ثم أنفقت في الجامعة عاما وعاما وعاما ثالثا، ولقيت من الطلاب من درس في الأزهر، ومن تعلم في المدارس المدنية على اختلافها، وخطر لي غير مرة أن أسأل عن العفريت ما خطبه، وأين يكون؟ ولكني لم أبح لنفسي هذا السؤال، فحفظت في قلبي من ذكر العفريت ما كنت أردده على نفسي حينا بعد حين، أختصها به ولا أظهر عليه أحدا من الناس، حتى أقبل علي العفريت ذات مساء فمست يده كتفي، ومس صوته أذني، ومست نفسه نفسي، واستأنفنا في الشباب حياتنا كما ألفناها في الصبا. كان حديث عهد بالجامعة، يدخلها في أول العام الذي كنت أريد أنا أن أتركها في آخره، فكنا نجتمع وجه النهار، لا في داره تلك، وأين كنا من داره تلك! ولكن في تلك الحجرة المتواضعة التي كنت آوي إليها أثناء الطلب، ولم يخطر له قط أن يدعوني إلى داره، ولم يخطر لي قط أن أسأله عن هذه الدار، ولقد هممت أن أسأله عن إخوته فأجابني من طرف اللسان، فلما استزدته راغ عني بالجواب، وانتقل إلى حديث آخر؛ فأحسست أنه يستحي من أسرته، فلم أسأله عنها بعد ذلك.
كان قد تخرج في إحدى المدارس الفرنسية، وظفر بشهادة الثانوية والتحق بالجامعة، وكنت أحاول أن أتعلم هذه اللغة الأجنبية، وأبذل في ذلك جهودا مختلطة أشد الاختلاط، منها الموفق ومنها غير الموفق، وكان هو مشغوفا بالترجمة من هذه اللغة إلى اللغة العربية، فكان يقرأ علي بعض ما كان يترجم، وكان يقرأ لي ما كنت أريد أن أعرف من الأدب الفرنسي. وقد أنسى أشياء كثيرة، ولكنني لن أنسى أنه قرأ لي أساطير لافونتين، وقصة «كانديد»، وأحاول أن أذكر كيف قضينا أول الليل بعد خروجنا من الجامعة ذات يوم، وأين قضيناه، ولكني لا أجد إلى ذلك سبيلا، وإنما أذكر أني صرفت خادمي وبقيت معه على أن يردني إلى داري بعد أن نفرغ مما أردنا إليه، ولست أعرف ما هذا الذي أردنا إليه، ولكني أعرف أن الليل بلغ نصفه، وأنا كنا بعيدين عن داري قريبين من داره في حي من الأحياء الوطنية المتواضعة، فقال لي في صوت متكسر: «لننفق سائر الليل معا، فنقرأ ما أطقنا السهر، ثم تعود إلى دارك في ضحى الغد.» وقد أجبته إلى ما أراد، فدرنا في حارات ملتوية وانتهينا إلى دار متواضعة حقيرة، وأوينا من هذه الدار إلى حجرة بائسة قد ألقي عليها حصير بال، وألقي على الحصير وسادة ولحاف، في هذه الحجرة قرأ لي جزءا عظيما من «كانديد»، ولم ننم إلا بعد أن جاوز الليل ثلثيه، فلما كان ضحى الغد عدت إلى داري واستبقيته معي إلى آخر النهار، وفي تلك الليلة فهمت مصدر هذا الحياء الذي منعه أن يتحدث إلي من أمر أسرته بشيء.
ومضت أشهر الصيف التي يفترق فيها الطلاب، وأقبلت أشهر الخريف التي يلتقي فيها الطلاب، ولقيت صاحبي فيمن لقيت، ولكنه كان لقاء قصيرا؛ فقد سافرت إلى فرنسا في خريف ذلك العام، وودعت صاحبي في القطار. وأشهد ما نسيته أثناء ذلك العام الذي قضيته في فرنسا، وأشهد لقد عدت إلى مصر حين دعتنا الجامعة إلى أن نعود قبل أن نتم الدرس، وفي نفسي أني سأجد عند صاحبي هذا عزاء عن هذا الدرس المقطوع، ولكني أصل إلى القاهرة، وأسأل عن صاحبي، فأعلم أن حمى التيفوئيد قد أسلمته إلى الموت أثناء الصيف.
وما أريد أن أصور للقارئ ما وقع في نفسي من حزن ولوعة، فإني لم أكتب هذا الحديث لشيء من هذا، وإنما أذكر أني سعيت مع رفيقين لي ذات يوم بعد أن صليت العصر إلى قرافة المجاورين حيث قيل لي إنه دفن، وأني أنفقت مع رفيقي وقتا طويلا وجهدا ثقيلا نلتمس قبره لنهدي إليه التحية ولنضع عليه شيئا من زهر، فلم نهتد إلى هذا القبر، فعدنا يائسين وقد ألقينا التحية إلى قبور القرافة كلها، وألقينا الزهر على قبر ما في قرافة المجاورين، وكنت كئيبا كاسف البال مظلم النفس معقود اللسان، وكان أحد رفيقي يهون علي، وينشدني قول الشاعر العربي القديم:
لقد لامني عند القبور على البكا
رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت له إن الشجا يبعث الشجا
فدعني فهذا كله قبر مالك
صفحه نامشخص