1 - مصر والسودان والمفاوضات
2 - مذكرة عن مركز الإنجليز في السودان
3 - وجاء في آخر كتاب سموه عن المالية المصرية
4 - كتاب من حضرة صاحب السمو الأمير إلى صاحب الدولة رئيس لجنة الدستور العمومية
1 - مصر والسودان والمفاوضات
2 - مذكرة عن مركز الإنجليز في السودان
3 - وجاء في آخر كتاب سموه عن المالية المصرية
4 - كتاب من حضرة صاحب السمو الأمير إلى صاحب الدولة رئيس لجنة الدستور العمومية
مصر والسودان
مصر والسودان
تأليف
عمر طوسون
الفصل الأول
مصر والسودان والمفاوضات
في السودان منابع النيل والجزء الأكبر من مجراه، وقد عاشت مصر بدون السودان أيام أن كان المتحكمون فيه قوما من الهمج، ليس عندهم معارف أوروبة ولا أغراضها الاستعمارية، ولا في إمكانهم حرمان مصر، أو نقص حظها من هذا النهر الذي كان يجري على طبيعته، فيفيض على هذا الوادي الخصب والخير. فمصر - كما قال هيرودوت - هبة النيل، ولولاه لكانت هي وصحراء لوبية في القحولة والجدب سواء.
وقد دام الاتصال بينها وبين السودان منذ أقدم عصور التاريخ إلى زمن محمد علي. فلما أحس - رحمه الله - مطامع الأوروبيين وتطلعهم إلى استعمار القارة السوداء، خاف أن يكون من وراء ذلك ضرر يلحق بلاده، فصمم على فتح السودان؛ حتى لا تتحكم في منابع النيل يد أجنبية يكون في قبضتها موت مصر وحياتها، بعدما علم أن مصر من السودان والسودان من مصر جزء لا يتجزأ.
قال المرحوم فوزي باشا في كتابه «السودان بين يدي غوردون» ما نصه:
قضى ساكن الجنان محمد علي باشا محيي الديار المصرية لبانتين من فتح السودان، بل تخلص من ورطتين كبيرتين؛ فقد علمت من شيخ ذي منصب معاصر لمحمد علي باشا، أن دولة أوروبية كانت تسعى لمعارضته باحتلال منابع النيل، فاهتم لهذا الخبر أكبر اهتمام، واستشار كثيرا من المهندسين الأوروبيين الذين جاء بهم من بلادهم إلى هذا القطر، فأقروا بالإجماع على أن وقوع منابع النيل تحت براثن هذه الدولة مما لا تحمد مغبته، حيث تصير حياة مصر في يدها، فصمم على إنفاذ حملة إلى السودان إلخ ... ا.ه.
فإن تركنا السودان أو تهاونا في أمره، وقعنا في المحظور الذي فر منه محمد علي، وألقينا بأيدينا إلى التهلكة.
والضرر من التهاون في السودان محقق لا ريب فيه؛ إذ ليس لاستقلالنا داخلا وخارجا أدنى قيمة في المستقبل إذا كان زمام النيل في قبضة يد غير مصرية، فالسودان هو الرأس الذي إذا بتر تكون مصر بعده جثة هامدة، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه ألزم لنا من نفس مصر، حتى إننا لنرضى أن يحكمنا السودانيون ولا ينفصلوا عنا.
وحدود السودان جنوبا وصلت في زمن الخديو إسماعيل إلى بحيرة فيكتوريا نيانزا؛ ففي سنة 1870م أرسل حملة عسكرية لفتح مديرية خط الاستواء تحت قيادة السير صمويل بيكر، فقامت بمهمتها ووضعت نقطا عسكرية على مجرى النيل، كانت آخر نقطة منها جهة فويره بين بحيرتي ألبيرت نيانزا وفيكتوريا نيانزا.
وفي سنة 1874م أرسل الجنرال غوردون مديرا لمديرية خط الاستواء خلفا للسير صمويل بيكر، فأوصل النقط العسكرية إلى بحيرة فيكتوريا نيانزا، حتى كانت آخر نقطة عسكرية مصرية جنوبا شلالات ريبون عند منبع النيل من تلك البحيرة، فخفق العلم المصري هناك، وكان أول علم رسمي لحكومة منتظمة خفق على هذه الأنحاء القصية منذ خلقت، ودخل النيل فعلا من منبعه إلى مصبه في حوزة مصر.
ولما ثبتت قدم غوردون في تلك الأنحاء، أرسل رئيس أركان حربه الكولونيل شاليه لونج الأمريكي إلى أمتيسه ملك أوغانده، فعقد معه اتفاقا في أواخر سنة 1874م، دخلت به هذه المملكة تحت حماية الحكومة المصرية، وكان شريف باشا وقتئذ ناظرا للخارجية المصرية، فأرسل في سنة 1875م إلى عموم الوكلاء السياسيين للدول الأجنبية في القطر المصري، بلاغا يعلنهم فيه بانضمام تلك النواحي إلى الحكومة المصرية، وكان من بينهم طبعا وكيل إنجلترا السياسي. وبقيت هذه البلاد معدودة من توابع مصر إلى سنة 1889م، حيث أمر استانلي باسم الحكومة المصرية مدير خط الاستواء وقتئذ - وهو أمين باشا - بالجلاء عن المديرية المذكورة والتخلي عنها. فتخلى عنها هو وجنوده بإرغام الحكومة الإنجليزية للحكومة المصرية ليصفو الجو لها هناك، وبالفعل لم تلبث إنجلترا حتى أعلنت حمايتها على أوغانده في سنة 1890م.
فحكم الجلاء عن هذه البقعة كحكم جلاء المصريين عن باقي السودان، عمل تم تحت ضغط الحكومة الإنجليزية، وهي قابضة على أزمة الأحكام في القطر المصري لمآرب لها ظهرت بعد هذا الجلاء بسنة واحدة، حيث احتلت تلك البلاد وأعلنت حمايتها عليها.
وليس لعمل إنجلترا قيمة بجانب حقوق الفتح التي لمصر على هذه البلاد، ومع هذا فلا تزال هذه المنطقة من اللادو جنوبا إلى بحيرة فيكتوريا نيانزا، تحت إدارة وزارة المستعمرات الإنجليزية مباشرة، وليست داخلة حتى ضمن حكومة السودان المشتركة اسما بينهم وبين مصر.
وإذا أدرك المصريون القيمة التي لهذه النقطة وارتباطها بحياتهم، علموا أنها أهم من الدلتا وفضلوها عليها، ولم يسعهم أن يغفلوا عن المطالبة بحقوقهم فيها، واعتبارها جزءا غير قابل للانفصال عن السودان المصري، الذي هو جزء من الديار المصرية لا يتجزأ. (1) بطلان حجة تأجيل المفاوضة في شأن السودان
أرجئت المفاوضة في مسألة السودان سنة 1920م لسببين:
الأول:
اتفاقية سنة 1899م.
الثاني:
اعتراف تركيا بتلك الاتفاقية. (1-1) أما اتفاقية سنة 1899م
فهي باطلة بالبراهين الآتية: (1)
لأنها مبنية على الفتح، وهذا أساس غير صحيح؛ لأن الفتح لم يحصل إلا باسم مصر فقط، والدليل على ذلك أن مارشان عندما احتل فاشودة وتوجه كتشنر إليها، واحتل نقطة أمام النقطة المحتلة من الفرنسيين، لم يرفع إلا العلم المصري فقط أمام العلم الفرنسي، وفي هذه الحالة كان ل كتشنر صفتان: إحداهما أنه قائد مصري، وثانيتهما أنه قائد إنجليزي؛ لأن الحامية الإنجليزية التي في السودان كانت تحت قيادته، وجزء من تلك الحامية كان في فاشودة، وقد أدى التعظيم الواجب عندما رفع العلم المصري وحده أمام العلم الفرنسي.
وحيث أن هذه الحادثة كانت خاتمة الأعمال الحربية في تلك البلاد، وتعتبر تتويجا لها، فرفع العلم المصري وحده وتأدية الجنود الإنجليزية له التحية العسكرية، هو اعتراف صريح من إنجلترا أمام دولة أجنبية بأن الفتح لم يحصل إلا باسم مصر فقط، وإلا فلو كان بالاشتراك لرفع العلم الإنجليزي بجانب العلم المصري.
وأما مساعدة الحامية الإنجليزية في فتح السودان، فلا يعتبر إلا من باب مساعدة الوصي لمحجوره في رد جزء من أملاكه فقد بسوء تصرفاته؛ إذ لو اتبع رأي عبد القادر باشا ولم يرسل الجيش المصري في داخل كردفان كما رأى هكس باشا، لما هلك الجيش ولما ضاع السودان. (2)
لأنها تشبه العقد الذي يعقد بين الوصي ومحجوره، ويجر منفعة لهذا الوصي. (1-2) وأما اعتراف تركيا
فهذا الاعتراف لا قيمة له أبدا بالبراهين الآتية: (1)
أن إعلان الحماية على مصر أزال السيادة التركية عنها، ابتداء من ديسمبر سنة 1914م، وتعتبر غير موجودة في وقت عمل التنازل. (2)
أن الحكومة التركية اعترفت باستقلال مصر استقلالا تاما، وجعلت لها حرية تقرير مصيرها السياسي، وهذا القرار صدق عليه من مجلس المبعوثين قبل إمضاء معاهدة سيفر. (3)
أن معاهدة سيفر التي اعترفت فيها تركيا بحماية الإنجليز لمصر، إنما وقعها ممثلو الحكومة التركية مرغمين، وفضلا عن هذا فإن الشعب العثماني معارض فيها أشد المعارضة، وهي مع هذا لم تحز تصديق مجلس المبعوثين، ولم تعترف بها بعض الدول إلى الآن.
وحيث إن السيادة لا وجود لها، فإن الاعتراف من تركيا لا قيمة له أبدا؛ لأنها بذلك تقرر حقا لغيرها في بلد لا تملكه، ولم نفهم معنى السكوت عن المسألة السودانية بمجرد إظهار إنجلترا لهذا الاعتراف من الحكومة التركية؛ لأن تركيا اعترفت أيضا بالحماية الإنجليزية على مصر، وهذا لم يمنع المعارضة لها والمفاوضة في المسألة المصرية.
الفصل الثاني
مذكرة عن مركز الإنجليز في السودان
أرسلت إلى جريدة التيمس ولم تنشرها، فنشرت في جرائد مصر في 2 سبتمبر سنة 1924م. ***
لما رأينا صحف إنجلترا تتعمد تشويه الحقائق فيما تكتبه عن السودان، وعن مركز الإنجليز في ذلك القطر من وادي النيل؛ كتبنا إلى جريدة التيمس رسالة نبسط فيها للرأي العام البريطاني حقائق المسألة السودانية، كما يسجلها التاريخ الصحيح ويعرفها ذوو الاطلاع.
ولقد تلقينا من رئيس تحرير تلك الجريدة كتابا يقول فيه إنه سيحتفظ بمقالنا بقصد الرجوع إليه عند الكتابة في مسألة السودان. وهذا بالطبع معناه عدم الرغبة في نشر ذلك المقال.
وحيث إن أحوال السودان لا تزال تشغل الأفكار في هذا القطر، فقد رأينا أن نرسل ترجمة المقال المذكور إلى الصحف المصرية، وهذا معربه بعد الديباجة. (1) المقال
لمناسبة الأحوال السياسية الحاضرة في وادي النيل، وما تبديه صحف لندن من مختلف الآراء بشأن السودان، أود أن ألفت الرأي العام البريطاني - بواسطة جريدتكم إذا أذنتم - إلى الوقائع الآتية: لما وقعت حادثة مارشان الشهيرة في السودان، كان الإنجليز يقولون إن السودان لمصر ومن مصر، ثم ادعوا أنهم شركاء فيه بإرادة مصر، فلما أعلنت مصر بطلان هذه الشركة قالوا إنهم ساعدوا على استرجاعه، ولولاهم لما تم هذا الاسترجاع.
ولما كانت إعانتهم لمصر في استرجاع السودان قد حصلت فعلا، أردنا هنا أن نبين للقارئ أنهم هم الذين كانوا السبب في ضياعه، وأنها وإن كانوا أعانوها على استرجاعه قد كانت في غير حاجة إلى هذه الإعانة، وإلى القارئ الأدلة: (1)
أن مصر فتحت السودان وحدها سنة 1820م، وبقيت سلطتها فيه قائمة لم يعتورها ضعف ولا وهن إلى سنة 1881م، والسودان يومئذ آهل بسكانه زاخر برؤسائه وملوكه، فمن قدر على فتحه في هذه الحال، وعلى حفظ نفوذه وسلطانه عليه 62 سنة، فلا شك أنه يكون قادرا على استرجاعه بدون مساعد. (2)
أن الثورة العرابية ابتدأت في مصر في 6 فبراير سنة 1881م، وابتدأت الثورة المهدية في السودان في 12 أغسطس سنة 1881م أيضا، كأنما الثورتان كانتا على ميعاد، فلما اختل الأصل - وهو مصر - اختل الفرع - وهو السودان - ومن سوء الحظ أن حكمدار السودان وقتئذ كان رءوفا باشا، وهو رجل خلو من الكفاءة والتدبير؛ إذ لو كان على شيء منهما لقضى على ثورة المهدي في السودان في إبانها. فقد أبلغه رئيس كبير موثوق به - وهو السيد محمد الشريف أكبر مشايخ الطرق في السودان - أمر هذا المدعي، وحذره عاقبة الإهمال، فلم يأبه لقوله، ولم يستيقظ من سباته! حتى أرسل إليه هذا المفتون كتابا يدعوه فيه إلى الدخول في شيعته والإيمان به، وبدلا من أن يرسل إليه عقب ذلك من يقبض عليه في الحال ، أرسل من ينصح له، فرده خائبا، ثم بعد لأي وتردد أرسل إليه تجريدة صغيرة أوقع بها المهدي، وهزمها شر هزيمة، فكان هذا أول وهن أصاب هيبة الحكومة في السودان؛ فقد انتشر خبر هذه الواقعة في جميع أنحائه، وتناقل الرواة حديثها بغلو كبير، وعدتها العامة من المعجزات التي تدل على صدق محمد أحمد في دعوى المهدية، ثم جرد عليه تجريدات أخرى كان نصيبها نصيب الأولى، فانحطت كرامة الحكومة في عيون أهل السودان، وصدقوا دعوى المهدي.
ولما بلغت هذه الأخبار السيئة الحكومة عينت عبد القادر حلمي باشا بدلا من رءوف باشا، وحسنا فعلت؛ فإن هذا الحكمدار الجديد أظهر همة عالية وكفاءة نادرة في قمع الثورة بعدما استطار شرارها واستفحل أمرها، وكان قد طلب من الحكومة عشرة آلاف جندي، ولما لم تجبه إلى طلبه لارتباكها بالثورة العرابية، جند من أهالي السودان جيشا صغيرا دربه بنفسه، وضم إليه ست أورط كانت في السودان الشرقي، وحمل بهذا الجيش الصغير على الثوار، فقهرهم وشتت شملهم، ورفع الحصار عن حامية سنار، فهدأت الحال، وخمدت جذوة الثورة، ولم يبق في يد المهدي سوى مديرية واحدة هي مديرية كردفان، ولا من أتباعه العصاة في النواحي سوى نفر قليل في الجزيرة بقيادة زعيم لهم يدعى أحمد المكاشف.
فأنت ترى أن عبد القادر حلمي باشا بجيشه الصغير استرجع السودان أو كاد، ولو أرسل إليه الجيش الذي أرسل إلى هكس، لتم على يديه استرجاع السودان بدون عناء، ولكن عندما وصلت هذه الأخبار السارة إلى مصر، وكان ذلك في أوائل سنة 1883م وقد احتلها الإنجليز، وأصبح في يدهم تصريف أمورها؛ صدرت الأوامر بعزل عبد القادر باشا لهذا السبب المقلوب، في الوقت الذي قال في حقه المهدي في إحدى خطبه: ليس بين رجال الحكومة التي أناوئها رجل كعبد القادر، كثير الدهاء والحيل مع الشجاعة؛ مما يجعلني أضرع إلى الله أن يكفيني وأصحابي شره. وإنني أحتم على كل المؤمنين الذين دخلوا في دعوتي أن يجتنبوا القيام في الجزيرة بأي مشاغبة تضطرهم إلى الوقوف في ساحات الحرب مع عبد القادر باشا، وأوصيهم بكتمان دعوتي وعدم الظهور بها في الجزيرة ما دام عبد القادر باشا متوليا على السودان، وليواظب كل أصحابي على رفع أصواتهم بعد كل صلاة بهذه الدعوة: «اللهم يا قوي يا قادر، اكفنا شر عبد القادر.»
وقد كتب عبد القادر باشا بعد عودته من الخرطوم تقريرا وافيا للحكومة بما يجب عليها عمله، وملخصه: عدم تسيير حملة على المهدي في كردفان، والاكتفاء بإقامة الحصون على حدودها، وحصر المهدي فيها حتى تنضب منها موارد اليسار القليلة التي لا يمكن أن تقوم بنفقات الملتفين حوله، فلا يمضي زمن حتى يشعروا بالضيق، فيطلبوا الخلاص من جور المهدية، ولا سبيل لهم إلى نيل هذا الغرض إلا بمظاهرة الحكومة وموالاتها، فيسهل عليها حينئذ قهر المهدي بقوة يسيرة.
هذا كان رأي عبد القادر باشا، ولكن حكومة ذلك الوقت التي عزلته بسبب ما أظهره من الكفاءة وأحرز من الانتصار، ليس من المعقول أن تعمل برأيه، فضربت بتقريره عرض الحائط، وعينت بدلا منه علاء الدين باشا، فتولى علاء الدين باشا ولكن حصرت سلطته في الإدارة الملكية، وجعل سليمان نيازي باشا قائدا عاما، وهكس باشا رئيسا لأركان حربه، وأرسل إلى السودان بقيادته جيش وصل إلى الخرطوم في مارس سنة 1883م، وهو مؤلف مما يأتي:
ألاي رقم 1 مشاة تحت قيادة الميرلاي سليم عوني بك
عدده
2400
ألاي رقم 2 مشاة تحت قيادة الميرلاي السيد عبد القادر
عدده
2500
ألاي رقم 3 مشاة تحت قيادة الميرلاي إبراهيم حيدر بك
عدده
2600
ألاي رقم 4 مشاة تحت قيادة الميرلاي رجب صديق بك
عدده
3000
الفرسان والمدفعية تحت قيادة الميرلاي عباس وهبي بك
عدده
2400
المجموع
12900
وفي إبريل سنة 1883م خرج نيازي باشا وأركان حربه هكس باشا ومعهما 6500 جندي للإيقاع بمن بقي من العصاة مع أحمد المكاشف بالجزيرة، وكان عددهم قد تكاثف بعد عبد القادر باشا، فلاقوهم في المرابيع وكسروهم شر كسرة، وقتلوا زعماءهم، فانمحى بهذه الواقعة أثر الثورة من الجزيرة كما انمحى من عموم السودان، ولم يبق للمهدي شوكة خارج كردفان.
وقد ألح عبد القادر باشا ثانيا على الحكومة - وهو في مصر عقب هذه الواقعة - بترك المهدي وشأنه في كردفان إلى أن يظهر للناس كذبه، أو تضيق به البلاد فيضمحل من نفسه، فقوبل إلحاحه بالإعراض أيضا، وأذن لهكس باشا بالزحف على المهدي في كردفان، فرد بأنه لا يتحمل مسئولية الحملة حتى تكون له القيادة العامة عليها.
ولما تباطأت الحكومة المصرية في إجابته إلى طلبه هددها بالاستعفاء، فأذعنت وجعلته القائد العام على الحملة، ونقلت نيازي باشا محافظا على السودان الشرقي، فخلا الجو لهكس باشا، وتوغل بهذا الجيش الكبير في صحاري كردفان حتى ضلوا الطريق ووقعوا في مخالب المهدي، فأفناهم ذبحا وقتلا في ساعات معدودة.
وبهذا الانتصار الكبير رجع للمهدي شأنه الأول، فانتقضت أطراف السودان وعاد شعلة نار، وعلى أثر ذلك قررت الحكومة الإنجليزية إخلاءه، ولما لم تصادق وزارة شريف باشا على هذا الإخلاء، حملتها على الاستعفاء، وجاءت وزارة نوبار فصادقت عليه، وعين غوردون باشا لإخلائه وإخراج الجيوش المصرية منه، وكان فيه نحو الثلاثين ألفا، وحوصر غوردون باشا في الخرطوم إلى أن قتل، وكان ما كان مما هو معروف ومشهور. فمن هو المسئول عن هذه النتائج السيئة؟ ومن الذي أضاع السودان؟ أمصر التي أضاعته أم السياسة الإنجليزية التي كانت مشرفة على مصر في هذا الحين؟ (3)
ثم ترك السودان تفتك بأهله الفوضى والجهل والظلم والأوباء والحروب، فحصدتهم هذه الأدواء حصدا، واصطلحت عليهم، وتركت البقية الباقية من أهله في جوع وعري.
وهذه العاقبة هي التي توقعها عبد القادر باشا حلمي لأهل كردفان لو بقي المهدي محصورا فيه. وعند ذلك جاءت أوامر إنجلترا بتجهيز حملة لاسترجاع السودان، وصدر القرار الوزاري بذلك في 13 مارس سنة 1896م، فاسترجع السودان بثلاث وقعات كبرى وبجيش يبلغ نيفا وعشرين ألفا تقريبا، ولم يقتل منه إلا القليل. وكانت الخسارة في الواقعة الفاصلة - وهي واقعة أم درمان - من القتلى ثلاثة ضباط إنجليز، واثنين من المصريين، وأربعة وعشرين عسكريا إنجليزيا، وسبعة وعشرين عسكريا مصريا، ولم تبلغ النفقات التي صرفت في هذا الفتح مليونا من الجنيهات، فهل كان يعجز مصر أن تقوم بذلك وحدها؟
الفصل الثالث
وجاء في آخر كتاب سموه عن المالية المصرية
متعلقا بالسودان ومصر ما نصه
مساحة الأراضي القابلة للزراعة في القطر المصري 7100000 فدان عدا 200000 فدان تربى فيها الأسماك، والمقدار الأول قسمان: (1)
5600000 فدان تجبى منها الضرائب باعتبار أنها مزروعة. (2)
1500000 فدان غير مزروعة الآن، وقابلة للزراعة في المستقبل.
وجملة سكان مصر 12718255 حسب إحصاء سنة 1917م؛ فيكون لكل فدان شخصان وربع، وأكثر المديريات سكانا بالنسبة لمساحتها مديرية المنوفية؛ إذ يخص كل ثلاثة من سكانها فدان واحد. وما زال المصريون منذ إحصاء سنة 1917م في نمو مستمر، فإذا تركنا سني الحرب الاستثنائية جانبا، نجد زيادة عدد المواليد على عدد الوفيات في سنة 1921م، حسب تقدير مصلحة الإحصاء بلغت 224459، وفي سنة 1922م 243536 نسمة.
وكلما زاد عدد السكان كثر ازدياد عدد المواليد على عدد الوفيات طبعا، ولا ريب عندنا في أن متوسط هذه الزيادة يبلغ سنويا 250000 بدون أدنى مبالغة.
وليس في مديرية المنوفية - وهي أخصب أرض مصر - قطعة لا تزرع، ومع ذلك فكثير من سكانها يهاجرون؛ لأنهم لا يجدون ما يسد حاجة معيشتهم فيها، على أننا مع هذا نسلم بقاعدة كفاية الفدان الواحد من كل أرض زراعية في مصر لمتوسط معيشة ثلاثة أشخاص.
فنقول بناء على هذه القاعدة: إن الأرض المزروعة في مصر ومقدارها 5600000 فدان تكفي لمعيشة 16800000 نسمة، وبعد تعداد النفوس سنة 1917م بلغ مجموع زيادة المواليد على الوفيات 871770 بتقدير مصلحة الإحصاء، فإذا أضفنا إلى ذلك زيادة سنة 1923م ومقدارها 250000، وأضفنا المجموع إلى إحصاء سنة 1917م يكون عدد السكان في نهاية سنة 1923م 13800000، وبطرحه من 16800000 نسمة - وهو العدد اللازم لاستثمار المساحة المقرر عليها ضرائب - يكون الباقي 3000000 نسمة، وهو عجز يسد بزيادة السكان السنوية، فإذا سلم لنا أنها 250000 سنويا يتلاشى هذا العجز بعد اثنتي عشرة سنة. على أننا نقول: إن عشر سنوات فقط تكفي لذلك إذا جرت الأمور في مجراها الطبيعي.
وإذا أعدت المساحة غير المزروعة الآن للزراعة - وهي تشمل الجزء الشمالي وإقليم البحيرات للدلتا، ومقدارها كما مر 1500000 - لزمها من السكان 4500000، وهو مقدار يتلاشى بزيادة السكان في مدى ثماني عشرة سنة، فتكون السنوات اللازمة لملاشاة العجز كله ثلاثين سنة، أو بالحري خمسا وعشرين سنة؛ أي ربع قرن، أو نصف العمر الغالب للإنسان. وعلى ذلك نجد أنفسنا أمام إحدى حالتين، وهما:
الأولى:
إذا لم تجفف مياه إقليم البحيرات ولم يعد للزراعة، وصلنا إلى آخر حد لاستطاعة القطر تحمل سكانه في مدة اثنتي عشرة سنة على الأكثر.
الثانية:
إذا جففت مياهه وأعد للزراعة، وصلنا إلى الحد المذكور في مدة ثلاثين سنة على الأكثر.
وهاتان المدتان - حتى أطولهما - أقرب إلينا من حبل الوريد، ومعظم النسل الحاضر سيرى بعيني رأسه انقضاء هذه السنين، فماذا نصنع بعدئذ والزيادة مستمرة في السكان؟
لا ريب أنه يجب علينا منذ الآن التفكير في حل لهذه المعضلة الاجتماعية المتوقعة، وهو ما سنفرد له هذا البحث، فنقول: الجزء المروي أو الممكن ريه من القطر المصري على شكل شريط طويل دقيق، ينتهي طرفه الشمالي بشكل مروحة عند البحر الأبيض المتوسط، وهذه هي التي تسمى الدلتا.
وهذا الجزء المروي يحد بصحراء العرب شرقا وصحراء لوبية غربا. وليس في الإمكان ري أرض الصحراوين المذكورتين بمياه النيل؛ لارتفاعها وعدم استواء سطحها، فسيستمر جدبهما لهذا العائق الذي لا يمكن تذليله إلى ما شاء الله. ومن المستحيل في مصر الانتفاع بأرض لا يرويها النيل، فليس هناك احتمال لتوسع زراعي من هاتين الجهتين.
وفي الجهة الشمالية البحر، فإذا وجهنا زيادة عدد سكاننا إلى هذه الوجهة وافترضنا ارتحالها إلى ما وراء البحار، وتركنا جانبا كراهة المصري الغربة، فإننا لا نجد ما يحقق لها أي رغد من العيش؛ للبون الشاسع بين البلادين مناخا، وطبيعة، وجنسية، ولغة، وديانة، فهذه الجهة في حكم المسدودة.
أما المورد الصناعي للمعيشة، ففضلا عن أن مصر تنقصها المواد الأولية لتكون الصناعة فيها زاهرة يانعة، فإنه مورد محدود من المستحيل أن ينتفع به عدد عظيم من السكان في مصر، ولنفرض أنهم نصف مليون أو مليون، فإنه يستغرق بزيادة السكان في مدى أربع سنوات فقط، ومتى انقضى هذا الأجل القصير نجد أنفسنا أمام المعضلة بعينها من جديد.
وحاشا أن نقصد تثبيط الهمم عن الصناعة بهذا الكلام، وإنما القصد فقط بيان عدم كفاية هذا المورد، وأنه لا يحل المشكل الذي نحن بإزائه.
فالمنفذ الوحيد المفتوح أمامنا هو جهة الجنوب، حيث يوجد إقليم واسع ذو سكان قليلي العدد، وأرض من طبيعة أرض مصر تروى بنفس النيل، ولا يفصلها عنا فاصل، بل هي ومصر جسم واحد.
وإقليم كهذا - حالته المعيشية وثمار أرضه مماثلة لقطرنا - المصريون وحدهم هم الذين في استطاعتهم جعله في حالة سعادة ورفاهية. وبالاختصار هو بيئة مناسبة لأمزجة المصريين على قدر ما هم أنفسهم موافقون لهذه البيئة. وهو الذي يسع الزيادة المستمرة لسكان مصر مدى مائة عام بدون أدنى مضايقة.
فالسودان هو باب السلام الوحيد الذي ظل مفتوحا لمصر على مصراعيه منذ الأزمان الخالية، ويجب أن يبقى كذلك إلى الأبد؛ لأنه لازم لها لزوم الروح للجسد.
وإلى هذا الغرض يجب أن تصوب جميع جهود الذين في يدهم حظ مصر، وفي قلبهم يضمرون لها النفع والمصلحة.
الفصل الرابع
كتاب من حضرة صاحب السمو الأمير إلى صاحب الدولة رئيس لجنة الدستور
العمومية
في 3 مايو سنة 1922م
حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا
إن لجنة الدستور التي ترأسونها دولتكم، يجب أن يكون عملها مطابقا لرغبات الأمة. ومسألة السودان من أمهات المسائل الشاغلة للرأي العام المصري. وكان الواجب على الوزارة الحاضرة أن تحصل على الاعتراف ببطلان اتفاقية السودان سنة 1899م، وتجعل حل هذه المسألة من الشروط الأساسية التي لا يمكن تشكيل الوزارة قبل البت فيها، ولكن إذا كان هذا قد فات الوزارة مع مزيد الأسف، فلا يصح أن يفوت دولتكم وحضرات إخوانكم أعضاء لجنة الدستور.
لذلك جئت بخطابي هذا مذكرا دولتكم بوجوب اعتبار السودان ضمن حدود البلاد، كما كان قبل الاحتلال، ووجوب تشكيل مجلس نوابنا من المصريين والسودانيين على حد سواء؛ حتى يجلس نواب إخواننا سكان السودان المصري مع زملائهم سكان الوجهين البحري والقبلي، ويعمل الجميع للمصلحة المشتركة التي لا انفصام لها أبدا.
واقبلوا فائق احترامي.
صفحه نامشخص