فلا يزال يعيده حتى يغلبه النوم، وكان أبو حنيفة -على ما اشتهر عنه- يحيي الليل كله صلاة، فلما كان في بعض الليالي فقد صوت ذلك الرجل، فقال لبعض من عنده: ما فعل جارنا هذا الذي كان يغني كل ليلة؟ أهو مريض أم غائب؟ فقالوا له: إنه مسجون! فقال: ومن سجنه؟ فقالوا: خرج في الليل لبعض حاجته فلقيه أصحاب عيسى بن موسى صاحب الشرطة، فأتوا به فأمر بسجنه؛ فلما أصبح أبو حنيفة لبس ثيابه وركب دابته وقصد عيسى بن موسى في بيته، فلما أُعلم عيسى بمكان أبي حنيفة خرج يتلقاه مسرعًا، وبالغ في تكريمه وبره، وسأله عن حاجته، فقال: لي في سجنك جار اسمه عمرو، فقال عيسى: يُطلق كل من كان اسمه عمرو بسجني من أجل جار الفقيه! فأطلقه وخلقًا كثيرًا معه؛ فأتى الرجل أبا حنيفة يتشكر له، فلما وقعت عينه عليه قال له: أضعناك؟ قال الرجل: لا والله، بل حفظت الجوار -حفظك الله-!
والبيت الذي نظمه أبو عمر وكان يغني به الرجل جار أبو حنيفة، هو للعَرْجي١، رجل من ولد عثمان بن عفان٢، سجنه المغيرة خال هشام بن عبد الملك٣ وعامله على مكة، فلم يزل بسجنه إلى أن مات وخرجت جنازته من السجن.
ولأبي عمر هذا شعر كثير جيد، وهو من الطبقة الثالثة من طبقات شعراء الأندلس؛ فمما على حفظي له أول قصيدة يمدح بها أبا علي القالي٤ المتقدم الذكر٥، وهي: من الكامل
مَنْ حاكمٌ بيني وبين عذولي ... الشَّجْوُ شجوي والعويل عويلِي٦
_________
١- هو أبو عمر، عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي القرشي، المعروف بالعرجي: شاعر غزل مطبوع، ينحو في شعره ومغامراته منحى عمر بن أبي ربيعة، وأكثر شعره في الغزل.
توفي نحو ١٢٠هـ/ نحو ٧٣٨م. "الأغاني، الأصفهاني: ٣٦٢/١".
٢- هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، المعروف بذي النورين: ثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة. ولد ونشأ بمكة، وتوفي سنة ٣٦هـ/٦٥٦م. " شذرات الذهب، ابن العماد الحنبلي:٤٠/١".
٣- هو هشام بن عبد الملك بن مروان: خليفة أموي. ولد في دمشق، وبويع بالخلافة بعد وفاة أخيه يزيد، وتوفي سنة ١٢٥هـ/٧٤٣م. "الأعلام، الزركلي: ٨٦/٨".
٤- هو أبو علي، إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون القالي: لغوي، شاعر، أديب. دخل قرطبة في أيام عبد الرحمن الناصر واستوطنها. توفي سنة ٣٥٦ هـ/٩٦٧م. "بغية الملتمس، الضبي: ٢١٦".
٥- من المحتمل أن يكون المؤلف قد ذكر القالي عند الحديث عن ولاية عبد الرحمن الناصر، الذي كان أميرًا على الأندلس وقت وصول القالي إليها.
٦- العذول: الكثير العذل، وقد عذله عَذْلًا وتعذالًا: لامه. الشجو: الحزن. العويل: حرارة الحزن والحب من غير نداء ولا بكاء، أو هو رفع الصوت بالبكاء والصياح.
1 / 28