طه حسين
الفصل الأول
صالح
«إذا سمعت الشيخ يرفع صوته بالتكبيرة الأخيرة فأنبئني، فإن فعلت ذلك فأنت ابني حقا.» قال الصبي وهو يبتسم لأمه التي كانت تحدثه هذا الحديث وهي تداعب خده: «فإن لم أفعل فابن من أكون؟»
هنالك وجمت أم الصبي شيئا، وتضاحك من حولها بنوها وبناتها، ولكنها لطمت خد الصبي لطمة خفيفة ظريفة وهي تقول: «إنك لطويل اللسان ، كثير الخصام.» ثم دست في يد الصبي قطعة من سكر، وأعادت عليه قولها: «إذا سمعت الشيخ يرفع صوته بالتكبيرة الأخيرة فأنبئني، وإن فعلت ذلك فلك مثلها قبل أن تنام.» قال الصبي وهو يقضم السكر قضما: «أما الآن فنعم.» ثم انطلق مسرعا يتبعه ضحك أمه ومن حولها بنوها وبناتها.
وكانت الدار قائمة قاعدة في ذلك المساء؛ فقد ألم بها ضيف لهم خطر ومكانة في الإقليم، وهم لم يقبلوا أصفار الأيدي، وإنما أقبلوا يحملون من الطرف والهدايا شيئا كثيرا. وكانت سيدة الدار حريصة دائما على الاحتفاء بالضيف، مهتمة في ذلك المساء بالتكبيرة الأخيرة حين يرفع الشيخ بها صوته ليخرج بها من دعائه بعد صلاة المغرب. فقد كانت أصناف الطعام مهيأة تنتظر أن تحمل إلى المائدة حين يفرغ الضيف من صلاتهم مع الشيخ، وكان الثريد وهو أول هذه الأصناف قد هيئ، ولكن تهيئته لم تتم بعد، فقد فت الخبز في طبق كبير، وأعد المرق، وتم إعداد الأرز، وقطع الثوم قطعا توشك أن تشبه الذرات، ولكن إعداد هذا الصنف يجب ألا يتم إلا في اللحظة الأخيرة حتى لا يشرب الخبز كل المرق، ولا يذهب ريح الثوم والخل في الجو، ولا يبرد الأرز فيفسد ما ألقي عليه من السمن. من أجل هذا كله لم يكن بد من أن يتسمع الصبي لدعاء الشيخ، حتى إذا رفع صوته بالتكبيرة الأخيرة أسرع إلى أمه فأنبأها، وأسرعت هي إلى هذه الأخلاط من الخبز والمرق والثوم والخل والأرز فجمعتها في هذا الطبق الكبير الذي كان ينتظرها منذ حين، فإذا استفتح العشاء بهذا الصنف تبعته الأصناف الأخرى على مهل وريث، فليس في الإبطاء بها بأس ولا جناح، ولكن الصبي لم ينبئ أمه بشيء لأنه لم يسمع شيئا، وإنما شغل عن التكبيرة الأولى وعن التكبيرة الأخيرة بأمر ذي بال. وقد فرغ الشيخ وضيفه من صلاتهم، وجلسوا يتحدثون ينتظرون أن يحمل إليهم العشاء، وجعل الشيخ يترقب هذا العشاء قلقا؛ لأنه لم يتعود مثل هذا الإبطاء حين يلم به الضيف. وقد هم غير مرة أن يضرب إحدى يديه بالأخرى ليعلم أهل الدار أن الضيف ينتظرون، ولكنه استحيا وكره أن يظن به تنبيه أهل الدار، وأن يظن بأهل الدار غفلة أو إهمال، فمضى في حديثه يرفع به صوته. ومرت من وراء الباب إحدى بناته، فسمعت الصوت يرتفع بالحديث، وأسرعت إلى أمها فأنبأتها بما لم ينبئها به الصبي، وما هي إلا لحظة حتى كان الضيف إلى مائدتهم يأكلون ويلغطون.
وقد كان الصبي خالص النية صادق الرأي، قد اتخذ مرقبه في زاوية من فناء الدار، هنالك حيث تجتمع قطع من الحديد كان يراها كنزه، وكان يخلو إليها فينفق الساعة والساعات في جمعها وتفريقها، وطرق بعضها ببعض، يجد في ذلك تسلية ولهوا، ينفرد به مرة ويشارك فيه أخته الصغيرة مرة أخرى، وقد جلس في زاويته تلك أمام حديده ذاك، واعتزم إذا أتم التهام قطعة السكر أن يقبل إلى قطع الحديد فيعبث بها في رفق، مانحا الشيخ وضيفه إحدى أذنيه، مستمعا متتبعا لصلاتهم، حتى إذا سمع التكبيرة الأخيرة يرتفع بها صوت الشيخ انسل إلى أمه فألقى إليها النبأ، ثم عاد إلى لعبه فمضى فيه.
ولكنه لم يكد يستقر في زاويته ويمضي في قضم سكره حتى أحس يدا تمس كتفه، ونظر فإذا رفيقه صالح ماثل أمامه يداعب كتفه بإحدى يديه، ويقبض بيده الأخرى على طاقة من زهر الحقول يقدمها إليه باسما. وقد نظر الصبي إلى صالح فراعه ثوبه الممزق قد ظهر منه صدره أكثر مما ينبغي، وقد انشق عنه كتفه فظهرتا منه نابيتين، والثوب على ذلك رث قذر، يظهر من جسم الصبي أكثر مما يخفي، كأنه أسمال قد وصل بعضها ببعض وصلا ما، وعلقت على هذا الجسم الضئيل الناحل تعليقا ما، لتستر منه ما تستطيع، وليقال إن صاحبه لا يمضي به متجردا عريانا. ثم رفع الصبي رأسه إلى وجه صالح فرأى بؤسا شاحبا يشيع فيه، ورأى ابتسامة فيها كثير من حزن، وكثير من أمل، ورأى عينين تدوران تنظران إلى ما حولهما، تنخفضان حينا إلى هذا الحديد الملقى على الأرض، وترتفعان حينا إلى قطعة السكر في يد رفيقه، وترتفعان بعد ذلك إلى عناقيد الكرم هذه التي تتدلى على الجدران، وتمتد على هذه العيدان التي نصبت لتحملها.
والصبي على ذلك كله باسط يده إلى رفيقه بهذه الطاقة الساذجة الخشنة من زهر الحقول، يقول له: «لم أرد أن أعود إلى دارنا دون أن أمر بك، وأحمل إليك هذه الأكمام التي لم تتفتح بعد. خذها إليك وضعها في إناء فيه شيء من ماء، وانتظر بها الصبح، ثم أقبل عليها فستراها متفتحة عن زهر جميل طيب الرائحة.» لم يقل الصبي لصالح شيئا، وإنما أخذ منذ زهراته وأعطاه ما بقي في يده من قطعة السكر، وأشار إليه أن يجلس ويلعب معه بقطع الحديد. وقد أخذ صالح قطعة السكر فأطال النظر إليها، والتحديق فيها، وقربها من فمه، ثم أبعدها عنه، ثم نظر إليها نظرة قصيرة، ثم دسها في فمه بين خده وأضراسه، واستأنى بها لتذوب في رفق، وليطول استمتاعه بذوقها الحلو، ثم جلس وأخذ يقلب مع رفيقه قطع الحديد، ثم لم يطل صمت الرفيقين، وإنما استأنفا حديثهما عن الكتاب وعن الرفاق، وعن الحقل، وعن أهل القرية. وأنسي الصبي بهذا كله صلاة الشيخ والضيف والنبأ الذي كان يجب أن يحمله إلى أمه، ولم يرعه بعد وقت طويل أو قصير إلا صوت أخته تدعوه من وراء الباب إلى العشاء.
وقد فرغ الشيخ وأصحابه من طعامهم، وفرغوا كذلك من الصلاة الآخرة وما يتبعها من دعاء، ودارت عليهم قهوة الليل، وجمعت ربة الدار الصغار من بنيها وبناتها إلى طعامهم، وافتقدت صاحبنا ذاك المهذار، فأرسلت أخته تلتمسه في مظانه.
صفحه نامشخص