Muawiyah ibn Abi Sufyan: Commander of the Faithful and Scribe of the Prophet's Revelation - Dispelling Doubts and Refuting Fabrications

Shahata Saqr d. Unknown

Muawiyah ibn Abi Sufyan: Commander of the Faithful and Scribe of the Prophet's Revelation - Dispelling Doubts and Refuting Fabrications

معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين وكاتب وحي النبي الأمين ﷺ كشف شبهات ورد مفتريات

ناشر

دار الخلفاء الراشدين - الإسكندرية،مكتبة الأصولي - دمنهور

محل انتشار

مكتبة دار العلوم - البحيرة (مصر)

ژانرها

معاوية بن أبي سفيان ﵄ أمير المؤمنين وكاتب وحي النبي الأمين ﵌ كشف شبهات وردّ مفتريات جمع وترتيب شحاتة صقر توزيع دار الخلفاء الراشدين // الإسكندرية - أبو سليمان // ت ٠١٢٠١٥٢٩٠٨ مكتبة الأصولي // دمنهور - خلف عمر أفندي // ت ٠١٠٥٤٠١٣٢٤ مكتبة دار العلوم // أبو حمص // ت ٠١٢٩٧٣٢١٣١

صفحه نامشخص

تقديم الأستاذ الدكتور: أنور السنوسي رئيس قسم اللغة العربية بكلية التربية بدمنهور إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله - وحده لا شريك له - وأن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلِّمْ وبارك عليه كما تحب أن يصلى عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ... وبعد فإن ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ (١)، وعدنا ربُّنا وعدَ الحق: ... ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ (٢) بالسنان واللسان، وهاهم أولاء يفعلون دائبين لا يفتُرون، ووعدنا ربنا وعد الصدق: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ (٣). وهاهم أولاء يؤذون الله ﷿ ورسوله ﵌ والمؤمنين بألسنة حدادٍ، وقلوبٍ سُودٍ، وغيظٍ قاتلٍ، وحقدٍ أعمى، ونفوسٍ موتورة، وكلابٍ مسعورة، وأقلامٍ مأجورة، وأخبرنا ربنا ﷿ بالخبر الموثوق: ﴿هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ (٤) فترانا

(١) الأحزاب:٢٢. (٢) البقرة:٢١٧. (٣) آل عمران:١٨٦. (٤) آل عمران:١١٩.

1 / 3

نوادّهم ونتزلف ونتملق ونطلب الرضا والقبول، ولا يُلقون إلينا إلا بالبغضاء والاحتقار والاستنزاف وابتزاز المزيد من الصَّغار وإعطاء الدنية. ﴿وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ (١) إلا على المسلمين وكتابِهم ونبيِّهم، ورموزهم، وتاريخهم؛ فتتحد قلوبهم على شنآنهم، وتتحد ألسنتهم فيقولون - وصدق ربي ـ: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ (٢)، ويتعاون على ضرب الإسلام أحبارُهم ورهبانُهم ومستشرقوهم، واستعمارهم، وصهاينتهم، ومجامعهم، ونواديهم، وكل جند لهم. ويشاركهم أصحاب الأعراق من الفرس وغيرهم، من الذين يبغضون العرب والنبي العربي ﵌، ويواليهم المحسوبون على الإسلام من كل فرقة ضالة فيقولون للذين كفروا - وصدق ربي ـ: ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ (٣)، ويرونهم أقرب إليهم من أهل السنة، فـ ﴿يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾ (٤). ويتسلق على بنيانهم الآثم نباتُ العلمانيين الآكلين على موائد اللئام، المتسولين أجر الكفر، الطالبين وجاهة أبي لهب وامرأته، تبت يداهم من رجال سوء وناءت بحملها من طابورهم كل حمالة للحطب. ويعينهم (طيبون) من مثقفي المسلمين من حيث لا يدرون أن السم في الدسم، وأمةٌ غلب عليها الجهل بدينها وسلفها وتاريخها، وصدق ربي: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ (٥).

(١) الحشر:١٤. (٢) البقرة:١١١. (٣) النساء:٥١. (٤) الحشر:١١. (٥) التوبة:٤٧.

1 / 4

صدق ربي وعده وتكالبوا جميعًا، وصدق رسوله فتداعوا جميعًا على قصعة الإسلام وثروات المسلمين، يريدون أن يطفئوا نور الله، فتعجز أفواههم العفنة، فيدورون ويناورون، فيرمون الرجال، وخيرهم نبي هذا الدين ﵌، فيرومون نسف الجبل الأشم فلا يُوهُون إلا قرونهم، فيقصدون أصحابه، لينالوا من صخرتهم الباذخة (١)، ليقال: «رجل سوء وصحبته صحبة سوء»، فتتحطم رؤوسهم، وتنفجر آذانهم بدويّ الحق من ربهم: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (٢)، وصحبة الصدق في قرآنهم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٢٩)﴾ (٣). ولكنهم لا يزالون يقاتلون، فيرمون أبا بكر وعمر وعائشة وغيرهم ﵃، وهاهم أولاء يقصدون معاوية ﵁، يريدون كما أراد أسلافهم أن يكسبوا جولة في معركة التشويه، ويريدون ما هو أخطر: أن يفسخوا وجدان الأمة؛ لتفرق في محبتها بين معاوية وعلي ﵄، وأن يُفقدوها ثقتها في خلفائها وملوكها، وفاتحيها ومجاهديها، الذين أذلوا الفرس والروم من قبل، ولا يزالون بفضل الله شوكة في حلوق أحفادهم

(١) بَذِخَ الْجَبَلُ يَبْذَخُ بَذَخًا: طَالَ فَهُوَ بَاذِخٌ. انظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، مادة (ب ذ خ). (٢) التوبة:١٠٠. (٣) الفتح:٢٩.

1 / 5

الموتورين. وهم يستغلون جهل الأمة، وفساد منهج التلقي عندها، وبعدها عن القراءة الصحيحة لتراثها، وإعجاب كل ذي رأي فيها برأيه، وانبهار عقول كثير منها بالغرب وفكره المسموم. ولكن الله غالب على أمره يقيّض في كل عصر ومَصر - من أهل السنة الراشدين، والعلماء العاملين، والدعاة الحارسين للحدود - مَن يردّ الحملة المسعورة فينفي الجهالة، ويكشف الضلالة، ويبيِّن المنهج السويّ بالفهم الجلي والنقل السلفي. وأحسب أن من بين طالبي هذه المنزلة السامية والهمة العالية أخانا الشيخ شحاتة صقر الذي ندبني لمراجعة هذا البحث لُغَويًا، فأهدى إليَّ خير ما يهدي الأخ لأخيه، من العلم النافع المجموع من مظانه الحسنى الوثيقة، والمفهوم فهمًا صحيحًا راسخًا، كما أشركني وأشْرك كل قارئٍ في همّه، وما همُّه إلا قضايا الإسلام والهجمة الشرسة عليه. لقد جلّى دواعي الشانئين للطعن في الصحابة ﵃، نقلة الدين، ووارثي العلم، ومؤسسي الدولة المسلمة، ومجسدي نموذج الإسلام المتحرك الفاعل، ومخرجي الناس - بمشيئة الله - من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. كما بيَّن وسائل تشويه التاريخ وأمسك بالأيدي الآثمة الدساسة، وأرشد إلى كيفية قراءة التاريخ على هدى وبصيرة نافذة، ومنهج رشيد، لا يغادر سندًا إلا حققه، ولا متنًا إلا دققه، ولا دعوى إلا محصها، ولا فهمًا إلا راجعه. ونبَّه على أن موقف السلف مما شجر بين الصحابة ﵃، هو الإمساك عن الخوض فيه، واعتقاد الخير في جميعهم، والتماس العذر لهم في اجتهادهم. ثم فرغ لشخص معاوية ﵁، فتحدث عن شخصه الكريم الفذ وعن أبويه وإخوته وابنه يزيد، وعن كتابته الوحي للنبي ﵌ ونبوءات النبي ﵌ له، وما جرى بينه وبين علي ﵄، وما كان من التحكيم وما تلاه، ثم موقف الحسن بن علي بعد أبيه

1 / 6

﵄، وما كان من ملك معاوية ﵁ وجهاده وفتوحه. ثم عكف على شبهات الشيعة حول معاوية التي بلغت - فيما عدّه المؤلف - خمسًا وثلاثين شبهةً، واجتهد ما أمكنه في دحضها. وأظن أن الأخ شحاتة صقر قد أحسن الجمع والترتيب، والاستنباط والنقد، وأرجو أن يكون له أجور المصيبين، ودرجات المرابطين على ثغور هذا الدين، وأن يرزقنا وإياه الإخلاص، ويعفو عن زلاتنا وخطراتنا. والله حسبنا ونعم الوكيل. كتبه: أنور السنوسي.

1 / 7

( مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾ (آل عمران:١٠٢)، ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾ (النساء:١)، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠)﴾. (الأحزاب:٧٠). أما بعد: فإن خيرَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ﵌، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن سلامة القلب تجاه الصحابة والتأدب معهم من صميم اعتقاد أهل السنة والجماعة، وإن الطعن فيهم هو وسيلة للطعن في الدين الإسلامي فأصحاب رسول الله كلهم عدول ثقات، وهم الذين نقلوا لنا هذا الدين. ومن كتب أهل العلم جمعتُ هذا الكتاب عن أحدهم، وهو معاوية بن أبي سفيان ﵄ - كاتب وحي النبي ﵌ وأمير المؤمنين - الذي مكث عشرين سنة أميرًا على الشام في خلافة عمر وخلافة عثمان ﵄، ثم خليفةً للمسلمين مثلَها.

1 / 8

هذا الكتاب فيه ذِكْر فضائله ﵁ من كتاب الله ﷿ وكلام حبيبنا ﵌، وفيه ثناء الصحابة والتابعين وتابعيهم والعلماء عليه ﵁، وفيه ذِكْر جهاده وأخلاقه وحسن سياسته لرعيته، وفيه دفْعٌ للشبهات والأكاذيب التي حاولت النيْل منه ﵁، في وقت اشرأبت فيه أعناق أهل الضلال من الشيعة وغيرهم. ولعله لم يَنَلْ شخصيةً في التاريخ الإسلامي من التشويه مثل ما نال شخصيةَ معاوية بن أبي سفيان ﵄ خاصة من أهل الأهواء قديمًا للنزاعات السياسية والمذهبية، ثم وجد المستشرقون في رواياتهم مرتعًا خصبًا للنيل من الإسلام. إن معاوية بن أبي سفيان ﵄ من الصحابة الأجلّة الكرام، الذين يجبُ الترضّي عن جميعهم، ولا يجوز الطعنُ فيهم، كما هو اعتقادُ الفرقة الناجية: أهلِ السُنَّة والجماعة، كيف وقد قال فيهم رسول الله ﵌: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (رواه البخاري ومسلم). ومَعْنَى الْحَدِيث - كما نقل الحافظ ابن حجر عن الْبَيْضَاوِيّ: «لَا يَنَال أَحَدكُمْ بِإِنْفَاقِ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مِنْ الْفَضْل وَالْأَجْر مَا يَنَال أَحَدهمْ بِإِنْفَاقِ مُدّ طَعَام أَوْ نَصِيفه» (١). ومعاوية بن أبي سفيان ﵄ هو أحد الصحابة الذين أكرمهم الله ﷿ بصحبة نبيه محمد ﵌ وكل كلام يقال في الصحابة فيما يتعلق بفضلهم عمومًا وما يجب لهم عمومًا، فإن معاوية ﵁ يدخل في ذلك. أما من تكلم فيهم بكلام لا ينبغي فهو في الحقيقة لم يضرّهم إنما ضرَّ نفسه؛ وذلك أنهم ﵃ قدِموا على ما قدَّموا، وقد قدَّموا الخير الكثير، وقد قدَّموا الأعمال الجليلة التي قاموا بها مع رسول الله ﵌. بل إن ذلك يكون زيادة في حسناتهم؛ لأنه إذا تكلم فيهم بغير حق أضيف إليهم من حسنات المتكلم فيهم - إذا كان له حسنات - فيكون ذلك رفعة في درجاتهم، وإن لم يكن له حسنات فإنه لا يضر السحاب نبح الكلاب - كما يقولون.

(١) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (٧/ ٣٤).

1 / 9

وقال الإمام الشافعي قال: «ما أرى الناس ابتُلُوا بشتم أصحاب محمّد ﵌ إلا لِيَزيدَهمُ الله ﷿ بذلك ثوابًا عندَ انقطاعِ عَمَلِهم» (١). وعن عائشة ﵂ قالت: «أمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﵌ فَسَبُّوهُمْ» (رواه مسلم). قال الإمام النووي في (شرح صحيح مسلم): «وَأَمَّا الْأَمْر بِالِاسْتِغْفَارِ الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ فَهُوَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ (الحشر:١٠) وَبِهَذَا اِحْتَجَّ مَالِك فِي أَنَّهُ لَا حَقّ فِي الْفَيْء لِمَنْ سَبَّ الصَّحَابَة ﵃، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَهُ لِمَنْ جَاءَ بَعْدهمْ مِمَّنْ يَسْتَغْفِر لَهُمْ». فلا يجوز الطعنُ في آحادهم، فكيف بمن له فضائل ثابتة - خاصة وعامة - مثلَ معاوية ﵁؟ ولمعاوية ﵁ فضائل كثيرة - سنذكرها إن شاء الله ﷿ - وبسبب ثبوت هذه الفضائل وغيرها عن السلف، فقد نهوا نهيًا شديدًا عن التكلم في معاوية ﵁ وبقية الصحابة ﵃، وعَدّوا ذلك من الكبائر. وكان بعض السلف يجعل حب معاوية ﵁ ميزانًا للسنة. قال الربيع بن نافع: «معاوية بن أبي سفيان ستر أصحاب رسول الله ﵌ فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه». (٢) وسُئل أبوعبد الرحمن النسائي عن معاويةَ بن أبي سفيان -صاحبِ رسول الله ﵌ ـ، فقال: «إنما الإسلام كدارٍ لها بابٌ، فبابُ الإسلام الصحابة، فمن آذى الصحابةَ إنما أرادَ الإسلام، كمن نَقرَ البابَ إنما يريدُ دخولَ الدار؛ فمن أراد معاويةَ فإنما أراد الصحابة» (٣).

(١) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (٨/ ١٤٦٠). (٢) رواه الخطيب البغدادي في تاريخه (١/ ٢٠٩)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (٥٩/ ٢٠٩). (٣) ذكره الحافظ المزي في تهذيب الكمال (١/ ٤٥).

1 / 10

وقال الإمام عبد الله بن المبارك ﵀: «معاوية عندنا مِحْنة، فمن رأيناه ينظر إليه شزَرًا اتهمناه على القوم»، يعني الصحابة. (١) وقد صدق في ذلك ﵀، فإنه ما من رجل يتجرأ ويطعن في معاوية ﵁ إلا تجرأ على غيره من الصحابة ﵃.وانظر هذا في أحوال الزيدية: فإنهم طعنوا في معاوية ﵁ ثم تجرؤوا على عثمان ﵁، ثم تكلموا في أبي بكر وعمر ﵄ حتى صرح بعض الزيدية بكفرهما. والسبب في ذلك أن من تجرأ على معاوية ﵁ فإنه يكون قد أزال هيبة الصحابة من قلبه فيقع فيهم. قال الأوزاعي: «أدركَتْ خلافةُ معاوية جماعةً من أصحاب رسول الله ﵌، لم ينتزعوا يدًا من طاعة، ولا فارقوا جماعة، وكان زيد بن ثابت يأخذ العطاء من معاوية». وقال أيضًا: «أدركَتْ خلافةُ معاوية عدةً من أصحاب رسول الله ﵌، منهم: سعد، وأسامة، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك، ورجال أكثر ممن سمَّيْنا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، وأخذوا عن رسول الله ﵌ تأويله. ومن التابعين لهم بإحسان إن شاء الله منهم: المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن محيريز، في أشباه لهم، لم ينزعوا يدًا عن مجامعة في أمة محمد ﵌» (٢). وقال البيهقي بعد أن سرد الآيات والأحاديث الموجبة لحب الصحابة جميعًا، وأن ذلك من الإيمان: «وإذا ظهر أن حب الصحابة من الإيمان، فحُبُّهم أن يَعتقد فضائلهم، ويَعترف لهم بها، ويَعرف لكل ذي حقٍّ منهم حقَّه، ولكل ذي غناءٍ في الإسلام منهم غناءَه، ولكل ذي منزلةٍ عند رسول الله ﵌ منزلتَه، ويَنشر محاسنهم،

(١) انظر: البداية والنهاية لابن كثير ٨/ ١٣٩. (٢) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (٥٩/ ١٥٨)، ورجاله ثقات أثبات.

1 / 11

ويدعو بالخير لهم، ويقتدي بما جاء في أبواب الدين عنهم، ولا يتبع زلاتِهم وهفواتِهم، ولا يتعمَّد تهجين أحد منهم بِبَثِّ ما لا يحسن عنه، ويسكت عما لا يقع ضرورة إلى الخوض فيه فيما كان بينهم» (١). وقال الميموني: «سمعت أحمد يقول: ما لهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية». وقال لي: «يا أبا الحسن إذا رأيت أحدًا يذكر أصحاب رسول الله ﵌ بسوء فاتهمه على الإسلام» (٢). وروى الخطيب البغدادي عن أبى زرعة الرازى ﵀ أنه قال: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله ﵌ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول ﵌ عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدَّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله ﵌، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليُبْطِلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أوْلى وهم زنادقة» (٣). ولما تكلم الموفق ابن قدامة في لمعة الاعتقاد عن الصحابة إجمالًا ختم بقوله: «ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، أحد خلفاء المسلمين ﵃». فعلّق الشيخ ابن عثيمين ﵀: «إنما ذكره المؤلف وأثنى عليه للرد على الروافض الذين يسبونه ويقدحون فيه» (٤). ومعاوية ﵁ كان من كتاب الوحي، وقد أثبت ذلك إمام الحديث أحمد بن حنبل وأمر بهجر من يجحد بتلك الحقيقة. ولذلك لمّا سأل رجلٌ الإمام أحمد بن حنبل: «ما تقول - رحمك الله - فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب الوحي، ولا أقول إنه خال المؤمنين، فإنه أخذها بالسَّيف

(١) شُعَب الإيمان (٤/ ١٤٦). (٢) الصارم المسلول (٣/ ١٠٥٨)، وأوله عند الخلال (٢/ ٤٣٢) بسند صحيح. (٣) الكفاية في علم الرواية (ص٦٧). (٤) شرح لمعة الاعتقاد (ص١٠٧).

1 / 12

غصْبًا؟».قال الإمام أحمد: «هذا قول سوءٍ رديء. يجانَبُون هؤلاء القوم، ولا يجالَسون، ونبيِّن أمرهم للناس» (١). وعن إبراهيم بن ميسرة قال: «ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانًا قط إلا إنسانًا شتم معاوية فإنه ضربه أسواطًا» (٢). وما ضَرَّ معاويةَ ﵁ شَتْمُ مَنْ شَتَمَه؛ فإنه «ما ضر المسك عطره، أن مات من شمه الجعل» (٣). و«لا يضر السحابَ نبحُ الكلاب، ولن يضير السماء نقيق الضفادع». يا نَاطِحَ الجَبَلَ العالي ليَكْلِمَه ... أَشفِقْ على الرّأسِ لا تُشْفِقْ على الجَبَلِ وقد يلاحظ القارئ الكريم أن هناك تكرارًا لبعض الأقوال؛ والسبب في ذلك تعلقها بالموضوع الذي ذُكِرَتْ فيه، وهذا أيسر للقارئ من الإحالة على ماسبق ذكره. وفي الختام أتقدم بالشكر لأستاذي الأستاذ الدكتور أنور السنوسي لما قام به من جهد في مراجعة هذا الكتاب، واللهَ أسأل أن يكون هذا الجهد في ميزان حسناته، وأن نكون بهذه الورقات قد وفَّينا الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان ﵄ بعض حقه علينا في الدفاع عنه باعتباره أحد صحابة حبيبنا ﵌، كما أسأله ﷾ أن ينفع المسلمين بهذه الورقات وأن يرزقنا الإخلاص في السر والعلن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه - سيدنا محمد - وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. شحاتة محمد صقر saqrmhm@gawab.com

(١) السنة للخلال (٢/ ٤٣)، وإسناده صحيح. (٢) تاريخ دمشق (٥٩/ ٢١١)، ومعظم النقول المتقدمة ذكرها أيضًا الحافظ ابن كثير في ترجمة معاوية ﵁ من كتابه البداية والنهاية (٨/ ١٣٠ - ١٣٩). (٣) الجُعْل: دُوَيْبَّة سَوْدَاء تُدِير الْخِرَاء بِأَنْفِهَا. وَمِنْ شَأْنِه جَمْع النَّجَاسَة وَادِّخَارهَا. وَمِنْ عَجِيب أَمْره أَنَّهُ يَمُوت مِنْ رِيح الْوَرْد وَرِيح الطِّيب فَإِذَا أُعِيدَ إِلَى الرَّوْث عَاشَ. وَمِنْ عَادَته أَنْ يَحْرُس النِّيَام فَمَنْ قَامَ لِقَضَاءِ حَاجَته تَبِعَهُ وَذَلِكَ مِنْ شَهْوَته لِلْغَائِطِ لِأَنَّهُ قُوتُه.

1 / 13

هذا معاوية ﵁ - أيُّها الشَّانِئُ (١) أَقْصِرْ ... إِنَّمَا جِئْتُ لِأَفْخَرْ بِابْنِ حَربٍ مَنْ كَسَيْلٍ ... لِصُرُوحِ الْكُفْرِ دَمَّرْ جَيْشُهُ قَامَ يُنادِي ... فِي الدُّنَى: اللهُ أَكْبَرْ بَذَلَ الْغالِي انْتِصَارًا ... لِلْهُدَى فِي كُلِّ مَعْبَرْ مَجْدُ (رُومَانٍ) و(فُرْسٍ) ... كُلُّ ذَا وَلَّى .. تَبَخَّرْ زَانَهُ اللهُ بِحِلْمٍ صَارَ ... فِي الْأَمْثَالِ يُذْكَرْ كَاتِبُ الْوَحْيِ أَمِينٌ ... لِلتُّقَى وَالْعَدْلِ مُسْفِرْ جَاءَهُ بِالْحَقِّ بُشْرَى ... الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ تُظْهِرْ أَنَّهُ حَازَ الْجِنَانَ ... سَبْقَ مَنْ في الْيَمِّ أَبْحَرْ (٢) كَالْمُلُوكِ فِي الْأَسِرَّةْ (٣) ... إِنَّ فَضْلَ اللهِ أَكْبَرْ

(١) الشانئ: المبغِض. (٢) قال ﵌: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا». (رواه البخاري). ... (قَدْ أَوْجَبُوا) أَيْ فَعَلُوا فِعْلًا وَجَبَتْ لَهُمْ بِهِ الْجَنَّة. ... وفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَة لِمُعَاوِيَة ﵁ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ. (٣) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ﵁ عَنْ أُمِّ حَرَامٍ ﵂ وَهِيَ خَالَةُ أَنَسٍ قَالَتْ: أَتَانَا النَّبِيُّ ﵌ يَوْمًا، فَقَالَ عِنْدَنَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقُلْتُ: «مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟»، قَالَ: «أُرِيتُ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ».فَقُلْتُ: «ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ». قَالَ: «فَإِنَّكِ مِنْهُمْ». قَالَتْ: «ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ أَيْضًا وَهُوَ يَضْحَكُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ فَقُلْتُ: «ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ». قَالَ: «أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ». فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ، فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ. (رواه البخاري ومسلم). قَوْله (مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّة): أي رَأَى الْغُزَاة فِي الْبَحْر مِنْ أُمَّته مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّة فِي الْجَنَّة، وَرُؤْيَاهُ ﵌ وَحْي، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي صِفَة أَهْل الْجَنَّة: ﴿عَلَى سُرَرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾. ومعاوية ﵁ مِن أولى الناس بهذا الفضلُ العظيم، إذ أنه أميرُ تلك الغزاة بالاتفاق، وقد قال ابنُ عبد البر عن هذا الحديث في التمهيد (١/ ٢٣٥): «وفيه فضلٌ لمعاوية ﵀، إذ جَعَلَ مَن غَزا تحتَ رايَتِه مِن الأوَّلين».

1 / 14

وَلَهُ يُدْعَى بِحِفْظٍ ... مِنْ لَظَى - نَارٍ تُسَعَّرْ (١) وَدُعَاءٍ بِاهْتِدَاءٍ ... وَالْهُدَى فِي النَّاسِ يَنْشُرْ (٢) أَيُّهَا الشَّانِي تَدَبَّرْ ... فِي جَزَاءِ مَنْ تَجَبَّرْ عِنْدَ رَبِّ الْعَرْشِ تَلْقَى ... كُلَّ مَا تَجْنِي مُسَطَّرْ هل يَضِيرُ الشَّمْسَ يَوْمًا ... جَحْدُ مَنْ لِلنُّورِ أَنْكَرْ هَلْ يُمِيطُ الضَّوْءَ عَنْهَا ... أمْ بِنُورِ الْحَقِّ يُقْهَرْ أَيُّ وَجْهٍ لِقِرَانٍ؟ (٣) ... ذَاكَ نَجْمٌ لَسْتَ تُذْكَرْ أَنْتَ لَا تَسْمُو لِتُرْبٍ (٤) ... دَاسَهُ الْغازِي الْمُظَفَّرْ شَادَ فِي الْآفَاقِ عِزًّا ... أُسُّهُ الدِّينُ الْمُطَهَّرْ لَيْتَ هَذَا العزَّ فِينَا ... إِنَّنِي كَمْ أَتَحَسَّرْ

(١) ثَبَتَ أن النبيَّ ﵌ دعا لمعاوية فقال: «اللهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ والْحِسَابَ، وَقِهِ الْعَذَابَ». (رواه الطبراني وغيره وصححه الألباني). (٢) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ ﵁ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﵌ - عَنْ النَّبِيِّ ﵌ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ» (رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني). (هَادِيًا) أَيْ لِلنَّاسِ أَوْ دَالًّا عَلَى الْخَيْرِ. (مَهْدِيًّا) أَيْ مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ. (٣) قِران: مقارنة. (٤) تُرْب: تراب.

1 / 15

أيْنَ هَذَا مِنْ قُرَانَا ... سَاسَهَا كِسْرَى وَقَيْصَرْ ظُلْمُ (أَمْرِيكَا) وَ(رُوسْيَا) ... وَجْهُ مَنْ بِالْكُفْرِ أَسْفَرْ جَرْحُ (شِيشَانٍ) وَ(بُورْمَا) ... جَرْحُ أَفْغَانَ الْمُسَعَّرْ جَرْحُ أَقْصَانَا سَجِينًا ... جَرْحُ صُومَالَ الْمُفَغَّرْ (١) جَرْحُ غَزَةَ قَدْ دَهَانَا ... جَرْحُ بَغْدَادَ تَفَجَّرْ أَيُّهَا الْفُجَّارُ مَهْلًا ... إِنَّنَا يَوْمًا سَنَثْأَرْ إِنْ أَقَمْنَا الشَّرْعَ فِينَا ... إِنَّنَا حَتْمًا سَنُنْصَرْ

(١) المفَغَّر: المتسع.

1 / 16

كيف نقرأ التاريخ (١) كيف نقرأ التاريخ؟ لابد أن نقرأ التاريخ كما نقرأ أحاديث رسول الله ﵌. إذا أردنا أن نقرأ أحاديث رسول الله ﵌ فإننا نتثبت من الخبر أثابِتٌ عن رسول الله ﵌ أم لا؟ ولن نستطيع أن نعرف صحة الخبر عن رسول الله ﵌ من بطلانه إلا بالنظر إلى الإسناد مع المتن؛ لأن أهل العلم اعتنوا بالحديث ورجاله وتتبعوا أحاديثهم ومحَّصُوها وحكموا عليها وبيَّنوا الصحيح من الضعيف وبالتالي نُقّيَتْ هذه الأحاديث مما فيها أو مما أدخِلَ عليها من كذب أو تدليس أو مما شابه ذلك. ولكن التاريخ يختلف فتارة نجد كثيرًا من رواياته ليس لها إسناد وتارة أخرى نجد لها إسنادًا ولكن قد لا نجد للرجال الذين في إسناد تلك الرواية ترجمة، ولا نجد أحدًا من أهل العلم تكلم فيهم جرحًا أو تعديلا ً مدحًا أو ذمًا، فيصعب عليك عندئذ أن تحكم على هذه الرواية؛ لأنك لا تعرف حال بعض رجال السند. فالأمر أصعب من الحديث، ولكن لا يعني هذا أبدًا أن نتساهل فيه بل لابد أن نتثبت وأن نعرف كيف نأخذ تاريخنا. قد يقول قائل: سيضيع علينا كثير من التاريخ بهذه الطريقة. نرد عليه قائلين: إنه لن يضيع الكثير كما تتصور. بل إن كثيرًا من روايات التاريخ مذكورة بالأسانيد سواء كانت هذه الأسانيد في كتب التاريخ نفسها كتاريخ الطبري، أوفي كتب الحديث كصحيح البخاري ومسند أحمد وسنن الترمذي، أو المصنفات كمصنف ابن أبي شيبه، أو في كتب التفسير التي تذكر بعض الروايات التاريخية بالأسانيد كتفسير ابن كثير وتفسير ابن جرير، وأحيانًا في كتب خاصة تكلمت عن أوقات خاصة ككتاب (حروب الردة) للكلاعي مثلا ً أو

(١) حقبة من التاريخ، للشيخ عثمان الخميس ص ٢٩ - ٣٩ باختصار وتصرف يسيرين.

1 / 17

كتاب (تاريخ خليفة بن خياط) المختصر، القصد أنك لا تعجز عن أن تجد سندًا لرواية من الروايات. إن لم تجد سندًا: وإن عجزت ولم تجد سندًا فعندك أصل عام تسير عليه وهو خاص بالنسبة لما وقع في عهد الصحابة، ألا وهو ثناء الله ﵎ وثناء رسوله ﵌ على الصحابة فالأصل فيهم العدالة. وكل رواية جاء فيها مطعن على أصحاب رسول الله ﵌ فالأصل النظر في السند فإن كان صحيحًا ينظر بعد ذلك في تأويل هذه الرواية وفيما تدل عليه. فإن وجدنا السند ضعيفًا فالحمد لله، وإن لم تجد لها سندًا فعندك الأصل وهو عدالة أولئك القوم. إذًا عند قراءة التاريخ لابد أن نقرأ بتمحيص كما نقرأ الحديث، ويُخَصُّ من هذا التاريخ تاريخ أصحاب رسول الله ﵌. لمن نقرأ؟ للأسف شُغف الكثيرون الآن في زماننا هذا بقراءة الكتب الحديثة التي ألّفَتْ في التاريخ والتي تهتم بجمال القصة، أو تشويه الصورة، أو هما معًا، بغض النظر عن صحتها أو عدم صحتها، ككتب عباس العقاد، أو كتب خالد محمد خالد، أو كتب طه حسين، أو كتب چورچي زيدان أو غيرهم من المُحْدَثين. فهؤلاء عندما يتكلمون عن التاريخ يهتمون بالسياق وجمال القصة بغض النظر عما إذا كانت صحيحة أو غير صحيحة المهم أن يقص عليك قصة جميلة. إذن لمن نقرأ؟ • إذا كنت تستطيع أن تبحث عن الأسانيد وتمحصها فاقرأ للإمام الطبري فهو العمدة بالنسبة للذين يكتبون في التاريخ، واقرأ لابن كثير في كتابه (البداية والنهاية)، وللذهبي في كتابه (تاريخ الإسلام). • وإذا كنت لا تستطيع أن تمحص الأسانيد فاقرأ لأبي بكر ابن العربي في كتابه (العواصم من القواصم)، وهو من أجمل الكتب التي تكلمت عن فترة الفتنة التي وقعت بين الصحابة، واقرأ لكتب أهل السنة التي تهتم بتمحيص الروايات التاريخية وفق منهج المحدثين ككتاب (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدّثين) للأستاذ الدكتور محمد أمحزون. مم نحذر؟ ونحن نقرأ كتب التاريخ نحذر من أن نميل مع رأي المؤلف إذ لابد من أن ننظر إلى أصل الرواية لا إلى رأيه وأن نكون منصفين ونحن نقرأ. ولابد أن نعتقد ونحن نقرأ تاريخ أصحاب رسول الله ﵌ أمرين اثنين: الأمر الأول: أن نعتقد أن أصحاب النبي ﵌ هم خير البشر بعد أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم؛ وذلك لأن الله ﵎ مدحهم والنبي ﵌ مدحهم وبيَّنَ في أكثر من حديث أنهم أفضل الأمة أو الأمم بعد أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم. الأمر الثاني: أن نعلم أن أصحاب رسول الله ﵌ غير معصومين؛ نعم نحن نعتقد العصمة في إجماعهم لأن النبي ﵌ أخبرنا أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة (١)، لكنْ كأفراد هم غير معصومين فالعصمة لأنبياء الله ﷿، أما غير الأنبياء فلا نعتقد بعصمة أحد منهم. إذًا لابد أن نعتقد أن الصحابة خير الأولياء وأن نعتقد أنهم غير معصومين.

(١) قال رسول الله ﵌: «إنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَجَارَ أمَّتِي أنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ». (رواه ابن أبي عاصم في السنة وحسنه الألباني).

1 / 18

فإذا جاءتك رواية فيها طعن في صحابي فلا تُقْدِمْ على ردّها وأيضًا لا تقْبَلْها حتى تنظر فيها، فإن وجدت السند صحيحًا فهذه من الأشياء التي هم غير معصومين فيها. وإن وجدت السند ضعيفًا فنبقى على الأصل وهو أنهم خير البشر بعد أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم. مدح الله ﵎ لأصحاب رسول الله ﵌: أما مدح الله ﵎ لأصحاب رسول الله ﵌ فهو في قول الله ﷿: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٢٩)﴾ (محمد:٢٩). مَدَح الله ﵎ جملة أصحاب رسول الله ﵌ إذ ًا الأصل فيهم المدح. مدح رسول الله ﵌ لأصحابه ﵃: وقد ثبت عن النبي ﵌ أنه قال: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (متفق عليه). فهذا مدح من رسول الله ﵌ لأصحابه رضوان الله ﵎ عليهم. لاتقبل كل ما خَطّ الرواة: يقول أبو عبد الله القحطاني في نونيته: لَا تَقْبَلَنَّ مِنَ التَّوَارِخِ كُلّ مَا ... جَمَعَ الرُّوَاةُ وَخَطّ كُلُّ بَنَانِ ارْوِ الحَدِيثَ المُنْتَقَى عَنْ أَهْلِهِ ... سِيمَا ذَوِي الأحْلَامِ والأسْنَانِ كَابْنِ المُسَيَّبِ وَالعَلَاءِ وَمَالِكٍ ... وَاللّيْثِ وَالزُهْرِيِّ أوْ سُفْيَانِ وهو يحذّر المخاطب أن لا يقبلن من التوارخ كل ما خط الرواة وجمعوا، وأن لا يقبل كل هذا التاريخ ففيه الغث والسمين، إذ ًا كيف؟ قال: إذا أردت تاريخًا صحيحًا

1 / 20

فهو الذي يرويه هؤلاء وأمثالهم من الثقات، لا كما يقول الكثيرون ممن يطعنون في سيرة أصحاب رسول الله ﵌، يقولون إن تاريخنا أسود مظلم قاتم، لا بل تاريخنا ناصع، جميل، طيب يتلذذ الإنسان بقراءته. تاريخ الطبري: إن أهم كتاب في التاريخ هو تاريخ الإمام الطبري وكثيرًا ما ينقل الناس عن تاريخ الطبري، أهل السنة ينقلون عن تاريخ الطبري، وأهل البدعة ينقلون عن تاريخ الطبري، أهل السنة يحتجون بتاريخ الطبري، وأهل البدعة يحتجون بتاريخ الطبري. لماذا يقدم تاريخ الطبري على غيره من التواريخ؟ لأمور كثيرة منها: ١ - قرب عهد الإمام الطبري من تلك الحوادث. ٢ - أن الإمام الطبري يروي بالأسانيد. ٣ - جلالة الإمام الطبري ومنزلته العلمية ﵀ ﵎. ٤ - أن أكثر كتب التاريخ إنما تنقل عنه. وإذا كان الأمر كذلك فنحن إذا أردنا أن نقرأ فلنذهب مباشرة إلى الإمام الطبري، ولكن أهل السنة يأخذون من تاريخ الطبري وأهل البدعة يأخذون من تاريخ الطبري، فكيف نوفّق بين هذا وهذا؟ تاريخ الطبري - كما قلنا - من مميزاته أنه لايحدّث إلا بالأسانيد، أهل السنة يأخذون الصحيح من أسانيد الطبري وأهل البدعة يأخذون الصحيح والغث والسمين، المهم أن يوافق أهواءهم.

1 / 21

منهج الإمام الطبري في تاريخه: لقد أراحنا الإمام الطبري ﵀ من هذه المسألة بمقدمة كتبها في أول كتابه، ليت الذين يقرؤون التاريخ يقرؤون هذه المقدمة (١). يقول الإمام الطبري في مقدمة تاريخه: «وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رُوِّيتُ من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مُسْنِدُها إلى رواتها. فما يكن في كتابي هذا من خير ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا من الصحة ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنه لم يُؤْتَ في ذلك مِن قِبَلِنَا وإنما أتِيَ مِنْ قِبَل ناقليه إلينا، وإنا إنما أدَّيْنا ذلك على نحو ما أدِّيَ إلينا». إن الإمام الطبري بهذه المقدمة التي قدم لكتابه ألقى العهدة عليك أيها القارئ فهو يقول لك: إذا وجدت في كتابي هذا خبرًا تستشنعه ولا تقبله فانظر عمن رُوِّيناه والعهدة عليه، وعليَّ أن أذكر من حدثني بهذا، فإن كان ثقة فاقبل وإن لم يكن ثقة فلا تقبل. وهذا الأمر قام به أكثر المحدثين، فحين ترجع إلى كتب الحديث غير الصحيحين اللذين تعهدا بإخراج الصحيح فقط، كأن ترجع إلى سنن الترمذي، أو أبي داود، أو الدارقطني، أو الدارمي أو مسند أحمد أو غيرها من الكتب تجدهم يذكرون لك الإسناد ولم يتعهدوا بذكر الصحيح فقط وإنما ذكروا لك الإسناد، وانظر أنت إلى الإسناد إذا كان السند صحيحًا فاقبل وإن لم يكن صحيحًا فرُدّه. والطبري هنا لم يتعهد أن ينقل الصحيح فقط إنما تعهد أن يحدثك عمن نقل عنه، يحدثك باسمه فإذا كان الأمر كذلك فلا عهدة على الإمام الطبري رحمه الله تعالى.

(١) بل ينبغي لكل إنسان إذا أراد أن يقرأ كتابًا من الكتب أن يقرأ مقدمة الكتاب حتى يعرف منهج المؤلف.

1 / 22