وكان أبو العلاء كثيرًا ما تُستغرب له الألفاظ، ويُسأل عنها فيجيب بأسرع جواب، على نحو ما يحكى عن أبي عمر الزاهد المطرز غلام ثعلب١، ولولا أن أبا العلاء كان كثير المَزْح لحُمل على التصديق في كل ما يأتي به من ذلك، وقد ظهر صدقه في بعض ما قال؛ فمما يحكى عنه من هذا المعنى أنه دخل على المنصور يومًا وفي يد المنصور كتاب ورد عليه من عامل له في بعض البلاد اسمه ميدمان بن يزيد، يذكر فيه القلب والتزبيل٢، وهذه عندهم أسماء لمعاناة الأرض قبل الزرع، فقال له: أبا العلاء! قال: لبيك مولانا! قال: هل رأيت فيما وقع إليك من الكتب كتاب القوالب والزوابل لميدمان بن يزيد؟ قال: إي والله يا مولانا؛ رأيته ببغداد في نسخة لأبي بكر بن دُرَيد٣ بخط كأكرع النمل في جوانبها علامات الوضاع هكذا هكذا ... فقال له: أما تستحي أبا العلاء؟ هذا كتاب عاملي ببلد كذا وكذا، واسمه كذا، يذكر فيه كذا -الذي تقدم ذكره-، وإنما صنعت لك هذه الترجمة مولدة من هذه الألفاظ التي في هذا الكتاب، ونسبتُه إلى عاملي لأختبرك! فجعل يحلف له أنه ما كذب وأنه أمر وافق.
وقال له المنصور مرة أخرى وقد قُدم طبق فيه تمر: يا أبا العلاء، ما التَّمَرْكُل في كلام العرب؟ قال: يقال: تمركل الرجل تمركلًا: إذا التف في كسائه!.
وله من هذا كثير، ولكنه مع هذا كان عالمًا.
قال أبو عبد الله الحميدي: حدثني أبو محمد علي بن أحمد قال: حدثني الوزير أبو عبدة حسان بن مالك بن أبي عبدة٤، عن أبي عبد الله العاصمي النحوي قال:
لما قدم صاعد بن الحسن اللغوي على المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر، جمعنا معه، فسألناه عن مسائل من النحو غامضة فقصَّر فيها، فلما رآه ابن أبي عامر
_________
١- هو محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم، أبو عمر الزاهد المطرّز الباوَرْدي، المعروف بغلام ثعلب: إمام في اللغة، مصنف، كان يعمل بتطريز الثياب، وأكثر من مصاحبته لثعلب النحوي، فعُرف بـ" غلام ثعلب". توفي سنة ٣٤٥هـ/٩٥٧م. "شذرات الذهب، ابن العماد الحنبلي: ٢٩٧/٣".
٢- زَبَل الأرض: سمَّدها بالزِّبْل، وهو السرجين وما أشبهه.
٣- هو أبو بكر، محمد بن الحسن بن دريد الأزدي القحطاني: من أئمة اللغة والأدب. ولد في البصرة، وتوفي سنة ٣٢١هـ/٩٣٣م. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: ١٩٥/٢".
٤- من أئمة اللغة والأدب، ومن أهل بيت جلالة ووزارة. روى عن القاضي أبي العباس أحمد بن ذكوان، وحدث عنه أبو محمد علي بن حزم. توفي قبل سنة ٤٢٠هـ. "بغية الملتمس، الضبي: ٢٧٠".
1 / 34