ويروى، فقد ذهب التخيل والفتاء؛ والفتاء مصدر الفُتى.
وقالوا: إن معاوية أتى برجل من جرهم، فقال: ما أسكنك هذه البلدة؟ فقال: خرج قومي من مكة، فخرج أبي نحو الشام، فلم أزل فيها.
قال: كم أتى عليك؟ قال: أربعين ومائة سنة.
قال: فمن أنت؟ قال: من جرهم.
قال: كذبت، لست منهم.
قال: فكيف تسألني إذن؟ قال: كم أتى عليك من الزمان؟ قال: كالذي أتى عليك.
فظن معاوية، أنه يعني هلكه، فقال كذبت.
قال: فكيف رأيت الدهر؟ قال: سنبات بلاء، وسنبات رخاء، ويوم شبيه بيوم، وليلة شبيهة بليلة، يهلك والد، ويخلف مولود، فلولا الهلالك لامتلأت الدنيا، ولولا المولود لم يبق أحد.
قال: فهل رأيت أُميّة؟ قال: نعم، يقود ذكوان عبده.
فقال: كف، فقد جاء غير ما ذكرت.
قال: فأي المال أفضل؟ قال: عين خرَّارة في أرض خوَّارة.
قال: ثم مَه؟ قال: فرس في بطنها فرس، يتبعها فرس، قد ارتبطت منها فرسا.
قال: ثم مه؟ قال: عد' أيام السنة ضأنا أَضمن لصاحبها الغنى.
قالوا: وعاش الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة ابن تميم عمرا، ثم مات في آخر الزمان، وقد كان له حَمّام بالحيرة، فقال الأضبط:
يا قوم، من عاذري من الخدعَة ... والمُسىُ والصبح لا فلاح معه
ما بالُ من غيَّه مصيبُكَا ... لاتملك من أَمره الَّذي وزعه
حتى إِذا ما انجلت عمايتُهُ ... أَنحى عليه، وأَمره فجَعَه
وصِل وصال البعيد ما وصَل ... حبلَ، وأَقص القريبَ إِن قطعَه
واقبل من الدَّهر ما أتاك به ... من قَرَّ عينا بعيشه نَفَعه
قالوا: وعاش الستوغر بن ربيعة بن كعب ثلاثا وثلاثمائة سنة، وقال قوم، ثلاثمائة وثلاثين سنة، وقال في ذلك:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وعمِرتُ من عدد السنين مئينا
رئة حدتها بعدها مائتان لي ... وعمرتُ من عدد الشهور سنينا
هل ما بقى إِلا كما قد فاتنا ... يومٌ يمرُّ وليلةٌ تحدونا
بقى، يريد، بقى، وهي لغة. وأنشد:
اقاذعتُ كعبًا ما بقيتُ وما بقى
وقال المفضل: عاش زمانا طويلا، وكان من فرسان العرب في الجاهلية، وكان رجل من فتيان قومه يجلس إِليه، وكان لذلك الرجل صديق، يقال له، عامر، وكان الفتى يقول لعامر، إن امرأة المستوغر صديقة لي، وهو يطيل الجلوس، فأحب أن يجلس معه، حتى إذا أراد القيام تثاءبت، ورفعت صوتك بالثَّوباء حتى أسمعوا أنصرف من عندها من قببل أن يفجأَنا ونحن على حالنا تلك.
وإنما كان الفتى صديقا لأم عامر، فأراد أن يشغله بحفظ المستوغر، فيخالف الفتى إلى أم عامر، فيكون معها، حتى إذا سمع التثاوب يخرج.
فظن المستوغر لعامر وما يصنع، فاشتمل على السيف، وجلس حتى إذا لم يبق غيره وغير عامر قال: ألا ترى والذي أحلف به، لئن رفعت صوتك لأضربنّك بالسيف فسكت عامر، فقال له المستوغر: قم معي.
فقاما إلى بيت المستوغر، فإذا امرأته قاعدة بزينتها، فقال: - هل ترى من بأس؟ قال: ما أرى بأسا.
قال المستوغر: فانطلق بنا إلى أهلك فانطلقا، فإذا هو بالفتى متبطنا أم عامر معها من ثوبها.
فقال له المستوغر: انظر إلى ما ترى؛ ثم قال: لعلَّني مضللَّ كعار.
قال أبو حاتم: وإنما المثل: حسبتني مضللا كعامر، فذهب قوله مثلا.
وإنما سمى المستوغر لأنه قال في الشعر:
ينشُّ الماء في الرَّبلات منها ... نشيش الرَّضف في اللَّبن الوغير
والعافية خلف من الواقية، وستساق إلى ما أنت لقٍ. أراني غنيا ما دمتُ سويّا، إن رمت المحاجزة فققبل المناجزة، عاداك من لاحاكَ، خلِّ الوعيد يذهب في البِيد، إِنَّك لا تبلغ بلدا إلا بزادٍ، لا تسخر من شيٍْ فيحور بكَ، إنك ستخالُ ما لا تنالَ " يريد أنك ستتمنى ما لا تقدر عليه، والمعنى، أنك تظنّ كل يوم أنك تبقى إلى غد، وتظن الغد أنك تبقى إلى بعد الغد، وذلك ما لا يكون ".
1 / 3