Monuments of Ancient Near Eastern Civilizations
معالم حضارات الشرق الأدني القديم
ناشر
دار النهضة العربية للطباعة والنشر
شماره نسخه
١٤٠٨هـ
سال انتشار
١٩٨٧م
ژانرها
مقدمة
كان الاعتقاد السائد لدى الكثيرين إلى زمن قريب أن دراسة الحضارات القديمة لا يتناولها بالبحث إلا بعض الخاصة من المرفهين أو المترفين الذين يشبعون هوايتهم في التعمق في الدراسة والبحث عن المجهول؛ ولكن نظرًا لأن كل ما تزخر به الحياة الراهنة من منتجات وخبرات وعادات وتقاليد ومظاهر مختلفة أخرى؛ إنما ترجع في أصولها إلى مختلف الجهود البشرية، وقد وضعت أسسها منذ عصور سحيقة وتطورت بمرور الزمن حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن فإن هذه الدراسة لم تعد موضوعًا قاصرًا على فئة من الناس بل ولا يمكن أن تفضل دراسة حضارة أمة على حضارة أمة أخرى غيرها؛ ولذا أخذ الاهتمام بها يتزايد حتى أصبحت دراستها منتشرة في جميع أنحاء العالم المتمدين وكثيرًا ما تتضافر جهود الباحثين من مختلف الدول والشعوب في دراسة الحضارات القديمة وتشجيعها على اعتبار أنها التراث الإنساني الذي استمدت منه مختلف الأمم أصول حضاراتها الحالية، ومن ثم يعملون على توفير أسباب هذه الدراسة بموالاة الكشوف الأثرية وترميم الآثار المختلفة ويعكفون على دراسة اللغات القديمة حتى يتمكنوا من وضع صورة حية أو قريبة من الواقع لهذه الحضارات ومظاهرها المختلفة، وهكذا تشعبت فروع البحث وتعددت نواحيه حتى أصبح
1 / 5
من المستحيل أن يلم باحث أو دارس بحضارات مختلفة بل ولا بمختلف نواحي حضارة واحدة؛ وعلى ذلك فإن وضع مؤلف واحد لعدد من الحضارات لا يمكن أن يكون جامعًا مانعًا يرضي كل الرغبات ويسد كل الفجوات.
ومع إنني ترددت كثيرًا في وضع هذا المؤلف؛ إلا أنني وجدت أن الضرورة تقضي بأن أُيَسِّر على طلبتي بعض الشيء وأجنبهم مشقة البحث في العديد من المراجع لمجرد سرعة الاطلاع على المعالم الرئيسية لحضارات الإقليم الذي نعيش فيه -الشرق الأدنى- على أنه ينبغي أن لا يفهم من ذلك أن في هذا المؤلف غنىً عن الاطلاع على مختلف المراجع المتخصصة في دراسة هذه الحضارات ونواحيها المتعددة.
وقد يبدو للقارئ أنني في تناول هذه الحضارات لم أراعِ ترتيبها حسب أهميتها أو أسبقيتها في الزمن ولكنني أود أن ألفت النظر إلى أنني فضلت اتباع نفس الترتيب الذي سبق أن اتبعته في كتابي السابق: "معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم" استكمالًا للفائدة المرجوة؛ إذ إنني جردت ذلك الكتاب من كل ما يشير إلى المظاهر الحضارية إلا فيما يختص بالعصور السابقة للكتابة على أساس أنها الوسيلة الوحيدة لتتبع تاريخ تلك العصور، وهكذا يمكن اعتبار هذا المؤلف مع سابقه متكاملين
1 / 6
بالنسبة لمن يود الاطلاع على المعالم المهمة لتاريخ وحضارات الشرق الأدنى القديم.
ولا يسعني فى هذا المجال؛ إلا أن أقدم واجب الشكر إلى كل من عاونني على إخراج هذا الكتاب الذي أرجو أن يحقق الغرض المطلوب، والله ولي التوفيق.
محمد أبو المحاسن عُصْفُور
1 / 7
مقدمة الطبعة الثانية
ما كنت أظن أنني سأعيد طبع هذا الكتاب بعد مرور نحو من عشرة أعوام على ظهور طبعته الأولى؛ إذ اعتقدت أن موضوعه سيكتب فيه خلال تلك الفترة غير أن ما ظهر من مؤلفات لا يتناول إلا حضارة قطر أو قطرين فحسب من أقطار الشرق الأدنى وهي في جملتها تسهب في ذلك وتتعرض للكثير من التفصيلات التي تجعل من العسير الإلمام بالمعالم الرئيسية لحضارات إقليم الشرق الأدنى أو تكوين فكرة شاملة عنها.
ومن خلال تجربتي في التدريس؛ وجدت أن كتابي هذا يناسب طلبة أقسام التاريخ في الجامعات العربية كمًّا وكيفًا؛ كما أنني لا أشك في أن الذين تبهرهم رؤية آثار أسلافنا يودون لو أن هذه الآثار تفصح لهم عن أسلوب الحياة الذي اتبعه أولئك الذين خلفوها وأن توضح لهم مظاهر حياتهم؛ فعسى أن يكون في هذا الكتاب ما يفي -قدر الإمكان- بهذا الغرض وتوخيت فيه البساطة بحيث يستطيع القارئ العادي أن يستوعبه وأن يكوِّن فكرة عامة لا بأس بها عن أصحاب تلك الحضارات التي كانت أقدم ما ظهر من حضارات في العالم والله ولي التوفيق ... المؤلف
1 / 8
محتوى الكتاب
الموضوع صفحة
مقدمة هـ
قائمة بالأشكال م
تمهيد ١
أولًا: حضارة مصر ٥- ١٤٤
الأسرة: ١٦، الملك: ٢٧، المسكن: ٣٦،
الملابس والزينة: ٤٣، الإدارة: ٥٨،
الديانة: ٦٤، القضاء: ٩٤، العسكرية: ٩٧،
الحياة الاقتصادية: ١٠٠، العلوم والآداب: ١٢٤،
الفنون: ١٣١.
ثانيًا: بلاد العرب ١٤٥- ١٥٤
ثالثًا: الإقليم السورى ١٥٥-١٧١
"أ" الأموريون: ١٥٥.
"ب" الكنعانيون والفينيقيون: ١٥٨.
1 / 9
الموضوع صفحة
"ج" الآراميون:١٦٦.
"د" العبرانيون:١٦٨.
رابعًا: آسيا الصغرى ١٧٢- ١٩٣
الأسرة: ١٧٣، الملك: ١٧٥، الإدارة: ١٧٦،
العسكرية: ١٧٨، الديانة: ١٨٠،
الحياة الاقتصادية: ١٨٧، العلوم والفنون: ١٨٨.
خامسًا: بلاد النهرين ٩٤- ٢٦٤
الأسرة: ١٩٦، الملك: ١٩٩، المنازل: ٢٠٢،
الملابس والزينة: ٢٠٥، الإدارة: ٢١٠،
العسكرية: ٢١٢، الديانة: ٢١٦،
القضاء: ٢٢٣، الحياة الاقتصادية: ٢٢٩،
العلوم والآداب: ٢٤٢، الفنون: ٢٥٥
سادسًا: إيران ٦٥- ٢٨٨
الحياة الاجتماعية: ٢٦٨، الدولة: ٢٧٢،
العسكرية: ٢٧٦، الديانة: ٢٧٨، الفنون:٢٨٣
1 / 10
الموضوع صفحة
خاتمة ٢٨٩
المراجع العربية ٢٩٥
المراجع الأجنبية ٢٩٦
فهرس الأعلام ٢٩٩
1 / 11
قائمة بالأشكال
الشكل صفحة
١- تماثيل سيدات من العصر قبل التاريخي ١٧
٢- تمثال منقرع وزوجته ١٨
٣- فريق من المتصارعين ٢٤
٤- راقصات يمثلن لوحة حية ٢٥
٥- لعبة محاولة معرفة الضارب ٢٦
٦- لعبة الثعبان ٢٦
٧- أحد الملوك بالزِّي القديم ٣٠
٨- نموذج من الطين لمنزل من عصر ما قبل الأُسَر ٣٧
٩- رسم تخطيطي لمنزل من كاهون ٤٠
١٠- رسم تخطيطي لمنزل من العمارنة ٤١
١١- الزِّي التقليدي في الدولة القديمة ٤٥
١٢- الزِّي العادي للمرأة ٤٩
١٣- سيدة أثناء تصفيف شعرها ٥٥
١٤- إلهة السماء في هيئة بقرة ٦٧
١٥- إلهة السماء في هيئة امرأة ٦٨
١٦- إله النيل في هيئة رجل ١٠١
١٧- نساء يقمن بتذرية القمح ١٠٣
1 / 13
الشكل صفحة
١٨- زورق من البردي به صائد سمك ١٠٩
١٩- طريقة بناء السفن ١١٢
٢٠- نقل تمثال ضخم ١١٧
٢١- نبيل على محفة يحملها حماران ١٢٠
٢٢- خطأ الفنان عند خروجه على وضع تقليدي ١٣٣
٢٣- ضخامة الشخص المهم بالنسبة لمن حوله في النقوش ١٣٥
٢٤- هَرَمَي خفرع ومنقرع وأمامهما معابدهما الجنزية ١٤٠
٢٥أ- معبد الشمس ١٤١
٢٥ب- معبد من الدولة الوسطى ١٤٢
٢٦- نموذج من الخزف لعربة يجرها الخيل ١٦١
٢٧- نحت عاج يمثل مزج الفن الفينيقي بالفن المصري ١٦٣
٢٨- تطعيم بالعاج به طابع مصري ١٦٤
٢٩- تابوت في هيئة آدمية لأحد ملوك صيدا ١٦٥
٣٠- تابوت لملك من ببلوس عليه موكب جنزي ١٦٦
٣١- عربة مصرية تهاجم عربة حيثية ١٧٩
٣٢- إله يقف على ظهر حيوان ١٨١
٣٣- ملك يتعبد إلى إله في هيئة ثور ١٨٢
٣٤- منظر يبين اتجاه المواكب نحو مركز واحد ١٩٠
٣٥- منظر يبين أشخاصًا يغلب عليهم القصر وعدم تناسق الأعضاء ١٩١
٣٦- تمثال غريب اختصرت رأساه ١٩١
1 / 14
الشكل الصفحة
٣٧- تمثال مجنح لأبي الهول ١٩٢
٣٨- نقش حيثي ١٩٣
٣٩- الملك أورنمو يحمل سلة البناء ٢٠١
٤٠- منزل من منازل جنوب العراق ٢٠٣
٤١- نقبة للرجال تنتهي بصفوف من الهداب ٢٠٥
٤٢- زي سابغ يكشف أحد الذراعين ٢٠٧
٤٣- الإله يلبس تاجًا عليه قرون تتلاقى ٢٠٨
٤٤- ملك يلبس تاجًا مخروطيًّا يعلوه سن مدبب ٢٠٩
٤٥- عقود من الذهب ٢٠٩
٤٦- رمز الإله آشور ٢١٨
٤٧- نموذج من البرونز لمركبة تجرها أربعة حمير ٢٣٧
٤٨- خريطة للعالم بها موقع بابل ٢٤٩
٤٩- لوح عليه نظرية هندسية ٢٥١
٥٠- قيثارة مثل بها رأس ثور ٢٥٦
٥١- إبريق من الحجر نحتت به حيوانات ٢٥٧
٥٢- تمثال مغنية أحد المعابد ٢٥٨
٥٣- تمثالان تبدو فيهما ضخامة الساقين ٢٥٩
٥٤- منظر لمدينة بابل ٢٦٤
٥٥- مدينة إيرانية قديمة ٢٧٠
٥٦- نماذج من العملة الفارسية ٢٧٥
1 / 15
الشكل صفحة
٥٧- معبد النار فى نقش رستم ٢٨٠
٥٨- الإله أهورا مزدا ٢٨١
٥٩- دبابيس من البرونز ٢٨٣
٦٠- ثور مجنح من مدخل قصر اجزر كسيس ٢٨٥
٦١- أعمدة تنتهى برءوس حيوانات ٢٨٧
1 / 16
تمهيد
الحضارة:
الحضارة في اللغة خلاف البداوة؛ لأنها تدل على سكنى الحضر أو اجتماع الناس للتعاون على أسباب المعيشة ودفع المضرات؛ فهي تمثل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي وتقابل كلمة: "Civilisation".
وبما أن كل مجتمع -مهما كان بدائيًّا- يصيب شيئًا من التطور ببذل الجهد والكفاح الدائم فإن هذا اللفظ خرج عن مدلوله الأصلي إلى مدلول عام شامل فأصبحت كلمة الحضارة تطلق على كل إنتاج مادي أو أدبي للإنسان سواء كان إنتاجًا راقيًا أو بدائيًّا وعلى ذلك يمكن القول بأنه لا يوجد مجتمع دون حضارة، وكثيرًا ما يختلط هذا اللفظ في معناه بكلمة الثقافة ولكن إذا ما تأملنا الأصل اللغوي لهذه الكلمة الأخيرة لوجدنا أنها تدل على التطور العقلي عن طريق التدريب والتعليم، وهي تقابل لفظ: "Culure" كذلك يختلط اللفظان: الحضارة والثقافة، في معناهما بكلمة المدنية وإن كان اختلاط هذه الأخيرة بكلمة الحضارة أعم من اختلاطها بالثقافة؛ إلا أن المدنية أصلا تدل على سكنى المدن. وقد تطور معناها حتى أصبح يدل على أقصى ما يصل إليه مجتمع ما في ميدان حضارته أثناء عصر من العصور. وهكذا نجد أن كتب اللغة تميل إلى ترتيب مراحل التطور الاجتماعي إلى البداوة ثم الحضارة وأخيرًا المدنية، على اعتبار أن البداوة تقوم على حياة الحيوان من صيد ورعي فمن دَأْبِهَا التنقل وعدم الاستقرار.
1 / 1
والحضارة تدل على سكنى الحضر والانتظام في مجتمعات تتعاون في معيشتها أما المدنية فتدل على سكنى المدن والانتظام في مجتمعات أكثر تعقيدًا ورقيًّا أو كما تقول بعض كتب اللغة: إنها تمثل الانغماس في حياة الدَّعة والترف.
فالحضارة على أي حال تمثل كل مظهر من مظاهر الإنتاج البشري أو غالبًا ما يحددها سلوك الإنسان وطرق معيشته وتفاعله مع البيئة؛ ولذا كان من الطبيعي أن تختلف كل حضارة في مظاهرها عن الحضارات الأخرى؛ فلكل حضارة من الحضارات -قديمها وحديثها- مظاهر مميزة وعلى هذا يميز الناس بين الحضارة المصرية والحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية وهكذا.
ومن العسير إبراز مميزات كل من تلك الحضارات وخاصة القديمة منها لأننا -من جهة- مازلنا نشعر بقصور الدراسات المتعلقة ببعض مظاهرها ومما يزيد المشكلة تعقيدًا أن بعض المدونات لم يمكن تفسيرها تمامًا حتى الآن؛ كما أننا -من جهة أخرى- نستشهد على مظاهر هذه الحضارات بمخلفات أثرية نحن على يقين من أنها لم تكن منتشرة بين عامة الناس؛ وإنما هي من مخلفات ثراة القوم وخاصتهم فضلًا عن كونها تمثل أرقى ما كانوا يمتلكونه وأفضل ما وصلت إليه الفنون في أزمانهم؛ فهي بالأحرى تمثل مخلفات المدنية لا مخلفات الحضارة، ومع كلٍّ ينبغي أن لا نقلل من شأنها عند مقارنة الحضارات المختلفة بعضها بعضًا إذ لا سبيل إلى التعرف إلى مظاهر هذه الحضارات إلا عن طريقها.
ومع أن الكثيرين قد يتساءلون عن الأسباب التي تدعو الإنسان إلى الاحتفاظ بكثير من منتجاته الحضارية وهو ما أتاح لنا فرص العثور على
1 / 2
ما يمثل هذه المنتجات في الحضارات القديمة؛ فإن من الممكن أن يعزى ذلك إلى عاملين أساسين هما: ديانة أهل هذه الحضارات وفنونها.
والديانة شأنها شأن الحضارة خرجت في معناها عن مدلولها الأصلي؛ لأنها في اللغة كالدين لها معاني مختلفة منها الجزاء والمكافأة والطاعة والانقياد والعادة والعبادة، وهي كذلك اسم لجميع ما يعبد به الله والملة؛ إلا أن المعنى المألوف هو أنها: "الاعتراف بقوة أو قوى تفوق البشر، تسيطر عليهم، ويجب عليهم إطاعتها ويؤثر اعترافهم بها في سلوكهم وفي عقليتهم"، وقد تختلط في معناها بالعقيدة؛ ولكن هذه الأخيرة تدل في اللغة على عقد الرأي أو عقد القلب والضمير على أمر معين كما تدل على الاقتناء والجمع؛ فإذا قيل اعتقدت كذا أي عقدت عليه القلب والضمير، واعتقدت ضيعة ومالًا أي اقتنيتهما؛ إلا أن المعنى الشائع للعقيدة هو أنها: "إيمان بتفوق قوة من القوى"؛ ولكن ليس من الضروري أن تسيطر هذه القوة على البشر. وقد تطور هذا فأصبحت العقيدة اسمًا لما يدين به الإنسان. ومن الواضح أن الإنسان في الحضارات القديمة كانت له ديانات وعقائد عامة ولكننا لا نعرف شيئًا عن أصولها ونشأتها وطقوسها ومذاهبها؛ إلا من عصور متأخرة وخاصة بعد أن عرفت الكتابة؛ ومع هذا فإن ما نعرفه عنها لا يعد كافيًا لارتباطها بعواطف الإنسان وإحساساته الداخلية وهذه لا يمكن إدراكها؛ لأنها لم تدون في أغلب الأحيان -ورغم هذا يمكننا أن نتصور بأنها كانت ساذجة بسيطة في أول الأمر ثم تطورت ودخلتها زيادات وحواشي أخرجتها عن شكلها الأصلي، وما دام الأمر كذلك؛ فإن الإنسان -سواء في ديانته أو عقائده- يحاول أن يسترضي هذه القوى بكل ما لديه من وسائل مادية وغير مادية فشيَّد لها المعابد
1 / 3
وقدَّم القرابين وقام بمختلف الطقوس من أجلها. وهذه بالطبع يبدو أثر البيئة فيها واضحًا هي الأخرى.
ولما كانت الفنون هي كل ما يخرجه ذوق الإنسان ليحقق فائدة عملية في حياته وليرضي به غريزة من غرائزه. وبما أن الإنسان تميز بالذوق السليم والشعور بالجمال فمن الممكن القول: بأن الفن هو "الإنتاج الذي يرضي به الإنسان شعوره بالجمال"؛ لذا خضعت فنونه في كل من الحضارات القديمة إلى أصول وقواعد تميزت بها -وإن كانت قد وقعت في بعض الأخطاء- إلا أنها لم تحد عنها محافظة على تقاليدها وقواعدها؛ وبالتالي فإن كلا من هذه الفنون قد تأثرت هي الأخرى كذلك بالبيئة التي نشأت فيها وخضعت لمؤثراتها المختلفة.
وعلى هذا يمكن القول بأن أهم المخلفات الأثرية التي تتخذ منها شواهد وأدلة على مظاهر الحضارات المختلفة ترتبط بفنون أهل هذه الحضارات ودياناتهم ارتباطًا وثيقًا؛ إلا أن كل المظاهر الحضارية في أي مجتمع من المجتمعات قوامها تفاعل الإنسان في هذا المجتمع مع بيئته التي عاش فيها؛ ولذا تنوعت هذه المظاهر وتنوعت بين قطر وآخر وبين أمة وأخرى ولا يحدث بينها من التشابه إلا بقدر تشابه بيئاتها وإن كانت بعض المظاهر تجد سبيلها من مكان إلى آخر عن طريق النقل والمحاكاة وسنتناول فيما يلي أهم المظاهر الحضارية في مختلف أقطار الشرق الأدنى.
1 / 4
أولًا: حضارة مصر
التعرف على الحضارة المصرية:
لعل من أشق الأمور دراسة الحضارة المصرية دراسة شاملة وافية؛ لأنها وإن تناولها الباحثون بالدراسة في عصور مختلفة؛ إلا أن الكشف عن أسرار اللغة المصرية لم يتم إلا منذ فترة وجيزة نسبيًّا وعلى ذلك ظلت حضارة مصر غامضة بالنسبة لهؤلاء الباحثين رغم أن آثارها كانت تحيط بهم وفي متناول أيديهم؛ فاليونان مثلًا صادفتهم عقبات كثيرة في تفهم تلك الحضارة؛ بل إنهم حينما جاءوا إلى مصر دهشوا أشد دهشة لما شاهدوه من حضارة في وادي النيل؛ حيث كانوا يعتقدون بأنهم أرقى الأمم حضارة وثقافة، وقد بدت لهم مظاهر الحضارة المصرية غاية في الغرابة والغموض وكانوا بين مقدر لها وساخر منها؛ ولكن الأغلب أنهم كانوا يكنون لها الاحترام العميق مع أنهم عجزوا عن تفسير كثير مما شاهدوه من الاختلافات بينها وبين حضارتهم، وقد استهوتهم كذلك بعض قواعد السلوك عند المصريين؛ ولذا نجدهم يقارنون مظاهر هذه الحضارة بمظاهر حضارتهم فيذكر هيرودوت مثلًا: بأن المصري كان يكتب من اليمين إلى اليسار في حين تكتب شعوب العالم الأخرى من اليسار إلى اليمين وفي مصر تخرج المرأة إلى الأسواق وتقوم بالعمل في الحقول؛ بينما يظل الرجل في البيت؛ ليقوم بالغزل أو النسيج، كما أن النساج المصري كان يدفع لحمة النسيج من أعلى إلى أسفل وهذا كله عكس ما يحدث في البلاد الأخرى.
ومع أن العالم القديم ظل ينظر إلى المصريين على أنهم شعب غريب
1 / 5
الأطوار؛ إلا أنه كان يتطلع إلى مظاهر حضارتهم وينظر إليها نظرة التقديس والإجلال وكانت نقوشهم وطقوسهم الدينية التي كان يقوم بها الكهنة تمثل عالَمًا مليئًا بالأسرار والغموض وكثيرًا ما طمع اليونانيون في الوصول إلى دراسة تلك الأسرار؛ ولهذا نجد أن بعضهم وخاصة في عهد البطالمة يندمجون في الأوساط الكهنوتية ويقومون بالطقوس الدينية؛ ولكنهم لم يستطيعوا فهم كل تلك الألغاز التي أطاحت بهم؛ ومع هذا ظلوا على احترامهم وتقديرهم لرجال العلم والكهنة والمعبودات المصرية حتى وحدوا بين بعضها وبين الآلهة اليونانية.
ومنذ العصر اليوناني استمر الغموض يحيط بالنقوس المصرية لم يستطع أحد تفسيرها رغم المحاولات العديدة التي بذلت في سبيل حل طلاسمها؛ ولكن طريقة تلك الكتابة جعلت من المحتم الوصول إلى تفسيرها؛ فمعظمها كتابة رمزية تصويرية وكانت دقة المصري وعنايته الفائقة بتدوين أهم الحوادث خير مساعد للعلماء في مهمتهم؛ فقد صور الأشخاص والمناظر المختلفة وكتب فوقها ما يدل عليها وكانت أولى النتائج المهمة في سبيل حل طلاسم اللغة المصرية هي: ما وصل إليه العالم الإنجليزي توماس ينج "Tomas Young" الذي قرر بأن الكتابة المدونة فوق المناظر المختلفة؛ هي شرح لتلك المناظر وأن أسماء الملوك الممثلين في تلك المناظر توضع داخل أشكال بيضاوية أي: خراطيش، وأن هذه الكتابة ليست كلها رمزية تصويرية أي أن أشكالها "رموزها" لا يدل كل منها على معنى؛ وإنما بعض هذه الأشكال أو الرموز له قيمة صوتية فقط ولا يدل على معنىً قائم بذاته. وفي نفس الوقت أو بعده بقليل عثرت الحملة الفرنسية على حجر رشيد وتوصل شمبليون من مقارنة
1 / 6
الخراطيش المكتوبة به إلى نفس النتيجة التي وصل إليها "ينج" كما توصل إلى القيمة الصوتية لبعض الرموز وبدأ يضع معجمًا للحروف والعلامات الهيروغليفية.
وتتابعت جهود العلماء بعد ذلك؛ فأمكن تفسير اللغة المصرية وفهم كل ما أمكن العثور عليه من آثار مكتوبة، ومع أن الآثار المصرية مليئة بآلاف النصوص والوثائق؛ إلا أنها ليست كافية للتعرف على كل نواحي الحياة المصرية؛ لأن كل ما كتب على الآثار المختلفة لا يخرج عن كونه شرح لبعض المناظر الدينية المتكررة مع الإشارة إلى الآلهة والقرابين المختلفة بالإضافة إلى أسماء الملوك وبعض الأحداث التاريخية المهمة التي حدثت في عهدهم أو عهد أسلافهم. أي أن المحصول من هذا الإنتاج الضخم كان محصولًا ضئيلًا للغاية لا يتناسب إطلاقًا مع وفرة الوثائق المكتوبة؛ فالاعتماد إذن على هذه المدونات وحدها لا يكفي لإعطاء فكرة كاملة عن الحضارة المصرية في أشكالها المختلفة.
مقومات الحضارة المصرية: وكانت العقيدة التي يدين بها المصري خير ما أمدنا بفكرة واضحة عن الحضارة المصرية إذ إن المصري اعتقد في البعث وأنه سيحيا حياة أخرى أبدية -من جهة- ولأنه أحب حياته الدنيا وطمع في أن يجعل من حياته الأخرى صورة مطابقة لها -من جهة أخرى- صور مناظر حياته على جدران مقبرته أملًا في أن تتحول هذه المناظر إلى حقيقة واقعة عند البعث، ومع أننا نعتقد بأن هذه المناظر قد صورت على شاكلة ما كان يقوم به في حياته الدنيا؛ إلا أننا مع هذا نلاحظ
مقومات الحضارة المصرية: وكانت العقيدة التي يدين بها المصري خير ما أمدنا بفكرة واضحة عن الحضارة المصرية إذ إن المصري اعتقد في البعث وأنه سيحيا حياة أخرى أبدية -من جهة- ولأنه أحب حياته الدنيا وطمع في أن يجعل من حياته الأخرى صورة مطابقة لها -من جهة أخرى- صور مناظر حياته على جدران مقبرته أملًا في أن تتحول هذه المناظر إلى حقيقة واقعة عند البعث، ومع أننا نعتقد بأن هذه المناظر قد صورت على شاكلة ما كان يقوم به في حياته الدنيا؛ إلا أننا مع هذا نلاحظ
1 / 7
بأنه حرص على أن يجعل من تلك الحياة حياة مثالية، وتغالى في إظهارها بمظهر الحياة دائمة السعادة والرفاهية. وقد وصل في ذلك أحيانًا إلى درجة السَّفَهِ حيث حرص على أن يأخذ معه إلى العالم الآخر كل ما ظن أنه سيحتاج إليه من آلات وأدوات وحيوانات أليفة.
ومع أن كثيرًا من حضارات العالم القديم قد درست عن طريق دراسة آثار المنازل ومخلفات مناطق السكن في تلك الحضارات؛ إلا أننا في مصر نجد أن هذه المنازل قد اختفى معظمها ولم يبقَ منها إلا النادر فقط؛ حيث كان المصري يعتقد بأن حياته في الدنيا حياة زائلة وأن الحياة الآخرة هي الحياة الأبدية فكان يقيم مساكنة من موادَّ خفيفة سريعة البلى واستعمل لذلك اللَّبِن والأخشاب ولم يستعمل الحجر؛ إلا نادرًا وعلى الأخص حول الأبواب والنوافذ فقط ولم يبقَ من المدن المصرية التي كانت آهلة بالسكان؛ إلا أمثلة شاذة مثل: كاهون وتل العمارنة، والسبب في بقائهما هو أنهما قد بُنِيَتَا لغرض خاص ثم أهملتا بعد بنائهما والإقامة فيهما قليلًا وهجرهما السكان بعد ذلك. ويشبه ذلك أيضًا بعض القرى التي أقيمت من أجل عمال الجبانات مثل: مساكن عمال جبانتي الجيزة وسقارة؛ ولذا كان من الصعب استنتاج صورة واضحة للمساكن المصرية في عصورها المختلفة؛ ولكن أمكن التوصل إلى ذلك عن طريق البقايا المتخلفة من تلك المدن ومن مساكن العمال ومن بعض النماذج التي وضعت في المقابر لغرض من الأغراض السحريه أو لمجرد اللهو والتسلية. وكذلك من النقوش التي تمثل تلك المنازل.
أما الفن المصري فهو جدير بالإعجاب وقد وصل إلى درجة عالية من
1 / 8
الرقي في كل نواحيه المختلفة من عمارة ونقش ونحت وأدب وموسيقى، وقد بنيت هذه على أصول مستقلة فاقت في معظمها كل فنون الشعوب الأخرى ومما يميز الحضارة المصرية في هذا السبيل أننا نجد آثارها ممثلة في عصورها المختلفة، أي أن مظاهر تلك الحضارة ممثلة بصورة مستمرة من عصور ما قبل التاريخ في سلسلة متتابعة لا نكاد نجد فيها فجوة، فهي تمتاز عن سائر الأقطار الأخرى في هذه الناحية، وقد مكنتنا دراسة آثارها من التعرف على المصري في آلاف السنين ومنها يتضح أن اللغة المصرية لم تتغير إلا مرة واحدة وتغيرت الديانة مرتين كما تغيرت الطبقة الحاكمة عدة مرات، أما المصري نفسه فقد ظل دون تغيير يذكر؛ لأن ظروف الحياة الطبيعية ظلت كما هي ثابتة لا تتغير ولم يحدث مثل ذلك للشعوب الأخرى؛ ولهذا الأمر أهميته البالغة؛ لأنه يرينا كيف تطورت الآراء والأفكار خلال الخمسين قرنًا التي مضت وكيف تطورت العادات وإلى أي مدى أثرت الحضارة المصرية وتأثرت بالحضارات الأخرى وليس من المبالغة في شيء أن نذكر بأن الحضارة المصرية كان لها أثر كبير في الحضارتين اليونانية والرمانية اللتين نقل عنهما العرب. وهؤلاء بدورهم كان لهم أثرهم في الحضارات الأوروبية المعاصرة بل ويمكن أن نتبع أصل بعض الألفاظ في اللغة الإنجليزية وفي اللغات الأوروبية الأخرى ونرجعها إلى أصول مصرية قديمة.
وما دامت الحضارة تنتج عن النشاط الإنساني وأن هذا النشاط يتأثر بالبيئة أي أنها تفاعل بين الإنسان وبيئته فمن الممكن القول: بأن البيئة المصرية بمميزاتها المختلفة هي التي حددت نوع تلك الحضارة وأثرت في تفكير المصري وإنتاجه، وإذا ما تأملنا هذه البيئة محاولين أن ندرس بصفة عامة
1 / 9