مصر: نسيج الناس والمكان والزمان
مصر: نسيج الناس والمكان والزمان
ژانرها
الموضوعات التي عالجتها في هذا الفصل أختيرت بعناية بغرض التعريف بأقاليم ومناطق مصرية ليست معرفة غالبية المصريين بها بالقدر الكافي وإنما في صورة عامة وتفصيلاتها في المجموع ضبابية. لهذا كانت خياراتي بعيدة عن الدلتا والوادي؛ لأن غالبية الناس يعرفونها بحكم أصولهم. وبرغم معرفة جيدة لدى الناس عن الساحل الشمالي كمصيف مصري ذائع الصيت إلا أن الاختيار وقع عليه لاعتبارات كثيرة، معظمها الهدر في اقتصاديات القرى الاصطيافية وتدمير البيئة باعتبارهما معا من النواتج السلبية التي تهدد الشواطئ الشمالية. وكذلك الحال بالنسبة إلى البحر الأحمر وسيناء الجنوبية التي صار الناس يعرفونها لكثرة السياحة الداخلية إليهما في الآونة الآخيرة، لكن مشكلة السيول وتدمير الطرق هي الجانب الهام من هذه المعالجة. وبالنسبة لموضوع الصحراء الغربية قد حدتني الرغبة إلى تقديم نبذة عنه؛ لاتساعه الهائل ومكوناته المحدودة من الواحات وموارده المهدرة في الطاقة الطبيعية، وما يتعرض له أحيانا من استنزاف جائر لمخزون المياه الباطنية بدعوى إقامة مجتمعات زراعية. وأكثر واحات الصحراء الغربية بعدا وانزواء هي الفرافرة التي اتخذتها كمثال لمزيد من المعرفة لهذا الركن البعيد ومستقبل الواحة التنموي الذي يحتاج إلى ضبط كثير وتؤدة في الخطوات حتى يكون ناجحا. والإقليم النائي الثاني هو النوبة قديما وحديثا، وعن مشكلات التنمية بالنسبة للسكان الأصليين: هل يسمح لهم بالعودة إلى مواطنهم أم هناك مهبطات ومثبطات أمام العودة، ولماذا؟ وأخيرا فإن منطقة قناة السويس معروفة جيدا ولكن فيها مشروعات تنمية جدلية في شرق بورسعيد وشمال خليج السويس توضح تردد الدولة في أولية أيهما، وإن كان الاتجاه قد فضل في النهاية خليج السويس كأولوية، وأبقى على جزء من مشروع شرق التفريعة باعتبار أن العمل في الميناء كان قد بدأ فعلا ولا سبيل إلى التراجع. (1) الحضارة والتاريخ
مصر بلد حضارة ستة آلاف سنة والقاهرة مدينة الألف مئذنة - هما من بين العبارات الرمزية الكثيرة التي نذكرها الحين بعد الحين نلخص بها مواصفات مصر أو ترمز إلى القاهرة في إيجاز شديد. ولكن الحضارة المصرية تغوص في أعماق أكثر من ستة آلاف بكثير، ولو كان لدينا تعداد لعدد مساجد القاهرة ومآذنها لتعدت الألف بكثير. والغرض من كلمة الألف هو العدد الكثير، وهو عد ينطبق على الماضي غير البعيد يصف الشىء بالكثرة المتناهية. بينما نحن الآن نستخدم المليون والمليار للعدد الذي لا ينتهي. فنحن اليوم نستخدم رموزا تعطي وصفا ملخصا لمصر شاع على الألسن، قد يكون «مصر بلد السبعين مليونا من البشر» أو «القاهرة بلد الخمسة عشر مليونا»، أو أن «الميزانية المصرية هي كذا مليارا» من الدولارات أو الجنيهات.
فالعبرة في الأقوال الملخصة لحالة بلد ما تنبع من أهم ظواهرها المعاصرة، سواء كانت ظاهرات مجيدة أو أخرى مزعجة. وليس معنى هذا أن الرموز القديمة التي ترجع إلى زمن فات قد انتهت صلاحيتها، بل هي تخرج من دائرة الضوء لتكمن في الظلال حتى تأتي مناسبة تستدعيها فتظهر مرة أخرى لفترة محدودة تعود بعدها إلى الظل في العقل الخلفي. مثال ذلك اكتشاف أثري مثير، أو تحديد عمر أثر أو مومياء بالزائد أو الناقص عن تقدير سابق، ومن ثم نعدل المقولة إلى «مصر بلد حضارة السبعة آلاف أو العشرة آلاف سنة.»
ولأن الحضارة صيغة لازمة لكل الشعوب فالرمز الحضاري لا يموت، فما بالنا بحضارة مصر الرفيعة التي تعد أقدم الحضارات والثقافات العليا التي تشمخ منجزاتها المعمارية والعلمية، سواء في المسلات والمعابد أو في باطن القبور من توابيت رائعة الصنعة ومومياءات تتحدى التآكل البيولوجي آلاف السنين، وأدوات الحياة وعروش الفراعين ولوحات جدارية ما زالت ألوانها تنبض بالحياة. وفوق كل هذا سجلات كتابية هي بصفة عامة كتاب التاريخ الضخم الذي لا نظير له في العالم يحكي لنا مساعي المصريين في إقامة مجتمع سلام منظم داخل أطر حياتية مقننة دينيا وخلقيا وتشريعيا بين الثواب والعقاب وبين الحياة الأرضية والحياة الآخرة. كل ذلك في استمرارية ودينامية بمنطوق العصور الطوال التي استغرقتها الحضارة المصرية آلاف السنين حتى مع تغير القوى السياسية من فرس وبطالمة ورومان وعرب وترك وفرنسيس وإنجليز.
صحيح أن الفتى يقول: أنا من أنا وليس من كان آبائي وأجدادي، لكن صحيح أيضا أن الفتى وما يدركه من نجاح هو محكوم أيضا بتراثه القريب والبعيد معا. فما بالنا إذا كان هذا التراث مجموعة من دواعي الفخر المجيد! (1-1) القدر الحيوي من التاريخ
أحزن كثيرا حينما أعرف طلابا في الجامعة لا يعرفون سوى النذر القليل من تاريخ الحضارة المصرية. بل تختلط في أذهانهم العصور المصرية، ولولا وجود أهرام الجيزة لما عرفوا من هو خوفو. بل لعل غرابة أسماء خوفو (خنوم خوفو؟) وخفرع (خف-ن-رع)، ومنقرع (منكاو رع) هي التي تدعو إلى التندر المصحوب بالمعرفة الاسمية فقط. ناهيك عن الجهل بتحتمس الثالث أبو العسكرية الفرعونية جهلا يكاد أن يكون مطبقا! بينما أصبح اسم رمسيس شائعا لاستمراره كاسم بين المواطنين ولتسمية شارع رئيسي باسمه ولكثرة تماثيله وعظمتها وضخامة معابده وخاصة أبو سمبل. والحقيقة أن رمسيس كان محظوظا كأحد الفراعين العظام أكثر من غيره في حياته الطويلة وبطولته الشخصية وانتصاراته الجزئية على الحيثيين وعقد الصلح معهم، ومن ثم صار شخصية إعلامية على مستوى عالمي.
وماذا عن أحمد بن طولون وقطز وبيبرس وقلاوون وقايتباي والغوري. كلهم معروفون كبناة مساجد عظيمة أو قواد محنكين. ولكن ماذا عن الحياة المصرية والرخاء التجاري في تلك الفترات والعهود؟ وماذا عن بناء مصر الحديثة والدور البارز لمحمد علي السياسي البارع، وإبراهيم بن محمد علي أبو العسكرية المصرية في القرن التاسع عشر، وإسماعيل بن إبراهيم صاحب تحديث مصر؟ الصورة التاريخية معتمة لهؤلاء العظماء الذين أخذوا بجريرة أحفادهم توفيق وفؤاد وفاروق بدون وجه حق. فالحكم على ممارساتهم السياسية يجب أن يقاس على منظور زمانهم العالمي وليس زماننا.
لا شك أن المعرفة بالتاريخ - صفحاته البيضاء والسوداء على حد سواء - أفضل كثيرا من الجهل أو التعتيم. فالجهل يخلق مجالات للاختلاقات غير الصحيحة والتي يقع فيها بعض الروائيين فيكتبون القصص الممتعة يضفون عليها حبكة درامية أو فكاهية يتقبلها الناس كوقائع تاريخية، وهي ليست كذلك. ولا يحدث هذا في مصر فقط بل في أجزاء كثيرة من العالم، مع فارق المغالاة التي درجنا عليها في مصر.
والغرض هو أن تكون مناهج التاريخ في التعليم العام أرحب مما هي عليه الآن، بحيث يدرك التلاميذ أبعاد المكون الحضاري المصري بصورة مركزة غير موغلة في الأسماء وغير متحيزة «للأنا المصرية»، وغير غارقة في تفصيلات يجب أن تترك للذين يتخصصون في التاريخ في الدراسة الجامعية. فكل حضارة لها ارتفاع وهبوط وازدهار وركود. ومن حظنا الحسن فإن الحضارة المصرية عاشت هذه المراحل دون أن تموت - كما حدث لبعض الحضارات وخاصة في العالم الجديد، فالنسيج الحضاري كان من التداخل والقوة بحيث تتسلل عناصره وخيوطه من عصر زاه إلى عصر باهت، ثم عصر زاه مرات متعددة مكتسبة عناصر مضافة فصارت كصنعة «الأبليك» في حرفة الخيامية القديمة: تنسجم فيها الإضافات لونا وحجما داخل منظومات وتشكيلات الإطار العام.
إن أرض مصر في الوادي والدلتا والصحاري الغربية والشرقية وسيناء الجنوبية والشمالية مليئة بالآثار لمن ينقب ويبحث ويدرس وينشر ويحفظ هذه اللقى الأثرية في محلها كمتاحف مفتوحة أو في دور الآثار كمتاحف مصانة. وهذه الآثار لا تختص فقط بالعصور التاريخية منذ الفراعنة إلى وقتنا هذا. فهناك آثار للناس قبل التاريخ غير جذابة للعامة ولكنها على قدر عظيم من الأهمية للمختصين والمنقبين عن أصول الحضارة المصرية كرءوس السهام والفئوس الحجرية والمنتجات الفخارية.
صفحه نامشخص