مصر من ناصر إلى حرب
مصر من ناصر إلى حرب
ژانرها
أما القفزة المميتة الأكثر غرابة فهي التي أقدم عليها السادات في نهاية عام 1973م بعدما عرف ب «حرب أكتوبر»؛ عندما لجأ إلى الولايات المتحدة سياسيا، ولم يكن قد تم بعد دفن الشهداء المصريين، الذين سقطوا بنيران الأسلحة الأمريكية التي زودت بها الولايات المتحدة إسرائيل بكرم بالغ. وقد ظلت الولايات المتحدة، كسابق عهدها، تقف دائما إلى جانب إسرائيل؛ العدو الرئيسي لمصر، وهو موضوع خاص بطبيعة الحال، لكن سلوك السادات كان ذا دلالة تماما لعلاقته بالأمريكيين.
سرعان ما أصبح كيسينجر ببساطة هو «هنري» بالنسبة للسادات، ولم يكن السادات يناديه بشيء آخر سوى «أفضل أصدقائي». وعندما وصل كيسينجر إلى القاهرة في زيارة من زياراته التي لا تحصى تصحبه زوجته، قال له السادات مرحبا به بلطف مبالغ فيه: «أنت بين أصدقائك يا هنري.» وقد ترك ذلك بالطبع أثرا طيبا على الصحفيين الأمريكيين.
وعندما نشر الاتحاد السوفييتي في ديسمبر عام 1974م خطاب أندريه جروميكو إلى كيسينجر، وكان قد أرسله إليه في أكتوبر عام 1974م، حيث طرح فيه موقف الاتحاد السوفييتي من التدخل الأمريكي في شئون بلادنا، وكشف فيه - أقولها بلطف - الخطأ الذي وقع فيه الأمريكيون تجاه هذا الموقف، أعلن السادات في عناد تصريحاته الصحفية الجديدة أنه مستمر في ثقته في كيسينجر. وهو أمر لا يثير الدهشة؛ فكيسينجر وعد السادات بشيء ما، وقد ظل السادات ينتظر بفارغ الصبر اللحظة التي يتحقق فيها هذا الوعد. لم يشأ السادات نتيجة جهله السياسي أن يرى أن كيسينجر قد حقق بالفعل مهمته الأساسية، وهي ضمان البقاء الآمن لإسرائيل عن طريق التوصل إلى اتفاق يقضي بإقامة منطقة محايدة، منطقة مقيدة من ناحية التسليح وانتشار القوات المسلحة وما إلى ذلك؛ أي عن طريق اتخاذ إجراءات تضمن وقف إطلاق النار واستحالة قيام الحرب بممارسة أية ضغوط عسكرية على إسرائيل.
أما كون السادات قد انتقل إلى جانب الأمريكيين صراحة، بعد أن خان في الواقع، من الناحية السياسية، صديقه المخلص؛ الاتحاد السوفييتي، فإنه لم ير في ذلك غضاضة أو مجافاة للمنطق. لقد رأى السادات أنه من أجل أن ينفذ سياسته فإن كل الوسائل حسنة، وأن المهم هو النتائج التي اعتبرها مقبولة من جانبه، أما ما عدا ذلك فليس له قيمة.
في ربيع عام 1974م أعلن السادات صراحة أن تسوية الصراع في الشرق الأوسط تتوقف على الولايات المتحدة الأمريكية وليس الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي أثار ضجة هائلة في الصحافة العالمية. وقد أعد السادات استقبالا حافلا إبان الزيارة التي طال انتظارها لنيكسون، وهو استقبال لم يسبق أن قام بإعداده لأي من الشخصيات الأجنبية التي زارت مصر من قبل، حيث بلغ عدد رجال الشرطة وأعضاء الاتحاد الاشتراكي العربي الذين استقبلوه في الطرقات حوالي مليوني شخص! وتم تقليده أعلى وسام حكومي في الدولة وهو «قلادة النيل» (هل لا تزال لهذه القلادة قيمة بعد ذلك؟ هذه قضية أخرى). وعندما وضع الأمريكيون نيكسون وظهره إلى الحائط وطالبوه بالاستقالة، كان السادات هو الأجنبي الوحيد الذي أعلن أن الإطاحة بنيكسون سوف تشكل مأساة على الولايات المتحدة الأمريكية!
3
بالنسبة لنا فإن علاقة السادات بالاتحاد السوفييتي كانت تمثل، بطبيعة الحال، مصالح مفهومة. يمكن القول إجمالا، إن هذه العلاقة كانت على طرف النقيض من علاقة ناصر بنا. كان ناصر ينطلق من السعي لاستغلال سياسة الاتحاد السوفييتي المعادية للاستعمار لتحقيق أهداف النضال الوطني التحرري الذي قاده الناصريون، وإلى إدراك ضرورة أن يقف إلى جانب الاتحاد السوفييتي باعتباره حليفا سياسيا. ومن المعروف أن ناصرا كان يفكر في العام الأخير من حياته في إقامة علاقات أكثر اتساعا وعمقا مع بلادنا، والدخول في تحالف معه. وكما هو واضح الآن فإن السادات يتلخص في العودة إلى الخلف، إلى ما بدأ به ناصر؛ أي الابتعاد عن العلاقات العميقة والعودة إلى استخدام الاتحاد السوفييتي لتحقيق أغراضه. ومن ثم تركزت اهتماماته في قضيتين؛ تصدير السلاح والمساعدات الاقتصادية، زد على ذلك أنه كان لديه بعض العلم بشكل أساسي في السلاح، أو كان يظن أن يعلم، أما في الاقتصاد فلم يكن يعلم أي شيء.
وإذا ما افترضنا - مجرد فرض - أن السادات قد وجد في مكان ما مصدرا لتصدير السلاح الحديث بنفس الشروط الميسرة التي يقدمها الاتحاد السوفييتي، وكان لديه اختيار مصدر للتصدير، لم يكن ليتردد في اختيار المصدر الآخر، الذي لا يرتبط بتلك الأيديولوجيا التي يتبناها الاتحاد السوفييتي، على الرغم من أن المسألة الأيديولوجية لم تظهر في علاقاتنا مطلقا. لقد انحصرت القضية برمتها في أنه وبحكم طبيعة الأشياء، لم يكن من الممكن أن تكون هناك دولة أخرى في العالم باستطاعتها أن تتعامل مع حركة التحرر الوطني على النحو الذي يتعامل معها به الاتحاد السوفييتي. من هنا كانت الإمكانية أمام مصر في الحصول على السلاح والدعم الاقتصادي. وهو ما فهمه السادات بصعوبة. كان السادات يرى في عناد أن مصر هي التي تقدم للاتحاد السوفييتي الدعم الأكبر من أجل أغراضها السياسية والعسكرية!
لم يكن أمرا غريبا أن يبدأ السادات اتصالاته الأولى مع الاتحاد السوفييتي فور تسلمه منصب الرئيس بطرح قضية توريد السلاح. حدث ذلك في اللقاء الأول مع الوفد السوفييتي الذي جاء للمشاركة في جنازة ناصر برئاسة ألكسي كوسيجين. وقد جاء طرح الموضوع على النحو التالي تقريبا؛ إن الاتحاد السوفييتي لا يرغب لأسباب ما في توريد السلاح لمصر، بمعني تسليح مصر لتكون على نفس المستوى مع إسرائيل. بعبارة أخرى، فالولايات المتحدة تمد إسرائيل بالسلاح على نحو جيد، بينما لا يقوم الاتحاد السوفييتي بإمداد مصر بالسلاح على نحو كاف. وفي هذا السياق، لم يتطرق السادات بطبيعة الحال للحديث عن المستوى المنخفض للإعداد الفني للكوادر المصرية، وعن النقص الكبير في عدد الطيارين، وإنما راح يطالب طوال الوقت بالطائرات، الطائرات ثم الطائرات، وخاصة الطائرات المتطورة، بل وحتى طائرات التجارب والتي تحتاج إلى خبرة.
وقد تناول أول لقاء عملي لي مع السادات بعد وصولي إلى القاهرة باعتباري السفير السوفييتي الجديد، تناول أيضا مسألة توريد السلاح. دعاني السادات لمقابلته وسلمني طلبا «عاجلا» بخصوص طلبات التوريد، على الرغم من أن الموقف آنذاك لم يكن يستدعي السرعة.
صفحه نامشخص