مصر: نسيج الناس والمكان والزمان
مصر: نسيج الناس والمكان والزمان
ژانرها
26 / 3 / 2001 (2) الصحراء الغربية والتنمية برفق
تنقسم مصر إلى عدة أقسام طبيعية هي وادي النيل والدلتا، والصحراء الشرقية وسيناء والصحراء الغربية. ومن الناحية العمرانية تنقسم إلى المعمور المصري الأساسي في الوادي والدلتا، وهوامش المعمور على أجزاء من سواحل البحر المتوسط والبحر الأحمر وخليجي السويس والعقبة، ومساحات صغيرة داخل الصحراء الغربية تتمثل في الواحات المصرية ذات الشهرة قديمة الأزل. المعمور المصري يبلغ نحو 6 إلى 7٪ من مساحة مصر على أعلى تقدير وبقية مصر صحراء جدباء: رملية في الغرب والشمال ومعظم الجنوب وصخرية جبلية في الشرق والجنوب الشرقي. وتشكل الصحراء الغربية أقل قليلا من ثلثي مساحة مصر، وتحتوي إداريا على محافظتي مطروح في الشمال والوادي الجديد في الوسط والجنوب. (2-1) ميزان الحياة المتغير
ولقد مر حين من الدهر كانت فيه الصحاري المصرية وافرة المطر والعشب والشجر والحياة الحيوانية العاشبة واللاحمة. ولكن ذلك لم يكن مستمرا. فقد تقلب الميزان الحيوي للصحاري بين القحط والمطر عدة مرات خلال المليون سنة الأخيرة. وتدل الكشوف الأثرية على ظهور الإنسان منذ نحو مائتي ألف عام في الصحراء الغربية في الفترة التي يسميها الأركيولوجيون ودارسي ما قبل التاريخ باسم العصر الحجري القديم «الباليوليتي». أما لماذا اختصت الصحراء الغربية بذلك، فهذا أمر يرجع إلى أشياء كثيرة على رأسها أن الغطاءات الرملية الكثيرة قد حفظت آثار الإنسان، حتى نقوشه على صخور الكهوف وجنبات الوديان - كما في هضبة الجلف الكبير على سبيل المثال - حفظتها الرمال وانتظرت قدوم العلماء يزيلوا بعض الرمال ويكتشفوا هذه السجلات الأثرية الموغلة في القدم. أما الصحاري في سيناء والبحر الأحمر فقد طغى عليها آثار الإنسان الأحدث، وبخاصة منذ قبيل نشأة دولة مصر الفرعونية وإلى العصور التالية لكثرة حركة الناس والتجارة والتعدين والهجرات البشرية والحملات العسكرية وتكوين القبائل والممالك والشعوب في الشرق الأوسط ذو العلاقة الحميمة بمصر خلال نحو ستة آلاف سنة. بينما كانت الصحراء الغربية باتساعها وترامي أطرافها وعدم وجود نويات أمم قوية في ليبيا وما بعدها غربا؛ قد أدى إلى حركات محدودة لقبائل البربر بطول الساحل الشمالي وعبر مسالك ودروب صحراوية إلى الواحات من سيوة إلى البحرية والفرافرة والداخلة والخارجة. وكذلك حركات محدودة لقبائل هم أجداد التبو الحاليين إلى الداخلة والخارجة قادمين من الجنوب الغربي.
والأغلب أن تذبذب المناخ واتجاهه إلى الجفاف قد أدى بسكان الصحراء الغربية - ومعظمهم ينتمون إلى السلالة السابقة على البربر الحاليين - إلى الهجرة صوب وادي النيل الذي كان آخذا في التكوين وتشوبه الكثير من المستنقعات في نحو الألف العاشرة قبل الميلاد. فالرسوم المنقوشة على الصخور وآثار الإنسان الحجرية كرءوس السهام والفئوس الحجرية والمنتجات الفخارية في أنحاء كثيرة من الصحراء الغربية من الفيوم إلى الجلف الكبير هي في الواقع سجل يؤرخ البيئة المصرية في زمن مضى، ونشاطات الإنسان صيادا للحيوانات أو راعيا للأبقار، حسب ظروف المناخ المتغير.
وأقدم منطقة أثرية متكاملة للإنسان الحديث في النطاق المصري هي تلك الحفريات والهياكل التي وجدت في منخفض صغير اسمه «نبته» (نبطه)، على بعد نحو مائة كيلومتر إلى غرب الشمال الغربي من أبو سمبل، وليس بعيدا عن طرف منخفض توشكى. فيه وجدت عدة جبانات تعود إلى الإنسان في أواخر العصر الحجري القديم (12 إلى 10 آلاف سنة من الآن)، وأخرى لإنسان العصر الحجري الحديث «النيوليتي» (نحو ثمانية آلاف سنة)، وهو العصر الذي يؤرخ للثورة الزراعية الأولى في العالم. والجماعات الأول كانوا يعيشون على الصيد البري، بينما كانت جماعة النيوليتي تربي الأبقار - وربما بعض الزراعة. وفي العصرين كانت ظروف المناخ أحسن والأمطار أكثر، فصلت بينهما فترة من الجفاف النسبي. وربما كانت هذه أقدم آثار للإنسان الحديث في مصر؛ إذ إن الباب ما زال مفتوحا لمزيد من التنقيب والكشف الذي قد يأتي بجديد.
والحقيقة أن آثار مصر سماوات مفتوحة لجهود مشتركة ومفردة لهيئات بحثية جليلة على رأسها مجهودات الهيئة المصرية للآثار والمعهد الفرنسي للآثار بالقاهرة والتمويل الكندي والألماني والأمريكي والبريطاني وغيرهم كثير. ففي الواحة الخارجة رأيت مجهودا مصريا مثلا في قصر الزيان، ومجهودا فرنسيا في واحة دوش في أقصى جنوب الخارجة. وفي الداخلة مجموعات من الأثريين الأجانب يعملون في موط وجنوب الداخلة بتمويل كندي، وألمان في بلاط بالداخلة أيضا. وفي البحرية جهود رائعة لهيئة الآثار المصرية منذ فترة طويلة.
الكشوف الأثرية أمر مكلف للغاية. ولهذا ولغيره من الأسباب بالإضافة إلى اهتمام العلماء والهيئات العلمية الأجنبية، فقد سبقت مصر في مجال الآثار أفكار العولمة - لكنها عولمة على قدر عظيم من الاحترام والجدية؛ لأن هذا ليس تراث مصر فقط بل هو جزء لا يتجزأ من التراث العالمي.
ومنذ العصور الفرعونية حتى أوائل القرن العشرين، كان السكان الزراعيون في الواحات يقيمون قراهم السكنية مترابطة متداخلة على مرتفع من الأرض محروسة ببوابات وأسوار وحارات منحنية ليست مستقيمة لمزيد من الدفاع. بقايا هذه القرى الواحية ما زالت قائمة للآن فيما يسمى بالقصر: قصر الخارجة أو قصر الداخلة وقصر الفرافرة ... إلخ، أو «شاله» في واحة سيوة. القصر كلمة عربية بينما شاله كلمة بربرية من لغة سيوة الأصلية، وهما معا يعني القرية القديمة المركزية المبنية على مرتفع من الأرض تحوطها الأسوار من أجل الحماية من الجماعات البدوية الغازية التي كانت تفاجئ السكان قادمة من جوف الصحراء تنهب وتقتل وتسبي. آخر هذه الغزوات الكبار ذكرها كبار السن في قصر الداخلة لأحد الرحالة الأوروبيين في أوائل القرن 19. وربما كانت آخر حركات السكان في هذه الصحراء القاحلة المجدبة هجرة نحو 500 من سكان واحة الكفرة الليبية بأسرهم وأطفالهم؛ فرارا من الاحتلال الإيطالي عام 1930، عابرين على الأقدام بحر الرمال الكبير إلى هضبة الجلف الكبير. هلك الكثيرون ولولا مساعدة السلطات المصرية لهم على الانتقال إلى بعض أجزاء الواحة الداخلة، وخاصة منطقة تنيدة، لكانوا قد هلكوا جميعا. (2-2) الزراعة والتنمية برفق
والقصد من ذكر الصحراء الغربية كمثال عما في أرض مصر من الإمكانات لو حسن اختيار المكان والتكنولوجيا الملائمة للبيئة. إن الإنسان المعاصر متسلح بتكنولوجيا عالية يزهو بها. مثال ذلك إمكان دق الآبار إلى أعماق مئات الأمتار لم يكن يحلم بها الإنسان في مطلع القرن. وقد حدث هذا بصفة خاصة في واحة الخارجة فيما عرف باسم «الوادي الجديد» الذي بدأ قرار إنشائه من أجل تنمية مساحات زراعية في الواحات عام 1958، ونمت في الستينيات بصورة دعت إلى إنشاء 14 قرية بأسماء مدن عربية تمشيا مع المد السياسي العربي . مثال ذلك صنعاء وبغداد والجزائر وفلسطين والكويت وجدة ... إلخ. ولكن انتهت الآمال بالفشل لأسباب كثيرة على رأسها أن الآبار العميقة قل إيرادها المائي؛ لأن المخزون الجوفي في طبقات الحجر الرملي هو مياه غير متجددة. المساحات التي زرعت في البداية على المنشآت الهندسية الجديدة انكمشت. وما زال المسافر يرى الوادي الجديد في الخارجة بعض أراض زراعية هجرها أهلها تفصل بينها مساحات شاسعة من الرمال والتراكيب الصخرية الصحراوية، وفي بعض التقديرات المتحفظة أن مساحة الأراضي الزراعية الحديثة والقديمة معا لا تزيد عن 1 إلى 2٪ من مساحة منخفضات الواحات. (2-3) مشكلة الماء والصرف في الواحات
والمشكلة الأساسية في الواحات هي الماء. وقد تعامل الناس مع الماء لمدة أكثر من ثلاثة آلاف سنة بأشكال مختلفة وتكنولوجيات بسيطة. هناك العيون التي تخرج طبيعيا كما هو الحال في سيوة بينما يشيع في غيرها من الواحات الآبار التقليدية التي قد لا تتجاوز 30 مترا مبطنة من الداخل بالحجر وأفلاج النخيل حتى لا تنهار جدران البئر، وهناك أخيرا الدهليز أو الكهريز، وهو عبارة عن نفق محفور تحت سطح الأرض يميل ميلا متدرجا من منطقة تجمع مياه جوفية ليروي مساحات محدودة من الأرض المنخفضة على بعد عدة عشرات أو مئات الأمتار. وتظهر هذه الأنفاق في أماكن محدودة مثل «مناور» في شمال واحة دوش، آخر واحات الخارجة في الجنوب، وفي واحة البحرية حيث تسمى في أحيان «منافس» لوجود فتحات تهوية على السطح بطول النفق. هذا النوع من الري منتشر في إيران وأفغانستان وعمان وشمال أفريقيا وله في كل مكان اسم معين كالقناة في إيران والأفلاج في عمان والفجارة في شمال أفريقيا. وكان الشائع أن هذا النمط استعارة حضارية من إيران، ولكن العالم الأثري الراحل أحمد فخري يجد الدهليز في البحرية من عهد الأسرات المتأخر، وبالتالي فهو أقدم من المؤثرات الفارسية.
صفحه نامشخص