مصر والشام في الغابر والحاضر
مصر والشام في الغابر والحاضر
ژانرها
ومنهم عبد العزيز بن محمد بن الرفاء الدمشقي (؟) رحل إلى العلم في البلاد فسمع بمصر وبغداد وتتلمذ عليه طائفة من الكبار مثل الحافظ البرزالي وعبد المؤمن الدمياطي وأبو الفداء الحموي وبدر الدين بن جماعة، وكان أصحاب دمشق كثيرا ما يرسلونه إلى دار الخلافة وملوك مصر.
ومنهم شمس الدين محمد بن محمد الصوفي المحدث (682ه)، تعلم ببغداد والعراق والشام والمشرق والحجاز وجاور بيت المقدس طويلا، وأقام بمصر يعلم، وله تلاميذ في جميع الأقطار.
ومنهم محمد بن يوسف الجزري المصري (؟)، تعلم ببغداد ومصر وكان عارفا بالفقه والتفسير والعقائد والعربية والمنطق، عرض عليه قضاء مصر ودمشق فأبى.
وهناك مئات ومئات من العلماء المصريين الذين كانوا يعلمون في الشام أو العراق، كما أن هناك مئات من العلماء الشاميين الذين كانوا يعلمون في مصر أو يقومون ببعض وظائف الدولة فيها، ولا شك في أن هؤلاء كانوا يمتنون الصلات بين البلدين، ولا عجب فإن عصر المماليك قد ربط هاتين المملكتين برباط قوي سواء في السياسة أو في العلم والاجتماع، ثم إنه لا شك أيضا عندنا في أن للأزهر اليد الطولى في شد هذا الرباط، فإنه أصبح في عصر المماليك محجة المسلمين من شتى أقطار الأرض، وقد بلغ عدد طلابه في أوائل القرن التاسع زهاء سبعمائة وخمسين رجلا ما بين عجمي وزيلعي وريفي ومغربي وشامي، كما يحدثنا بذلك المقريزي.
تلك هي صورة عن الحركة العلمية والدينية بين القطرين منذ القرن السابع إلى نهاية القرن التاسع، أما الحركة الأدبية فما كانت أقل نشاطا، فقد نبغ في القطرين فحول مثل ابن نباتة المصري (768ه)، وابن أبي حجلة (776ه)، وشمس الدين الهواري (780ه)، وهؤلاء شعراء مجيدون خلفوا آثارا تدل على سمو كعبهم في الأدب المصري الإسلامي. ومن الأدباء المصريين الفحول في هذه الفترة الشهاب القلقشندي (821ه)، والبدر الدماميني (827ه)، والشمس النواجي (859ه)، والمؤرخ بيبرس المنصوري (725ه )، وابن دقماق (809ه)، والمقريزي (845ه)، وابن تغري بردي (874ه)، وابن منظور (711ه)، والشهاب النويري (732ه)، وغيرهم. وقد كان لهؤلاء الأئمة تلاميذ من الشاميين قصدوهم إلى ديار مصر وتعلموا عليهم في الأزهر أو في غيره من المعاهد المصرية، ولو رحنا نستقصي أسماء هؤلاء الطلاب لجئناك بسفر ضخم.
كما أن الشام في هذه العصور قد زخر بطائفة من الأعلام في الشعر والأدب مثل ابن مكانس الدمشقي (794ه)، وابن حجة الحموي (837ه)، وعلاء الدين الغزولي (815ه)، وابن فضل الله العمري (748ه)، وأبي الفداء (732ه)، والبرزالي الدمشقي (739ه)، وابن الوردي (749ه)، والذهبي (748ه)، وابن كثير الدمشقي (774ه)، وابن شاكر الكتبي الحلبي (764ه)، والصلاح الصفدي (764ه)، وابن عربشاه (854ه)، والبرهان البقاعي (885ه)، وابن حبيب الحلبي (779ه)، وابن الشحنة الحلبي (815ه)، وابن قاضي شهبة (851ه)، وبدر الدين العيني (855ه)، وغيرهم كثير.
وقد كان لهؤلاء الشيوخ طلاب يفدون عليهم من مصر كما أن كثيرا من هؤلاء من درس بمعاهد مصر، وإنه لمن النادر جدا ألا تجد في ترجمة عالم من علماء هذين القطرين في تلك العصور أنه لم يرحل إلى مصر أو إلى الشام، أو أنه أقام في إحداهما ودرس وتخرج على يديه الطلاب الكثيرون. وفي أخريات القرن التاسع وأوائل القرن العاشر بدأ مشعل العلم يخبو نوره في الشام وفي مصر أيضا، وذلك لاضمحلال أمر الدولة في الشام وفي مصر؛ فاضطرب أمر الأزهر في مصر وجامع بني أمية في دمشق وحلب ومدرسة المسجد الأقصى في القدس، ولما دخل الأتراك العثمانيون هذه الديار سنة 922ه هبط المستوى العلمي هبوطا سريعا كما يقول الأستاذ عنان: «... وكما قضى ديوان التحقيق الإسباني على حضارة الأندلس وعلومها وفنونها وفقا لخطة منظمة، فكذلك عمل الغزاة الأتراك على تقويض صرح المدنية الإسلامية في مصر عقب الفتح مباشرة، وقضى السلطان سليم فاتح مصر في القاهرة زهاء ثمانية أشهر يجمع من تراث مصر وثروتها الفنية كل ما استطاع، ويخرب المساجد والآثار الخالدة لينتزع منها نفائسها ويبعث بها إلى قسطنطينية، ويقبض على أكابر مصر وزعمائها وعلمائها ورجال المهن والفنون فيها ومهرة الصناع والعمال، ويرسلهم جموعا حاشدة في السفن إلى قسطنطينية، وينتزع الكتب من المساجد والمدارس والمجموعات الخاصة ليودعها مكاتب العاصمة التركية وما زالت منها إلى اليوم بقية كثيرة في مكاتب إسطنبول، ومنها مؤلفات خطية لكثير من أعلام القرن التاسع الهجري المصريين مثل المقريزي والسيوطي والسخاوي وابن إياس مما يندر وجوده بمصر صاحبة هذا التراث العلمي، وهكذا انهار صرح الحركة الفكرية في مصر الإسلامية عقب الفتح التركي كما انهارت عناصر القوة والحياة في المجتمع المصري ... وأصاب الأزهر ما أصاب الحركة الفكرية كلها من الانحلال والتدهور، واختفى من حلقاته كثير من العلوم التي كانت زاهرة من قبل، حتى إن العلوم الرياضية لم تكن تدرس به في أواخر القرن الثاني عشر ... على أن الجامع الأزهر كان يقوم يومئذ بأعظم وأسمى مهمة أتيح له أن يقوم بها، فقد استطاع خلال المحنة الشاملة أن يستبقي شيئا من مكانته ... فيغدو ملاذا أخيرا لعلوم الدين واللغة ويغدو بنوع خاص معقلا حصينا للغة العربية تحتفظ في أروقته بكثير من قوتها وحيويتها، ويدرأ عنها التدهور النهائي ويمكنها من مغالبة لغة الفاتحين ومقاومتها ... وربما كانت هذه المهمة السامية التي ألقى القدر زمامها إلى الجامع الأزهر في تلك الأوقات العصيبة من حياة الأمة المصرية والعالم الإسلامي بأسره، هي أعظم ما أدى الأزهر من رسالته، وأعظم ما وفق لإسدائه لعلوم الدين واللغة خلال تاريخه الطويل الحافل.»
أقول وإن ما أصاب مصر من الغزو العثماني أصاب الشام، فقد قوض العثمانيون معالم دور العلم وخزائن الكتب بما نقلوه إلى عاصمتهم من الكتب والذخائر والتحف، وفي هذه الفترة انصرف الناس عن علوم الأدب والدين الصحيحة إلى القشور، فانحط العلم والأدب وهزل الشعر وأقفرت مدارس الشام من رجالها، واضمحلت دور كتبها من الكتب والآلات، وتقرب متولوها بإهداء ما فيها من النفائس إلى خزائن الوزراء والأمراء والسلاطين، وكانت دمشق وحلب والقدس أعظم مدن الشام مصابا بهذا الغزو الجائر، وفي هذا العصر كثرت الطرق الصوفية وانتشر التصوف في الطبقات عامة، ولولا الأزهر في مصر لانطفأت شعلة العلم في الشام.
على أن هذا كله لم يمنع من ظهور بعض الشعراء والأدباء والعلماء الذين كان لهم صوت مسموع، كعائشة الباعونية الدمشقية التي ماتت في أواسط القرن العاشر، وماماية الدمشقي الرومي، ودرويش الطالوي (1014ه)، ومنجك الدمشقي (1080ه)، وابن عبد الجواد الشربيني المصري (؟)، وعبد الله الشبراوي (1171ه)، ويوسف الحفني (1178ه). وقد خلف كل واحد من هؤلاء ديوان شعر أو أثرا علميا آخر يصور لنا الصلة العلمية بين القطرين كما يصور لنا الضعف العلمي الواضح الذي كانت عليه البلاد جميعا.
وهناك بعض علماء نبغوا في القطرين وكان لهم فضل في إعادة بعض الصلات العلمية في إبان تلك العصور المظلمة، نذكر منهم ابن إياس المصري (930ه)، وشمس الدين الصالحي (942ه)، وابن طولون الصالحي (955ه)، والحسن البوريني (1024ه)، ومرعي الكرمي (1033ه)، والشهاب الخفاجي (1069ه)، ويوسف البديعي (1073ه)، وعبد القادر البغدادي (1093ه)، والسيد المرتضى (1205ه)، ولكل من هؤلاء آثار علمية قيمة تشهد بعلو كعبه، وقد كان لهذه الآثار الفضل العظيم في بقاء اللغة العربية حية تنتج .
صفحه نامشخص