مصر والشام في الغابر والحاضر
مصر والشام في الغابر والحاضر
ژانرها
هذه لمحة موجزة جدا عن الصلات السياسية التي كانت بين البلدين قبل الإسلام، أما الصلات العلمية فسنحدثك عنها فيما بعد، وسترى أنها كانت جد قوية وأن هذين القطرين ما كانا إلا كالقطر الواحد في حياته السياسية والثقافية منذ فجر التاريخ. •••
ظهر الإسلام ومصر والشام تحت النفوذ البيزنطي الذي ضاق القطران به وأخذ كل واحد منهما يسعى للانفصال عن المملكة البيزنطية، ومما سهل ذلك انشغال الإمبراطور البيزنطي «هرقل» بالخلاف الداخلي القوي، وقد كثرت الاضطرابات الدينية والسياسية في مملكته، فضعف نفوذه في القطرين، ففتحت الشام ومصر أبوابهما للعرب المسلمين، وصارتا قطعة من جسم المملكة العربية الجديدة. وكان فتح دمشق في سنة «14ه» ثم فتح الإسكندرية في سنة «22ه»، وعقبت هذه الفترة فترة هدوء طويلة سكن فيها الشعبان السوري والمصري إلى الشعب الفاتح، واستراحا قليلا من تلك الاضطرابات التي كانت تقع في بلادهما بسبب الاختلافات المذهبية، وعادت الحياة الدينية إلى جو هادئ، وأصبح القبط في مأمن على مذهبهم، وسكن اليهود إلى عقيدتهم في ظل العرب المسلمين، وأضحوا آمنين على أنفسهم وأموالهم، وهدأت البلاد في صدر عصر الخلفاء الراشدين واستراحت. ولكن حدث حادث اضطربت له البلاد الإسلامية جميعا، وبخاصة مصر، وهو مقتل الخليفة عثمان بن عفان؛ فقد كان للمصريين ضلع كبيرة في هذه القضية، كما استغل الشاميون هذا الحادث وقضت البلاد فترة سيئة لم تستقر إلا بعد أن توطد الأمر لمعاوية، فأقام في الشام وأعاد عمرو بن العاص إلى مصر. وظلت مصر طوال العهد الأموي تتمتع بأمراء صالحين ينتقيهم لها بلاط دمشق الأموي، وأول أمير بعثته دمشق إلى مصر هو عمرو بن العاص (43ه) الذي كان فيها من قبل أميرا وفاتحا، والذي سار بمصر أحسن سيرة وعدل بين الرعية وأحبه الأقباط والمسلمون، ولا عجب؛ فقد كان من أدهى الناس وأحسنهم رأيا وتدبيرا. وممن بعثتهم دمشق إلى مصر من الأمراء عتبة بن أبي سفيان (44ه) أخو معاوية، وقد حمد المصريون سيرته فيهم كما حمدوا عقله وذكاءه وفصاحته. ومنهم عقبة بن عامر الجهني الصحابي القارئ الفرضي الشاعر الكاتب الذي قال عنه ابن تغري بردي: «كان لأهل مصر فيه اعتقاد عظيم وله عليهم فضل؛ فهو أول من نشر فيهم الحديث، وقد روى ابن أبي الحكم المؤرخ المصري المشهور أحاديثه التي نقلها المصريون عنه.» ومنهم عبد العزيز بن مروان (86ه) والد الخليفة عمر ، وكان من أحسن الأمراء عمرانا وسياسة، وهو الذي نزل بحلوان فأعجبته وبنى بها الدور والمساجد وعمرها أحسن عمارة وغرس نخلها وكرمها، وكان جوادا سيوسا. ومنهم عبد الملك بن رفاعة الفهري (109ه) وكان حسن السيرة عفيفا عن الأموال، فيه دين وعدل بالرعية وثقة وفضل، وقد تولاها مرتين.
هذا ولما اضطرب أمر الخلافة الأموية وقوي سلطان بني العباس في بلاد الشام وهزموا الخليفة مروان بن محمد في دمشق، لم يجد له ملجأ يعصمه منهم إلا في مصر، فالتجأ إليها ولقي من أهلها عونا، فجمع جموعا سار بهم لقتال صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، ولكن لم يكتب له النصر أمام جيوش خصومه القوية، فقتل ودخل صالح الفسطاط في 8 محرم سنة 133ه وبعث برأس مروان إلى الشام والعراق، ودالت دولة بني أمية. •••
جاء العصر العباسي فزالت معالم الفخامة عن العاصمة الأموية، وأباح الفاتح العباسي دمشق ثلاث ساعات وقيل أكثر، ووضع السيف في أهلها، ولم يزل جماعته يجزون الرءوس في الطرق والمنازل، ويأخذون الأموال والأولاد، ويقتلون العلماء والأمراء حتى في المسجد الجامع؛ فقد انتهكوا حرمته فهدموا محاريبه وأحرقوه وخربوا قبابه وجعلوه إصطبلا لدوابهم، وقتلوا خلقا من أهل الذمة من اليهود والنصارى لا يحصون، كما خربوا معابدهم، ونبشوا قبور الخلائف من أمية، ونقضوا سور المدينة. أما مصر فلم يكن حالها أفضل من حال دمشق، قال ابن تغري بردي: «ولما ولي صالح مصر بعث ببيعة أهل مصر لأمير المؤمنين عبد الله السفاح، ثم أخذ صالح في إصلاح أمر مصر وقبض على جمع كثير من المصريين الأمويين، وقتل كثيرا من شيعة بني أمية وحمل طائفة منهم إلى العراق وقتلوا بقلنسوة من أرض فلسطين.» ولم يقم صالح في مصر إلا أشهرا؛ فإن السفاح بعث به أميرا على فلسطين وولى أبا عون بن زيد على مصر، وقد كان أبو عون هذا باطشا فاتكا، ثار عليه أقباط مصر بسمنود فقتل منهم مقتلة عظيمة، واضطربت الشام ومصر لذلك. ولما مات السفاح سنة 136ه ثارت دمشق وخلعت الخلافة العباسية وتابعت هاشم بن يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية، فتوجه إليهم صالح بن علي من فلسطين وأعمل فيهم سيفه، فهدءوا ونفوسهم تتميز من الغيظ. وفي عهد المنصور ولي أبو مسلم الخراساني مصر والشام معا، فلم يقبل لأنه كان أوسع آمالا كما ذكر ذلك صاحب النجوم الزاهرة، وقال أبو مسلم في ذلك وهو غاضب: «يوليني مصر والشام وأنا لي خراسان؟!» وعزم على الشر من يومئذ ثم كان من أمره ما كان.
وفي أيام المنصور وخلفائه كثر تغيير الأمراء على الشام ومصر ولم يستقر فيهما أمير أكثر من سنة، ولعل السر في ذلك تخوف بني العباس من استقلال أمير هذين القطرين بهما، على أن بعض خلفاء بني العباس كانوا كثيرا ما يجمعون هذين القطرين لأمير واحد، كالذي فعله الرشيد مع أبي مسلم عبد الملك بن صالح العباسي، فقد كان واليا على مصر والشام. وفي أيام المأمون جمعت ولاية مصر والشام لطاهر بن الحسين، ويظهر أن المصريين كانوا مثل الشاميين كرها لبني العباس. أما الشاميون فكانوا كثيرا ما يتحينون الفرص للخلاص من بني العباس؛ لأنهم رأوا أن زوال الدولة الأموية كان زوالا لمجد العرب ورفعا لشأن العجم، ولهذا لم تخل فترة في أيام العباسيين بالشام من ثورات وانتقاضات كثورة حبيب بن مرة الفهري، وثورة أهل حوران، وثورة أبي محمد زياد بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية، وثورة أهل حمص، وثورة السفياني علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية. ومن أعظم هذه الثورات الثورة التي قام بها أهل دمشق على واليهم المنصور بن المهدي، وقد ظلت نار هذه الفتنة ملتهبة حتى أطفأها عبد الله بن طاهر سنة 210ه. ومنها ثورة الشاميين في عهد المتوكل على واليهم سالم بن حامد لظلمه وقتله الأشراف، وقد قتلوه على باب الخضراء - قصر معاوية ومقر الخلافة الأموية - فغضب الخليفة المتوكل لذلك لما بلغه وقال: «من لدمشق وليكن في صولة الحجاج؟» فقالوا له: «أفريدون التركي»، فجهزه إليها في سبعة آلاف وأحل له فيها القتل والنهب ثلاثة أيام، وهكذا فعل. وفي سنة 227ه ثار المبرقع الشامي تميم اللخمي، وخلع الطاعة ودعا إلى نفسه في بلاد الشام، فتبعه خلق كثير من المزارعين وغيرهم وقالوا هذا هو السفياني الذي ينقذ الشام، واستفحل أمره جدا حتى صارت جماعته تزيد على مائة ألف. وفي سنة 250ه وثب أهل حمص بعاملهم فقتلوه، فوجه إليهم الخليفة المستعين من حاربهم، فهزمهم بين حمص والرستن، وافتتح حمص وأحرق المدينة. ثم ثاروا بعد عهد قصير ثانية فأرسل إليهم الخليفة عاملا آخر فدخل بلدهم عنوة وأباحها ثلاثة أيام وطرحت النار في منازلها.
وبعد، فلو رحنا نعدد لك ثورات الشاميين على الولاة العباسيين لعددنا لك الشيء الكثير، ولا عجب فإن القوم كانوا يحنون إلى العهد الأموي ويكرهون هؤلاء الولاة الأتراك القساة الذين كانت تبعث بهم بغداد.
أما مصر فما كانت أهدأ بالا، ففي ولاية يزيد بن حاتم المهلبي عليها ظهرت دعوة بني علي فيها، وتكلم الناس بها وبايع كثير منهم لبني الحسن في الباطن، وماجت الناس بمصر وكاد أمر بني علي أن يتم، والبيعة كانت باسم علي بن محمد بن عبد الله. وبينما كان الناس في ذلك إذا بالبريد يقدم برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب سنة 145ه، فنصب في المسجد أياما وسكن الناس على مضض.
وفي ولاية واضح بن عبد الله المنصوري سنة 162ه خرج إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وكان واضح يميل إلى العلويين، فحمله على البريد إلى المغرب، ولما بلغ هذا الخبر مسامع الخليفة الهادي طلب واضحا وقتله وصلبه سنة 169ه. وفي ولاية إبراهيم بن صالح العباسي سنة 165ه خرج دحية بن المصعب بن الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان الأموي بالصعيد، ودعا لنفسه بالخلافة واستفحل أمره، وكاد أن يتم حتى ولي مصر الفضل بن صالح سنة 169ه، فأسره وقتله وبعث برأسه إلى الخليفة الهادي. وفي ولاية إسحاق بن يحيى الختلي ثار العلويون بمصر سنة 235ه فأخرجوا من ديارهم. وكان أهل الحوف المصري من عرب قيس وقضاعة واليمن كثيرا ما يثورون على الأمراء العباسيين في مصر ، وربما استنجدوا بإخوانهم الشاميين فأنجدوهم على الأمراء العباسيين، وأخبار أهل الحوف وثوراتهم كثيرة جدا في هذه الفترة.
وصفوة الحكم على العصر العباسي في دوره الأول بمصر والشام أن هذين القطرين كانا يعاملان معاملة واحدة ويسيران بسياسة واحدة، ومن يلاحظ خطوط التاريخ في تلك الفترة يجد أن البلاد لم تكن تعامل بالحسنى والخير إلا في عهد خليفتين اثنين: الرشيد وابنه المأمون، فقد كانا يعطفان على هذين القطرين ويخصانهما بأفاضل العمال والرجال، ويوجبان عليهم الرأفة والرحمة والعدل، وفي عهد هذين الخليفتين فقط قلت ثورات الشاميين والمصريين على بغداد، وإنه لحق أن نقول إن هذين القطرين لقيا عنتا وفوضى في الحكم بعد عصر هذين الخليفتين؛ فما جاء عصر المتوكل حتى اضطرب أمر البلاد ودخل الوهن إلى سياستهما، فبعد أن كان الخلفاء يرسلون إلى دمشق والفسطاط أشرف أهل البيت العباسي للحكم فيهما أخذنا نجد العمال أتراكا أو مولدين كأفريدون التركي الطاغية، وخاقان التركي الخبيث، ومزاحم بن خاقان، وأرخوز بن أولوع، وغيرهم. وقد لاحظ هذا الأمر مؤرخون قدماء وجدد، حتى قال صاحب النجوم الزاهرة في أثناء كلامه على ولاية عنبسة بن إسحاق: «وعنبسة هذا هو آخر من ولي مصر من العرب وآخر أمير صلى في المسجد الجامع.» وقال كرد علي: «وبعد أن كانت بغداد ترسل إلى الشام أولاد الخلفاء وأعاظم قوادها من الأصول، أصبحت ترسل إليها من الفروع أفريدون التركي وخاقان التركي ومحمد المولد من الموالي، فظهر الفرق في صورة الحكم لأن الحكم في الغالب كان فرديا لا علاقة للجماعة به إلا إذا أحب صاحب الأمر استشارة صاحب الرأي استشارة خاصة.»
والحق أن بلاد الشام ومصر لقيت من العمال البغداديين الشيء الكثير، وخصوصا في الفترة التي وليت عصر المتوكل والمعتصم إلى عهد المعتز. وفي عهد المعتز هذا سيطر أحمد بن طولون على مصر والشام سيطرة تامة مدة اثنتي عشرة سنة، ثم جاء أبناؤه وحفدته خمارويه وجيش وهارون وشيبان فسيطروا على البلاد إلى أن انقرضت دولتهم. وباستيلاء الطولونيين على الشام ومصر شعر أهلوهما أنهم مستقلون تماما عن بغداد، وأن في استطاعتهم إذا هم هيئوا جيشا على رأسه أحمد بن طولون أو ابنه جيش، أن يقوموا بأعمال باهرة وأن ينجوا من السلطان التركي الغاشم، وأن ينشئوا لأنفسهم دولة ذات سيادة، فكان ذلك وكانت الدولة الطولونية ذات «الطابع» الخاص في الحضارة والعمران.
صفحه نامشخص