقد كان مجرد علمي بذلك باعثا لي على إشعال جذوة النشاط في نفسي، فعقدت العزم على العودة إلى مصر وموالاة العمل فيها، مهما كانت الأحوال ومهما حكمت الظروف.
صفحه نامشخص