مصر: نسيج الناس والمكان والزمان
مصر: نسيج الناس والمكان والزمان
ژانرها
وقد حدث منذ التقاء البربر والعرب كثير من الأخلاط بينهما وأيضا كثير من انسحاب البربر إلى أماكن جبلية حصينة كما هو الحال في الجزائر والمغرب وبعض ليبيا. وبعض الأخلاط استمروا في حياة البداوة وبعضهم سلك طرقا للعودة إلى الشرق - مثلا من برقة إلى مصر كأولاد علي بفروعهم وتفريعاتهم الكثيرة (أولاد علي الأبيض والأحمر والسينانا - ربما الكنانة)، والهنادي الذين استوطنوا جانبا من محافظة البحيرة ثم هجروا أيام محمد علي إلى محافظة الشرقية منعا للصراع الدائم مع أولاد علي. ومنهم الهوارة الذين استقدمهم حكام مصر ليصبحوا ولاة على بعض جنوب الوادي، ومنهم كل قبائل الحاجر الغربي من الجوابي في النطرون والبحيرة وقبائل وعشائر الفيوم والمنيا وبني سويف كالفوايد والجوازي والفرجان والحرابي والبراعصة، وعائلات مشهورة مثل لملوم (فوايد) والمصري (جوازي) والباسل (رماح) والجبالي (حرابي) ... إلخ، وكلهم على الأغلب ينتسبون إلى بني سليم. هذا فضلا عن العشائر القديمة التي تعرف في الساحل الشمالي باسم الجمعيات وفروعهم كثيرة يعيشون مع أولاد علي هنا وهناك، وكذلك في الواحات حيث نجد غالب سكان سيوة من البربر وكذلك القبائل والعائلات القديمة في الفرافرة وغيرها أصلا من البربر المستعربين.
الهجرة إلى الوادي
وحينما حل الجفاف بالتدريج مع تراجع قليل لفترات رطبة ثم جفاف أكثر وأشد قسوة منذ الألف الخامسة قبل الميلاد، أخذ الناس ينسحبون من الصحراء التي زاد جدبها إلى وادي النهر المليء بالمستنقعات وكافة أنواع النباتات المائية من البوص إلى البردي إلى ورد النيل، وعشرات نباتية أخرى من الأشجار والأعشاب ... وحيث تهيم حياة حيوانية في هيراركية المستنقع من أنواع الأسماك إلى التماسيح بقايا الزواحف والديناصورات إلى أنواع الحيوانات العاشبة مثل أفراس النهر الضخام والنعام والزراف وأنواع الغزال والوعول، إلى أنواع البرمائيات من الضفادع إلى أنواع الورل والسحالي، وأنواع الحيوانات المفترسة اللاحمة من قطط صغار وكبار وذئاب وكلاب وثعالب وابن آوي، وأنواع كثيرة من الطيور المقيمة والمهاجرة وغير ذلك كثير وكثير.
التجأ الناس منسحبين من الصحاري الرملية والصحاري الحجرية إلى الوادي المعشوشب محتالين على الحياة بصيد كميات هائلة من الأسماك والحيوانات العاشبة التي استطابوا لحومها كالوعول والغزلان وربما أفراس النهر فضلا عما لديهم مما يرعونه من الماعز والخراف والأبقار والثيران والحمير. ولكي يعيشوا ويصعدوا إلى قمة هيراركية الحياة كان عليهم أن يصارعوا الحيوانات اللاحمة من أسود ونمور وذئاب وضباع وكلاب برية في منافسة دامية لبقاء الأقوى أو الأصلح. وآثار هذه الأقوام كثيرة نعرفها بأسماء الحالية للأماكن التي عاشوا فيها أزمانا، وطوروا احتياجاتاهم من الحجر والفخار وبقايا قراهم وجبانات دفن الموتى مثل حضارة الفيوم ودير تاسا والبداري ونقادة ومرمدة بني سلامة والمعادي والعمري ... إلخ.
قوة الإنسان وقدراته
والإنسان جسديا ليس الأقوى ولكنه بوقوفه على قدمين واستخدام يديه في الرمي والقتال وصناعة أدوات خشبية وحجرية أهلته أن يكون الأقوى وإن لم يكن هو الأسرع، أو الأضخم، أو الأكثر عضلا ... ليس فقط بقدراته على عمل هذه الأدوات ولكن باستخدام سلاح أمضى وأشد هو التجمع العددي في أماكن مختارة للدفاع والهجوم حسب المواقف المختلفة. هذا النوع من الاستراتيجية هو الذي مكن الإنسان من التفوق والسيادة من الماضي السحيق إلى غد البعيد. وقد ساعده على السيادة تقهقر المناخ الرطب وأشكال النباتات، ومن ثم انسحاب الكثير من الحيوان المفترس إلى المناطق المدارية جنوبا، وبقاء الميدان شبه حر يطلق فيه يد الإنسان الجامع للغذاء النباتي والحيواني والسمكي دون الكثير من منافسة الحيوان المفترس.
التحول من الصيد إلى الزراعة
ثم جاء حين من الدهر في نحو الألف السابعة قبل الميلاد أن عرف إنسان المنطقة الزراعة كإيديولوجية اقتصادية جديدة تؤهل الإنسان لإنتاج الغذاء بدلا من جمعه وصيده بريا. وكان ذلك بمثابة الثورة الاقتصادية الأولى! لكن الانتقال كان تدريجيا من حياة الصيد والجمع إلى حياة الفلاحة، ولا شك في أن تأمين غذاء نباتيا تحت الحوكمة سنويا أو متجدد موسما. كان هو الحافز والدافع الحقيقي لأمور عدة على رأسها انتهاء حياة التجوال والاستقرار في تجمعات قروية ثابتة لزراعة ذات قطعة الأرض سنة بعد سنة - وهو ما بدأ به عصر المواطنة والوطن لظهور قيمة المكان والدفاع عنه للبقاء فيه. وهذا الاستقرار لم يستند فقط على المحصول الغذائي النباتي بل أيضا إبقاء حيوان التربية إلى جواره يرعاه ويستخدمه في كل شئون الغذاء المباشر ومنتجات الألبان، وربما تاجر به كنوع من تبادل المنتجات - وهذه هي بداية العلاقات التجارية بين المجتمعات المحلية.
ومع الزراعة بدأ عهد المناحرة والحرب والحسد بين من لديه ومن ليس لديه من المجتمعات - أي بين البادية والجماعات الجائعة (في حالة الجفاف) من ناحية، وبين الجماعات المستقرة التي تعيش في بحبوحة ووفرة في إنتاج الغذاء (في غالب الأوقات). هذا الصراع شمل مجموعات كثيرة وبخاصة بين سكان الجبال القاسية، وسكان السهول الغنية، وأخذ ذلك طابع موجات من الهجرة والاجتياح في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، شواهده مسجلة تاريخيا لدى الشعوب المستقرة الآمنة في حضارات مصر وسومر وبابل ... إلخ، وهو ما أحدث اضطرابا في مجموعة العلاقات الآمنة واستدعى إعادة بناء نظم وبنية مجتمع جديد بمقتضاه نشأت «الدولة» كنظام يرأسه ملك وآلهة ومعابد وكهنة وجيش بتخصيص أفراد من دائرة العمل والإنتاج وتدريبهم على القتال وشئون الحرب. وهذا التنظيم الجديد بما لديه من قوة تكتيكية، وإن كان يحمي المجتمع إلا أنه كان في ظروف معينة حافزا للبطش بدعوى المحافظة على أمن الوطن والمواطن - ولكن غالبها كان لأمن الحاكم من طبقة الملوك ورجال الدين، بينما الكتاب يروجون لبقاء الأنظمة في عباءات مختلفة أكثرها شيوعا نداء الوطن ونداء الآلهة.
وهكذا الصورة حتى الآن مع تغيرات شكل وتطبيق وبقاء المبدأ والمحتوى.
صفحه نامشخص