مُعْجَمُ أَصْحَابِ
شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيميّةَ
كَتَبَهُ
وليدُ بنُ حُسْنِي بنِ بَدَوِي بنِ مُحَمَّدٍ الأُمَوِيِّ
غفر الله له ولوالديه ولمشايخه وللمسلمين
1 / 1
المُقَدِّمَةُ
1 / 2
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه تراجم موجزة لأصحاب الإمام الهمام وشيخ مشايخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية النميري الحراني، قامع المبتدعين وآخر المجتهدين، اقتبستها من مجامع تراجمه ﵀ وتراجم الأعيان الذين عاصروه ونهلوا من علمه، واتبعوا طريقته، وسلكوا سلوكه، وشرطي في هذا المعجم الذي أسميته (معجم أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية) أن أترجم للرجل، ذاكرًا شيئًا من سماعه العلم وطلبه له وثناءه على الشيخ ابن تيمية أو حكايته عن حاله على وجه مختصر موجز، وجعلت الخيار لنفسي في ذكر مصنفاته وكتبه أو عدمه.
وقد اعتمدت في ذلك على تراجم الشيخ ﵀ المشتهرة وهي:
أولًا: الانتصار في ذكر أحوال قامع المبتدعين وآخر المجتهدين أحمد بن تيمية، للعلامة الإمام محمد بن أحمد ابن عبد الهادي ﵀. وقد طبع هذا الكتاب واشتهر تحت اسم (العقود الدرية في مناقب ابن تيمية) .
ثانيًا: الرد الوافر على من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر، لابن ناصر الدين محمد بن عبد الله الدمشقي.
ثالثًا: الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، للحافظ سراج الدين أبي حفص عمر بن علي البزار.
1 / 3
رابعًا: الكواكب الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، للشيخ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي.
خامسًا: القول الجلي في ترجمة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية الحنبلي، لأبي الفضل صفي الدين محمد بن أحمد البخاري.
سادسًا: الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون، وهو كتاب جمع تراجم ابن تيمية التي ترجمت له من عصره إلى عصرنا في سائر كتب التراجم، جمعه معاصران.
وكذلك اعتمدت على كتب التراجم العامة ومنها:
كتب الحافظ الذهبي:
أولًا: تاريخ الإسلام.
ثانيًا: تذكرة الحفاظ.
ثالثًا: العبر في خبر من غبر.
وكتاب البداية والنهاية لابن كثير وتفسيره، واختصاره لمقدمة ابن الصلاح.
وكتاب الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي.
والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني، وكذلك إنباء الغمر بأبناء العمر له.
والوافي بالوفيات، وأعيان العصر وأعوان النصر، كلاهما للصلاح الصفدي.
والوفيات لابن رافع، وشذرات الذهب للعماد الحنبلي.
1 / 4
وكذلك: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، والمنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، كلاهما لابن تغري بردي.
وكذلك: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي، وفوات الوفيات لابن شاكر الكتبي.
والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني، والأعلام للزركلي، وهو متأخر.
وجلاء العينين في محاكمة الأحمدين، للآلوسي، وكذلك كتب ابن قيم الجوزية عامة، وغير ذلك.
وحيثما ذكرت رسالة ابن شيخ الحزاميين الواسطي فهي المعروفة ب (التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار)، وكذلك رسالة ابن مريِّ هي رسالة تلميذه أحمد بن محمد بن مري الحنبلي إلى تلاميذ الشيخ بعد وفاته، يحضهم فيها على جمع كتبه ورسائله.
ثم جعلت قسمًا للمبهمين الذين صرح بعض أهل التراجم بصحبته لابن تيمية ولم أجد له ترجمة في ما وقعت عليه من التراجم.
وقد اجتهدت في جمع هذا الكتاب وتحقيقه ولم ألُ جهدًا في الإحاطة بموضوعه، وأحمد الله وأشكره على ذلك، وآمل أن يقابل من قارئه حمدًا لله وتسديدًا لخطإ كاتبه وإعذارًا ونصحًا واستغفارًا، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 5
(مَنْثُورَاتٌ ومُلَحٌ)
أنا الفقيرُ إلى ربِّ السماواتِ ... أنا المسيكينُ في مجموعِ حالاتي
أنا الظلومُ لنفسي وهي ظالمتي ... والخيرُ، إن جاءنا من عندِهِ ياتي
لا أستطيعُ لنفسي جلبَ منفعةٍ ... ولا عن النفسِ في دفعِ المضراتِ
وليس لي دونه مولىً يدبرُني ... ولا شفيعٌ إلى ربِّ البريَّاتِ
ولست أملكُ شيئًا دونه أبدا ... ولا شريكٌ أنا في بعضِ ذراني
ولا ظهيرٌ له كيما أعاونَهُ ... كما يكونُ لأربابِ الوِلاياتِ
والفقرُ لي وصفُ ذاتٍ لازمٍ أبدا ... كما الغنى أبدًا وصفٌ له ذاتي
وهذه الحالُ حالُ الخلقِ أجمعِهِم ... وكلُّهم عنده عبدٌ له آني
فمن بغى مطلبًا من دونِ خالِقِهِ ... فهو الجهولُ الظلومُ المشركُ العاتي
والحمدُ للهِ ملءَ الكونِ أجمعِهِ ... ما كان منه، وما من بعده ياتي
ثم الصلاةُ على المختارِ من مضرٍ ... خيرِ البريَّةِ من ماضٍ ومن آتى
(شيخ الإسلام ابن تيمية)
"ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري؛ أين رحت فهي معي، لا تفارقني:أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة"
(شيخ الإسلام ابن تيمية)
1 / 6
" ما رأيت مثله ولا رأى هو مثل نفسه وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه "
(الحافظ جمال الدين المزي)
" لم ير مثله منذ خمسمائة سنة"
(الحافظ جمال الدين المزي)
" ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير في وصفه، ومن نابذه وخالفه ينسبني إلى التغالي فيه، وليس الأمر كذلك. مع أنني لا أعتقد فيه العصمة، كلا، فإنه مع سعة عمله وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشر من البشر تعتريه حدة في البحث وغضب وشظف للخصم يزرع له عداوة في النفوس ونفورًا عنه وإلا والله فلو لاطف الخصوم ورفق بهم ولزم المجاملة وحسن المكالمة لكان كلمة إجماع فإن كبارهم وأئمتهم خاضعون لعلومه وفقهه معترفون بشفوفه وذكائه مقرون بندور خطئه"
(الحافظ شمس الدين الذهبي)
" هو أعظم من أن تصفه كلمي، وينبِّهَ على شأوه قلمي"
(الحافظ شمس الين الذهبي)
" والله ثم والله ثم والله لم أر تحت أديم السماء مثله علمًا وعملًا وحالًا وخلقًا واتباعًا وكرمًا وحلمًا في حق نفسه، وقيامًا في حق الله عند انتهاك حرماته"
(ابن شيخ الحزاميين)
1 / 7
ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية للخلق ظاهرة ... أنوارها أربت على الفجر
(ابن الزملكاني)
سُبحان من سخَّر قَلبَ الورى ... لقوله طوعًا وقد قيَّضا
قد أجمعَ النّاسُ على حُبِّه ... ولا اعتبارَ بالذي أبغضا
(صلاح الدين الصفدي)
" لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلًا العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد"
(ابن دقيق العيد)
" إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن؟ "
(شمس الدين ابن الحريري)
" ما أسلمت معارفنا إلا على يد ابن تيمية"
(أبو عبد الله محمد بن قوام)
1 / 8
" حضرت مجالس ابن تيمية، فإذا هو بيت القصيدة، وأول الخريدة، علماء زمانه فلك هو قطبه، وجسم هو قلبه، يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر، والبحر على القطر"
(أبو حفص ابن الوردي)
"ما رأينا أفتى من ابن تيمية؛ سعينا في دمه، فلما قدر علينا عفا عنا"
(ابن مخلوف المالكي)
أنتَ رَوْحُ الوجودِ في عَصْرِكَ الآ ... ـنَ وقلبُ الورى وعينُ الزمانِ
والبرايا إذا اعتبرت جميعًا ... منك أضحوْا بمنزلِ الجُثْمانِ
(ابن نجيح الحنبلي)
" لو لم يكن للشيخ تقي الدين إلا تلميذه الشيخ شمس الدين ابن القيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته"
(ابن حجر العسقلاني)
" وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحد منهم قطُّ، وكان يدعو لهم وجئت يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله، فعزاهم وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا
1 / 9
وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه"
(بعض أصحاب الشيخ)
"من قال إنه كافر فهو كافر حقيق ومن نسبه إلى الزندقة فهو زنديق"
(بدر الدين العيني الحنفي)
" والله يا فلان ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى فالجاهل لا يدري ما يقول وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به ".
(ابن سوار السبكي)
لما أتينا تقيَ الدينِ لاحَ لنا ... داعٍ إلى الله فردٌ ما له وَزَرُ
على محياهُ من سِيمَا الأولى صَحِبُوا ... خيرَ البريةِ نورٌ دونه القَمَرُ
حبرٌ تَسَرْبَل منه دَهْرَهُ حِبَرا ... بحرٌ تقاذفُ من أمواجِهِ الدُرَرُ
قام ابنُ تيميةَ في نَصْرِ شرعتِنَا ... مقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذ عَصَتْ مُضَرُ
فأظهر الحقَ إذ آثارُهُ دَرَسَتْ ... وأخمدَ الشرَّ إذ طارتْ لَهُ الشَّرَرُ
كنَّا نحدِّثُ عن حَبْرٍ يجيء فها ... أنت الإمامُ الذي قد كان يُنْتَظَرُ
(أبو حيان النحوي)
1 / 10
(مِنْ كَلِمَاتِ الشَّيْخِ الذَّهَبِيَّةِ)
(مُسْتَلَّةٌ مِن كُتُبِ تِلْمِيذِهِ ابنِ القَيِّمِ)
أ- " إنَّ في الدُّنيا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَنْ يَدْخُلَ جَنَّةَ الآخِرَةِ ". (الجواب الكافي لابن القيم) .
ب- " بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين" (مدارج السالكين) .
ت- "الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟ ". (الوابل الصيب لابن القيم) .
ث- " لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر" (الوابل الصيب) .
ج- " ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري إن رحت فهي معي لا تفارقني إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة" (الوابل الصيب) .
ح- "المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى والمأسور من أسره هواه" (الوابل الصيب) .
خ- " تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة، فتولد بينهما خسران الدنيا والآخرة " (مدارج السالكين) .
د- "ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين" (الوابل الصيب) .
ذ- "فضل عموم الدعاء على خصوصه كفضل السماء على الأرض" (بدائع الفوائد) .
1 / 11
ر- "ذكر الله الصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل: فالصبر الجميل: الذي لا شكوى معه. والهجر الجميل: الذي لا أذى معه. والصفح الجميل: الذي لا عتاب معه" (مدارج السالكين) .
ز- " إياك نعبد تدفع الرياء، وإياك نستعين تدفع الكبرياء" (مدارج السالكين) .
س- " العامة يعبدون الله، والصوفية يعبدون أنفسهم" (مدارج السالكين) .
ش- " من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية" (مدارج السالكين) .
ص- " الخوف المحمود: ما حجزك عن محارم الله" (مدارج السالكين) .
ض- " العارف لا يرى له على أحد حقًا، ولا يشهد له على غيره فضلًا؛ ولذلك لا يعاتب، ولا يطالب، ولا يضارب" (مدارج السالكين) .
ط- " ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء، وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:
أنا المكدِّى وابن المكدِّى ... وهكذا كان أبي وجدي
وكان إذا أثنى عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلامًا جيدًا" (من لسان ابن القيم في المدارج) .
ظ- " الزهد: ترك مالا ينفع في الآخرة، والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة" (مدارج السالكين) .
ع- " إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحًا فاتهمه فإن الربَّ تعالى شكور، يعني: أنه لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه وقوة انشراح وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول" (مدارج السالكين) .
1 / 12
غ- "إن كان نصبًا حبُّ صحبِ محمَّدٍ ... فليشهدِ الثقلانِ: أنِّي ناصبي". (الكافية الشافية لابن القيم) .
ف- " أعظم الكرامة لزوم الاستقامة" (مدارج السالكين) .
ق- " التكبر شر من الشرك؛ فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله تعالى، والمشرك يعبد الله وغيره" (مدارج السالكين) .
ك- " قد عرض له بعض الألم فقال له الطبيب اضر ما عليك الكلام في العلم والفكر فيه والتوجه والذكر فقال الستم تزعمون ان النفس إذا قويت وفرحت اوجب فرحها لها قوة تعين بها الطبيعة على دفع العارض فإنه عدوها فإذا قويت عليه قهرته فقال له الطبيب بلى فقال إذا اشتغلت نفسي بالتوجه والذكر والكلام في العلم وظفرت بما يشكل عليها منه فرحت به وقويت فأوجب ذلك دفع العارض هذا" (مفتاح دار السعادة) .
ل- " من فارق الدليل ضل السبيل ولا دليل إلا بما جاء به الرسول" (مفتاح دار السعادة) .
م- " العوارض والمحن هي كالحر والبرد فإذا علم العبد أنه لا بد منهما لم يغضب لورودهما ولم يغتم لذلك ولم يحزن" (مدارج السالكين) .
ن- " الولادة نوعان أحدهما هذه المعروفة والثانية ولادة القلب والروح وخروجهما من مشيمة النفس وظلمة الطبع" (مدارج السالكين) .
هـ- " إن رضى الرب في العجلة إلى أوامره" (مدارج السالكين) .
و" العامة تقول قيمة كل امرىء ما يحسن، والخاصة تقول قيمة كل امرىء ما يطلب" (مدارج السالكين) .
1 / 13
تَرْجَمَةُ
شَيْخِ الإِسْلامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى
مِنْ كِتَابِ
الذيل على طبقات الحنابلة
للإمام الحافظ بقية السلف
عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي
رحمه الله تعالى
1 / 14
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبى القاسم ابن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني، ثم الدمشقي، الإمام الفقيه، المجتهد المحدث، الحافظ المفسر، الأصولي الزاهد، تقي الدين أبو العباس، شيخ الإسلام وعلم الأعلام، وشهرته تغنى عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره.
ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى ستين وستمائة بحران.
وقدم به والده وبإخواته إلى دمشق عند استيلاء التتر على البلاد، سنة سبع وستين.
فسمع الشيخ بها من ابن عبد الدايم، وابن أبي اليسر، وابن عبد، والمجد ابن عساكر، ويحيى بن الصيرفي الفقيه، وأحمد بن أبي الخير الحداد، والقاسم الأربلي، والشيخ شمس الدين بن أبي عمر، ولمسلم بن علان، وإبراهيم بن الدرجي، وخلفه كثير.
وعني بالحديث وسمع " المسند " مرات، والكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره، فأخذ الفقه والأصول عن والده، وعن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والشيخ زين الدين بن المنجا. وبرع في ذلك، وناظر.
وقرأ في العربية أيامًا على سليمان بن عبد القوى، ثم أخذ كتاب سيبويه، فتأمله ففهمه. وأقبل على تفسير القرآن الكريم، فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض، والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من العلوم، ونظر في علم الكلام الفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، ورد على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون
1 / 15
العشرين سنة، وأفتى من قبل العشرين أيضًا، وأمده الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبطء النسيان، حتى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه.
ثم توفى والده إحدى وعشرين سنة. فقام بوظائفه بعده. فدرس بدار الحديث السكرية في أول سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكى، والشيخ تاج الدين الغزاري، وزين الدين بن المرحل، والشيخ زين الدين المنجا، وجماعة، وذكر درسًا عظيمًا في البسملة. وهو مشهور بين الناس، وعظمه الجماعة الحاضرون، وأثنوا عليه ثناءً كثيرًا.
قال الذهبي: وكان الشيخ تاج الدين الغزاري، يبالغ في تعظيمه الشيخ تقي الدين، بحيث إنه علق بخطه درسه بالسكرية ثم جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على منبر أيام الجمع، لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أول القرآن. فكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر، وبقي يفسر في سورة نوح، عدة سنين أيام الجمع.
وفي سنة تسعين: ذكر على الكرسي يوم جمعة شيئًا من الصفات، فقام بعض المخالفين، وسعوا في منعه من الجلوس، فلم يمكنهم ذلك.
وقال قاضي القضاة شهاب الدين الخوي: أنا على اعتقاد الشيخ تقي الدين، فعوقب في ذلك. فقال: لأن ذهنه صحيح، ومواده كثيرة، فهو لا يقول إلا الصحيح.
وقال الشيخ شرف الدين المقدسي: أنا أرجو بركته ودعاءه، وهو صاحبي، وأخى. ذكر ذلك البرزالي في تاريخه.
1 / 16
وشرع في الجمع والتصنيف، من دون العشرين، ولم يزل في علو وازدياد من العلم والقدر إلى آخر عمره. سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب وخرج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصله غيره. برع في تفسير القرآن، وغاص في دقيقة معانيه بطبع سيال، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها. وبرع في الحديث وحفظه، فقل من يحفظ ما يحفظه من الحديث، معزوا إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل يقوم بما دليله عنده. وأتقن العربية أصولًا وفروعًا، وتعليلًا واختلافًا. ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، ورد عليهم، ونبه على خطئهم، وحذر منهم.
ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأضيف في نصر السنة المحضة، حتى أعلى الله منارة، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكتب أعداه، وهدي به رجالًا من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا، وعلى طاعته، وأحي به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولى الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشرأب النفاق وأبدى صفحته. ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: أنى ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه.
1 / 17
وقد قرأت بخط الشيخ العلامة شيخنا كما الدين ابن الزملكاني، ما كتبه سنة بضع وتسعين تحت اسم. " ابن تيمية " كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع: أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدًا لا يعرفه مثله. وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا منه في مذهبهم أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع منه، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كان من علوم الشرع أو غيرها - إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
وقال الذهبي في معجمه المختصر: كان إمامًا متجرًا في علوم الديانة، صحيح الذهن، سريع الإدراك، سيال الفهم، كثير المحاسن، موصوفًا بفرط الشجاعة والكرم، فارغًا عن شهوات المأكل والملبس والجماع، لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه. والعمل بمقتضاه.
قلت: وقد عرض عليه قضاء القضاة قبل التسعين ومشيخة الشيوخ، فلم يقبل شيئًا من ذلك. قرأت ذلك بخطه.
قال الذهبي: ذكره أبو الفتح اليعمري الحافظ - يعنى ابن سيد الناس - في جواب سؤالات أبي العباس الدمياطي الحافظ، فقال: ألفيته ممن أدرك من العلوم حظا. وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير فهو حامل رأيته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه، وذو روايته، أو حاضر بالنحل والملل لم ير أوسع من نحلته،
1 / 18
ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء حسنه، ولم ترعين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه.
وقد كتب الذهبي في تاريخه الكبير للشيخ ترجمة مطولة، وقال فيها: وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم. وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، والصحيح والسقيم، مع حفظة لمتونه، الذي أنفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه،وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة، والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث.
وقال: ولما كان معتقلًا بالإسكندرية: التمس منه صاحب سبتة أن يجيز لأولاده، فكتب لهم في ذلك نحوًا من ستمائة سطر، منها سبعة أحاديث بأسانيدها، والكلام على صحتها ومعانيها، وبحث وعمل ما إذا نظر فيه المحدث خضع له من صناعة الحديث. وذكر أسانيده في عدة كتب. ونبه على العوالى. عمل ذلك كله من حفظه، من غير أن يكون عنده ثبت أو من يراجعه.
ولقد كان عجيبًا في معرفة علم الحديث. فأما حفظه متون الصحاح وغالب متون السنن والسند: فما رأيت من يدانيه في ذلك أصلًا.قال: وأما التفسير فمسلم إليه، وله من استحضار الآيات من القرآن - وقت إقامة الدليل بها على المسألة - قوة عجيبة. وإذا رآه المقرئ تحير فيه. ولفرط إمامته في
1 / 19
التفسير، وعظم إطلاعه. يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين. ويوهي أقولا عديدة.
وينصر قولا واحدًا، موافقًا لما دل عليه القرآن والحديث. ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الرد على الفلاسفة والأوائل: نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد. قلت: وقد كتب " الحموية " في قعدة واحدة. وهي أزيد من ذلك. وكتب في بعض الأحيان في اليوم ما يبيض منه مجلد.
وكان ﵀ فريد دهره في فهم القرآن، ومعرفة حقائق الإيمان. وله يد طولي في الكلام على المعارف والأحوال والتمييز بين صحيح ذلك الزملكاني بخطه على كتاب " إبطال التحليل " للشيخ ترجمة لكتاب واسم الشيخ. وترجم له ترجمة عظيمة. وأثنى عليه ثناء عظيمًا.
وكتب أيضًا تحت ذلك:
ماذا يقولُ الواصفونَ له ... وصفاتُهُ جلَّت عن الحَصْرِ
هو حجةٌ للهِ قاهرةٌ ... هو بيننا أعجوبةُ الدَّهْرِ
هو آيةٌ للخلقِ ظاهرةٌ ... أنوارُها أربَتْ على الفَجْرِ
وللشيخ أثير الدين أبي حيان الأندلس النحوي - لما دخل الشيخ مصر واجتمع به - ويقال: إن أبا حيان لم يقل أبياتًا خيرًا منها ولا أفحل:
لما رأينا تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فردًا، ماله وزر
على محياه من سيما الأولى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر
خبر تسر بل منه دهره صبرا ... بحر تقاذف من أمواجه الدرر
1 / 20