Muarana Al-Marwiyat
مقارنة المرويات
ناشر
مؤسسة الريان
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢ م
محل انتشار
بيروت - لبنان
ژانرها
سلسلة نقد المرويات (٣)
مقارنة المرويات
بقلم
إبراهيم بن عبد الله اللاحم
الجزء الأول
مؤسسة الريان ناشرون
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 2
مقارنة المرويات
1 / 3
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢ م
1 / 4
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فهذا هو القسم الثالث من سلسلة نقد المرويات: (مقارنة المرويات)، يصدر الآن في جزأين، يتضمنان ثلاثة أبواب، الباب الأول للمسائل المتعلقة بأهمية جمع الطرق، ومصادرها، وكيف يرتبها الباحث، والتعريف ببعض ما يمر بالباحث من مصطلحات، وإلمامة سريعة بوسائل النقد في عصر الرواية، وهذه كلها مقدمات لا بد أن يدركها الباحث، ويحسن التعامل معها.
ثم بعد ذلك في الباب الثاني القضايا المتعلقة بتفرد الراوي بالحديث، وفي الباب الثالث -وهو أطولها- قضايا الاختلاف، وعلل الأحاديث.
سرت في هذا القسم على الطريقة السابقة في القسمين الأولين: التعرض لأكبر قدر ممكن من قضايا النقد، والإكثار من ضرب الأمثلة في القضية المعينة، وذكر ما يقع من مخالفات للمنهج الصحيح في النقد في مناسبات ذلك، والحرص على ربط مسائل هذا العلم بعضها ببعض.
وقد سألني بعض الإخوان ممن قرأ الكتابين الأولين «الجرح والتعديل»، و«الاتصال والانقطاع»، عن منهج تخريج الأحاديث في هذه السلسلة، فبعض الأحاديث يطول تخريجها، وبعضها يقصر، ثم قد يوجد الحديث في مصادر عالية وقد ذكر في التخريج ما هو دونها ولم تذكر، فأحببت أن أوضح ذلك للقارئ.
فمنهج التخريج -باختصار- يرتكز على الاكتفاء بتخريج الحديث في
1 / 5
قضيته المقصودة عند ذكره، ولا يزاد عليها، فإذا كان المقصود طرق الحديث عن أحد رواته -مثلا-، كان التخريج لهذه الطرق فقط دون ما عداها.
يضاف إلى ذلك أن هذه الطرق إن كانت في شيء من الكتب الستة و«مسند أحمد»، فيكتفى بها، ولا يزاد عليها، مع الالتزام باستيعاب التخريج منها، وإن كان هناك طرق يحتاج إليها غير موجودة في هذه المصادر السبعة، يكون الخروج إلى غيرها من المصادر، وأذكر منها حينئذ ما يفي بالحاجة.
وعلى هذا فرب حديث في تخريجه مصادر نازلة، كالطبراني، والبيهقي، ونحوهما، مع أن الحديث موجود في مصادر عالية، مثل «مصنف عبدالرزاق»، و«مصنف ابن أبي شيبة»، و«مسند الحميدي»، وغيرها، والسبب هو ما ذكرته، أن ما في هذه المصادر من طرق موجود في الكتب الستة و«مسند أحمد»، فيكتفى بها، وما في المصادر النازلة غير موجود في هذه المصادر السبعة، فتضاف حينئذ.
وبهذين الضابطين في منهج التخريج أمكن تفادي إطالة الحواشي، فبها يتضخم الكتاب، وربما ضاع الغرض من التخريج، فعلى القارئ أن ينتبه لهذا حين يريد الاستفادة من التخريج.
وأود هنا أن أقدم شكري الجزيل للأخوين الفاضلين محمد بن صالح الدباسي، ومحمد بن عبدالله السريِّع، فقد تفضلا بقراءة هذا القسم، وتصحيحه بعد طباعته، ولفتا نظري إلى أشياء مهمة.
كما أشكر الباحثة الفاضلة الدكتورة سارة بنت عزيز الشهري، فقد كانت
1 / 6
لها يد خفية في إعداد هذا القسم، وقصة ذلك أنها أحسنت الظن بي، فطلبت أن أكون مشرفا على رسالتها للدكتوراه، وموضوعها: «الأحاديث التي ذكر البزار علتها في مسنده» جزء من أول الكتاب، فكان في ذلك فائدة كبيرة بالنسبة لي، فقد طورت بحرصها وجدها طريقة الإشراف على الرسائل لدي في جوانب كثيرة.
وأيضا -وهو المقصود هنا- استفدت من أسئلتها ومباحثاتها معي في إعداد هذا القسم، فكنت أتلمس فيما تسأل عنه وتناقش فيه حاجة الباحث الناظر في طرق الأحاديث والمقارنة بينها، فأضفت قضايا لم تكن موجودة، وأعدت ترتيب بعض القضايا وموضعها في الكتاب.
ثم إنني تلقيت من كثير من الإخوان بعض الملاحظات على الكتابين الأولين، فلهم مني شكري وتقديري، وآمل أن أتلقى منهم ومن غيرهم ما أسدد به هذا الكتاب أيضا، فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه.
أسأل الله تعالى للجميع التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
كتبه
إبراهيم بن عبدالله اللاحم
1 / 7
تمهيد
يقصد بمقارنة المرويات: عرض المرويات بعضها على بعض، والتأمل فيها، وتمييز ما يتفق منها وما يختلف، بغرض الوصول إلى رأي راجح في المتن المروي عنه ﷺ، هل يصح ويثبت عنه، أو لا؟ .
وتتضمن هذه المقارنة وهذا العرض: النظر في طرق الحديث الواحد، وشواهده، وما في الباب من أحاديث أخرى معارضة له، وما يروى عن أحد رواته مما يعارضه ويخالفه، والنظر كذلك في معارضة القرآن له أو موافقته، وأشياء أخرى غير هذه.
وما ينقل عن غيره ﷺ من الصحابة والتابعين، وكذلك الحوادث التاريخية، يطبق عليه هذا المنهج في الجملة، مع اختلاف الأصول التي يحاكم إليها النص موضع الدراسة.
والمتأمل في عمل أئمة النقد يرى بوضوح أن نقد المرويات بجميع أبوابه وقضاياه قائم على العرض والمقارنة، فما تقدم في الجرح والتعديل، وفي اتصال الإسناد وانقطاعه، أمكن الوصول إليه بهذه الطريقة، أي أن وضع الراوي في درجته اللائقة به، ومعرفة سماعه ممن فوقه، استخدم النقاد في الوصول إليه مقارنة مروياته فيما بينها، ومقارنة مروياته بمرويات غيره، لكن الذي ظهر لنا هو نتائج تلك المقارنة، وإدراك ذلك له أثره في نقد المرويات بالنسبة للمتأخر، وقد تقدمت الإشارة إلى هذه القضية في أماكن من القسمين السابقين، وتأتي
1 / 8
الإشارة إليها أيضا، فهي قضية في غاية الأهمية، يحسن التأكيد عليها في كل مناسبة.
والباحث هناك لا يقوم بمقارنة المرويات للوصول إلى درجة الراوي، ولا إلى سماعه ممن يروي عنه، إلا في النادر جدا، لكونه قد كفي هذا الأمر، ووصلته أحكام جاهزة مبنية على تلك المقارنة.
أما الآن فالوضع مختلف، فالباحث ليس بصدد معرفة درجة الراوي بصفة عامة، ولا معرفة سماعه ممن فوقه، وإنما غرضه الآن أدق من ذلك، وهو الوصول إلى نتيجة راجحة في حديث الراوي الذي بين يديه بخصوصه، إذ النتيجة هذه لا تتوقف على معرفة رتبة الراوي، وسماعه ممن فوقه، وإنما تتوقف كذلك على النظر في حديثه هذا هل أصاب فيه أو أخطأ؟ وإذا كان قد أصاب فيه فما درجة هذا الحديث؟ وإذا كان قد أخطأ فيه فما درجة هذا الخطأ؟ .
وعقدة المسألة ترجع إلى أمر في غاية الأهمية، إذا لم يتصوره الباحث ولم يدركه فليدع النقد، وليعلم أنه وقع في هوة تتخطفه الطير، أو تهوي به الريح في مكان سحيق، وهذا الأمر هو أن الأحكام التي أطلقها النقاد على الرواة وعلى سماع بعضهم من بعض، هي أحكام مجملة، لا مانع من وجود ما يخالفها في تفاصيل أحاديث الرواة حديثا حديثا، فالنقاد يوثقون الرواة مع تجويز الخطأ عليهم، بل والنص عليه، فليس هناك أحد معصوم من الخطأ، ويضعفون الرواة، مع تجويز أن يكونوا قد حفظوا بعض حديثهم، وليس هناك من سبيل إلى معرفة الحديث الذي بين يدي الباحث هل هو مما أصاب فيه أو مما أخطأ فيه، إلا بالنظر فيه، والقيام بالمقارنة المشار إليها.
1 / 9
والأمر كذلك بالنسبة للاتصال والانقطاع، فلا يكفي معرفة سماع الراوي ممن فوقه، بل لا بد أن يترجح سماعه ذلك الحديث بعينه منه.
واتضح مما تقدم أن الغرض من المقارنة، والبحث عن طرق وروايات أخرى للحديث، ليس تقوية الحديث فقط، كما هو مترسخ في أذهان كثير من الباحثين، فيرددون في مقدمات بحوثهم العبارة التالية أو نحوها: فإن كان الإسناد صحيحا اكتفيت به، وإن كان حسنا أو ضعيفا بحثت له عن متابعات وشواهد لتقويته، فهذه عبارة تومئ إلى خلل في منهج البحث، إذ لا يصح أصلا أن يكون غرض الباحث هو التفتيش عما يرفع الضعف، ويجبره، فإن هذه تعد نتيجة قصدها الباحث، كان لها أثرها في حرص كثير من الباحثين على رفع درجة الحديث بالمتابعات والشواهد، فوق أنها تومئ إلى فهم ناقص للغرض الذي من أجله نحتاج إلى جمع الطرق والشواهد، وأحاديث الباب، يضاف إلى ذلك إغفالها أمورا أخرى لا بد من عرض الحديث عليها.
فالباحث إذن وهو يجمع طرق الحديث وشواهده، وما يلزم النظر فيه، لا يصح أن يكون غرضه محددا، فغرضه الصحيح هو انتظار النتيجة المناسبة في النهاية، وليس البحث عنها، ولو كان هناك نتيجة يصح البحث عنها مسبقا لكانت بضد ما في أذهان هؤلاء الباحثين، ألا وهي البحث عما يضعف الحديث، لأسباب ليس هذا موضع شرحها، ويهمنا منها هنا كلام أئمة النقد، كما في قول عبدالرحمن بن مهدي: «لأن أعرف علة حديث هو عندي، أحب إلي من أن
1 / 10
أكتب حديثا ليس عندي» (^١).
وفي لفظ له: «لأن أعرف علة حديث هو عندي، أحب إلي من أكتب عشرين حديثا ليس عندي» (^٢).
ولهذا السبب استحب أئمة النقد الإكثار من كتابة الحديث، وكتابة الجميع دون انتقاء وانتخاب، مسند الحديث، ومرسله، مرفوعه وموقوفه، ومقطوعه، وأحاديث الضعفاء، ليعرض بعضه على بعض، فيتبين الصواب من الخطأ.
قال ابن المبارك: «ما جاء من منتقٍ -يعني منتقي الحديث- خير قط» (^٣).
وقال أيضا: «ما انتخبت على عالم قط إلا ندمت» (^٤).
وقال أيضا: «إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه ببعض» (^٥).
وروى الميموني، قال: «تعجب إلي أبو عبدالله -يعني أحمد بن حنبل- ممن يكتب الإسناد، ويدع المنقطع، ثم قال: وربما كان المنقطع أقوى إسنادا وأكبر، قلت: بينه لي، كيف؟ قال: يكتب الإسناد متصلا وهو ضعيف، ويكون المنقطع أقوى إسنادا منه، وهو يرفعه ثم يسنده، وقد كتبه هو على أنه متصل، وهو يزعم
_________
(^١) «علل الحديث» لابن أبي حاتم ١: ١٠.
(^٢) «معرفة علوم الحديث» ص ١١٢، و«الجامع لأخلاق الراوي» ٢: ٢٩٥، وانظر أيضا: ٢: ١٩١.
(^٣) «الجامع لأخلاق الراوي» ٢: ١٨٧.
(^٤) «الجامع لأخلاق الراوي» ٢: ١٥٦.
(^٥) «الجامع لأخلاق الراوي» ٢: ٢٩٦.
1 / 11
أنه لا يكتب إلا ما جاء عن النبي ﷺ، معناه: لو كتب الإسنادين جميعا عرف المتصل من المنقطع، يعني ضعف ذا، وقوة ذا» (^١).
ومراده أن الحديث الواحد يختلف على أحد رواته، فيروى عنه مرة متصلا، ومرة منقطعا، وقد يكون المنقطع أقوى إسنادا إليه، فإذا لم يكتب الإسناد المنقطع وكتب المتصل فقط لم تتبين هذه العلة.
وذكر أحمد بعض قرنائه في الطلب، ومتى عرفهم، فذكر إسحاق بن راهويه، فقال: «عند عبدالرزاق، وكان ربما انتخب الكتب، ثم أعود أنا فأكتب ما تركه» (^٢).
وقال يحيى بن معين: «اكتب الحديث خمسين مرة، فإن له آفات كثيرة» (^٣).
وقال أيضا: «لو لم نكتب الشيء من ثلاثين وجها ما عقلناه» (^٤).
وقال أيضا: «من لم يكتب حديث معاوية بن سلام مسنده ومنقطعه فليس هو صاحب حديث» (^٥).
وقال ابن المديني: «الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين لك خطؤه» (^٦).
وهكذا يقال في فهم الحديث والاستنباط منه، هو بحاجة إلى جمع طرقه
_________
(^١) «الكفاية» ص ٣٩٥، و«الجامع لأخلاق الراوي» ٢: ١٩١.
(^٢) «العلل ومعرفة الرجال» ٣: ٢٥٦.
(^٣) «الجامع لأخلاق الراوي»، ٢: ٢١٢.
(^٤) «تاريخ الدوري عن ابن معين» ٢: ٦٥٨، و«المجروحين» ١: ٣٣، و«الجامع لأخلاق الراوي» ٢: ٢١٢.
(^٥) «الجرح والتعديل» ٨: ٣٨٣.
(^٦) «الجامع لأخلاق الراوي» ٢: ٢١٢.
1 / 12
ورواياته، كما قال أحمد: «الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا» (^١).
والأصل عندهم هو الكتابة عن الراوي جميع ما عنده، ويسمونه الكتابة على الاستيعاب، أو على الوجه، أو على الولاء، وهو بضد الانتخاب والانتقاء، وإنما يحسن الانتخاب والانتقاء في مواضع، وقد لخص الخطيب البغدادي ذلك بقوله: «إذا كان المحدث مكثرا، وفي الرواية متعسرا، فينبغي للطالب أن ينتقي حديثه، وينتخبه، فيكتب عنه ما لا يجده عند غيره، ويتجنب المعاد من رواياته، وهذا حكم الواردين من الغرباء، الذين لا يمكنهم طول الإقامة والثواء.
وأما من لم يتميز للطالب معاد حديثه من غيره، وما يشارك في روايته مما يتفرد به، فالأولى أن يكتب حديثه على الاستيعاب، دون الانتقاء والانتخاب» (^٢).
واليوم قد ذهب عصر الكتابة والحفظ، ولم يبق إلا البديل عنه، وهو التفتيش عن الطرق والروايات، وأحاديث الباب الموافقة والمخالفة، والنظر فيها، ثم عرض الحديث على أصول أخرى غير الحديث، وهذه القضايا لها وسائل لتحقيقها، ولها أيضا قواعد يسير عليها الباحث.
وأبواب هذا الكتاب بفصولها الغرض منها شرح كيفية جمع الطرق، وأحاديث الباب، وكيفية عرض المرويات ومقارنتها، وما يحكم ذلك من قواعد
_________
(^١) «الجامع لأخلاق الراوي» ٢: ٢١٢.
(^٢) «الجامع لأخلاق الراوي» ٢: ١٥٥.
1 / 13
وضوابط، حرصت فيها على الإكثار من الأمثلة التطبيقية لكل قضية أتناولها، تكون مفتاحا لطالب العلم، ينطلق منها إلى التطبيق على أمثلة أخرى قد تمر به في بحوثه، فإن مجرد التنظير وشرح القواعد والضوابط غير كاف أبدا، فلا بد -بعد معرفتها- من طول الممارسة، والصبر، والأناة، لتتكون لدى الباحث ملكة يستطيع بها معرفة اختلاف الأسانيد واتفاقها، ثم كيفية عرض هذه الأسانيد وهذه الطرق للقارئ، مع فهم كلام النقاد حولها، وحسن الاستدلال به في موضعه، فإن نقد المرويات ذوق يرزقه الشخص إذا أخذ بأسبابه، وهو الذي كان النقاد يعبرون عنه بأنه إلهام أو كهانة (^١)، ويقصدون به أنه مجموعة من المعارف يتم توظيفها في لحظة معينة، للحكم على حديث، وغير المشارك لهم في هذه المعارف لا يتقبل ذهنه ما يصدر عنهم من أحكام، أو ما يسيرون عليه من قواعد.
فالمطلوب إذن من الناقد للسنة في العصور المتأخرة هو النظر في الطرق، وكثرة الممارسة، وإدمان القراءة في كتب النقاد، ليستطيع مشاركة النقاد في هذا العلم، بالقدر الذي تؤدي إليه الأسباب الممكنة، وهو -كما تقدم- إدراك الاتفاق والاختلاف في الأسانيد، وتشعبها، وعرض الروايات بعضها على بعض، وحسن عرض ذلك وتلخيصه عند الحاجة، مع فهم كلام النقاد، وعدم النفرة منه، ووضعه في مكانه المناسب له، وترتيبه، وشرحه، والاستدلال له، وقد يحتاج الباحث إلى تطبيق قواعدهم وما يسيرون عليه في مواقف لم يجد لهم فيها
_________
(^١) انظر: «الجرح والتعديل» ١: ٣٤٩، و«علل ابن أبي حاتم» ١: ١٠، و«معرفة علوم الحديث» ص ١١٣، و«الجامع لأخلاق الراوي» ٢: ٢٥٥.
1 / 14
كلاما، مع الحذر الشديد، ومزيد اليقظة والانتباه.
قال الخطيب البغدادي: «أشبه الأشياء بعلم الحديث: معرفة الصرف، ونقد الدنانير والدراهم، فإنه لا يعرف جودة الدينار والدرهم بلون، ولا مَسٍّ، ولا طراوة، ولا دنس، ولا نقش، ولا صفة تعود إلى صغر أو كبر، ولا إلى ضيق أو سعة، وإنما يعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف البهرج والزائف، والخالص والمغشوش، وكذلك تمييز الحديث، فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب، بعد طول الممارسة له، والاعتناء به» (^١).
وقال ابن رجب: «لا بد في هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدم المذاكرة به فليكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين، كيحيى القطان، ومن تلقى عنه، كأحمد، وابن المديني، وغيرهما، فمن رزق مطالعة ذلك، وفهمه، وفقهت نفسه فيه، وصارت له فيه قوة نفس وملكة - صلح له أن يتكلم فيه» (^٢).
وقال السخاوي: «الله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالا نقادا، تفرغوا وأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللين، فتقليدهم، والمشي وراءهم، وإمعان النظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت، مع الفهم، وجودة التصور، ومداومة الاشتغال، وملازمة التقوى والتواضع، يوجب لك -إن شاء الله- معرفة السنن
_________
(^١) «الجامع لأخلاق الراوي» ٢: ٢٥٥.
(^٢) «شرح علل الترمذي» ٢: ٦٦٤.
1 / 15
النبوية، ولا قوة إلا بالله» (^١).
والغرض من هذه النقول هنا التأكيد على طول الممارسة، وكثرة المطالعة في كتب النقاد الأوائل، ليستطيع فهم كلامهم، وعدم إنكاره، والسير على طريقتهم.
وسيأتي في مناسبات عديدة مزيد تأكيد على هذه القضية، وبيان القدر الذي يشارك الباحث فيه أئمة النقد.
* * *
_________
(^١) «فتح المغيث» ١: ٢٧٤.
1 / 16
الباب الأول
مقدمات في مقارنة المرويات
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: مصادر طرق الأحاديث واختلافها كثرة وقلة.
الفصل الثاني: مصطلحات في مقارنة المرويات.
الفصل الثالث: الرسم التوضيحي لأسانيد الحديث.
الفصل الرابع: النقد في عصر الرواية.
1 / 17
الفصل الأول
مصادر طرق الأحاديث واختلافها كثرة وقلة
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: مصادر طرق الأحاديث.
المبحث الثاني: كثرة طرق الأحاديث وقلتها.
1 / 19
المبحث الأول
مصادر طرق الأحاديث
أول ما يذكر في مصادر طرق الأحاديث كتب الرواية الجامعة، وهي التي تعرف بأمّات كتب السنة، مثل الصحاح، والجوامع، والمصنفات، والسنن، والمسانيد، والمستخرجات، وما ألف على شاكلة هذه الكتب تحت مسميات أخر، مثل كتاب الطحاوي «شرح مشكل الآثار»، وكتاب الطبري «تهذيب الآثار»، وغيرها، فهذه كتب ألفت بقصد جمع السنة النبوية، وفق منهج كل مؤلف، وغرضه من تأليف كتابه، فهي إذن المصدر الأساس لطرق الأحاديث.
ويلتحق بهذه الكتب ما ألفه أئمة الحديث على طريقة الإفراد، أي إفراد موضوع معين بالتأليف، ومن أمثلة هذا النوع من المؤلفات: «الصلاة» لأبي نعيم، و«الزهد» لوكيع، ولهناد بن السري، ولأحمد، و«فضائل الصحابة» لأحمد، و«الأدب المفرد»، و«جزء القراءة خلف الإمام» للبخاري، و«الشمائل المحمدية» للترمذي، و«خصائص علي» للنسائي، و«تعظيم قدر الصلاة» للمروزي، و«الأموال» لأبي عبيد، ولابن زنجويه، و«الطهور» لأبي عبيد، و«الدعاء» للطبراني، وكتب ورسائل ابن أبي الدنيا، وغير ذلك كثير جدا.
ويتميز هذا النوع من المؤلفات بكثرة الأحاديث ووفرة طرقها، خاصة منها ما كان موضوع الكتاب فيه ضيقا، إذ المجال رحب للمؤلف ليسوق من الطرق ما يريد، لا سيما إذا تخفف من شرطه، فكتاب (الأدب) في «صحيح البخاري»،
1 / 21
لا يقارن عدد الأحاديث وطرقها فيه بما في كتابه الآخر «الأدب المفرد»، لأن الأول في ضمن كتاب شامل للأدب وغيره، مع نزول شرطه في «الأدب المفرد»، وهكذا كتابه الآخر «جزء القراءة خلف الإمام» فيه من الأحاديث وطرقها ما يفوق بكثير ما في كتابه «الصحيح» مما يتعلق بهذه المسألة.
وهكذا يقال فيما ألف في هذا العصر -عصر الرواية- من الأجزاء الحديثية التي تجمع أحاديث صحابي واحد، أو راو واحد من رواة الحديث، أو ما ينفرد به راو، أو جمع طرق حديث معين، ونحو ذلك.
ومن مصادر الطرق أيضا ما ألف في عصر الرواية مما له صلة بعلوم أخرى، كالتفسير، والفقه، والعقائد، والتاريخ، والأدب، وغير ذلك.
ففي التفسير يذكر «تفسير الطبري»، و«تفسير ابن أبي حاتم»، و«تفسير سعيد بن منصور».
وفي الفقه مثل كتاب «الحجة على أهل المدينة» لمحمد بن الحسن، و«الأم» للشافعي، و«الأوسط» لابن المنذر، و«شرح معاني الآثار» للطحاوي، وغيرها.
وفي العقائد مثل «الشريعة» للآجري، و«السنة» لعبدالله بن أحمد، و«التوحيد» لابن خزيمة، و«الإيمان» لابن منده، و«الأسماء والصفات» للبيهقي، وغيرها.
وفي التاريخ مثل «سيرة ابن إسحاق»، و«طبقات ابن سعد»، و«تاريخ الطبري».
1 / 22