369

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

ژانرها

ولكن ذلك الإلزاسي رأى أنه يستطيع تقديم خدمة إلى الخديو، أجل من الخدمة التي كلف بها، وأخذ على نفسه إتمام مخابرات خاصة ينشرح لنتيجتها صدر (إسماعيل) انشراحا كبيرا.

فشرعت الألسنة تتداول ذكره، وبدأت التخمينات تتضارب فيما عسى أن يكون العامل المالي الجديد العتيد ظهوره، فبعضهم يذهب إلى أن المخابرات دائرة مع «المصرف الشرقي»، وآخرون إلى أنها دائرة مع رجل يقال له (لاشيڨارديير) بالنيابة عن بيت «كارتريه» الشهير، وغيرهم يذهب مذهبا آخر، والكل على اختلاف مراكزهم من الوزير إلى آخر سمسار في البورصة يتطلع إلى إنهاء تلك المخابرات، ونجاحها بسرعة كلية.

وذلك لأن الضيق المالي كانت قد استحكمت حلقاته، وباتت النقود قليلة في السراي الخديوية عينها، وأمسى الحريم المصون نفسه في حاجة إليها - و(إسماعيل) مع ذلك مكب بكل ما أوتي من نشاط على إشباع رغبة التشييد والتعمير التي عادت نفسه ممتلئة بها إثر زيارته لباريس ولندره، مشدد في طلب الأموال من خزينة المالية، لتصليح الأزبكية، وتكييفها تكييفا جديدا، وإنشاء مضمار سباق للخيل، وإتمام حي الإسماعيلية، وفتح شوارع العاصمة الجديدة، وابتناء قصور في العباسية، والقبة، وعابدين، والجيزة، وتجاه جزيرة الروضة، وفي مصطفى باشا، وتزيينها بالرياش الفاخر، وهلم جرا - فبذل المتخابرون جهدهم حتى وصلوا إلى اتفاق أقروه، وللحال ذاعت في الأسواق والأوساط المالية أنباء عقد القرض المرغوب فيه، بين الوزير راغب باشا عن الخديو، وبين (لاشيڨارديير) عن محل كارتريه وشركائه (3 فبراير سنة 1868).

فنزلت أسعار الخصم من 16 في المائة إلى 12 في المائة، وبات تحسينها المطرد منتظرا من الجميع، لما أشيع عن اشتمال ذلك القرض على مزايا قل توقع نظيرها أو ما يضاهيها في عالم الاقتراض.

فتناقلت الألسنة أن المبلغ المقدم سيكون 645000000 من الفرنكات، لتوحيد عموم الديون المصرية (بما فيها دين السكة الحديدية، وما خلا أذنات القرى)، وأنه سيقسط على 41 سنة، باعتبار القسط السنوي 875 في المائة من الدين الاسمي، أي أن المبلغ الذي يجب على الحكومة المصرية دفعه كل ستة أشهر لا يزيد أبدا على 27343750 فرنكا، وأنه يدفع في أول يناير، وأول يولية من كل سنة، وأن العربون الذي يقدم فورا سيكون عشرين مليونا من الفرنكات. وأما ضمانات السداد، فعموم الإيرادات التي ما زالت حرة، والتي ستصبح حرة في المستقبل بعد سداد الدين الذي هي ضمانته، وأنه اشترط أن تنشئ الحكومة سجلا عاما للديون المصرية، وتضع له نظاما خاصا به، وتتعهد بأن لا تقترض في المستقبل إلا على قدر الزيادة في ميزانيتها السنوية.

غير أن المزايا النادرة ذاتها، المتفق عليها لمصلحة المقترض في ذلك العقد كان من شأن المبالغة الظاهرة فيها إلقاء الريب والشك حول إمكان توقيعه حقيقة؛ لذلك أخذ الخبيرون في الأمور المالية يتسارون بأنه لا بد من وجود مخدوع بين الطرفين المتخابرين، وأنه يصعب أن يكون ذلك المخدوع المحل المالي.

وما لبثت الأيام أن أظهرت أن همسهم كان على حقيقة، فإنه لما كلف الخديو الموظف الإلزاسي بدرس أوراق التوكيل التي قدمها (لاشيڨارديير) في أول المخابرات إلى وزارة المالية، والتثبت من حقيقتها، لمعرفة ما إذا كان محل كارتريه وشركائه قد خول وكيله المذكور حق التوقيع على العقد بالنيابة عنه أم لا، وأقبل ذلك الموظف على البحث عنها في ملف أوراق المفاوضات، وجد - وكل كيانه ينتفض وجلا - أن تلك الأوراق قد أخفيت، وأنه لم يبق لها من أثر، فأدرك في الحال أنه قد هزئ به، ونصب عليه وعلى موكله معا، وكاد يفقد رشده.

وشاع نبأ ذلك في الدوائر المالية، فأثار فيها عاطفة سخرية وقلق معا. ولما اطلع (إسماعيل) على الأمر استشاط غضبا، وصب جام سخطه على رأس وزير ماليته التعس راغب باشا، وعلى رأس ذلك الألزاسي المتداخل فيما لم يكن من اختصاصاته، وعزلهما من خدمته.

فمرض كلاهما مرضا كاد يودي بحياتيهما. واضطر الألزاسي بعد ما نهض من سرير أسقامه إلى مغادرة الديار.

فلما خلت وزارة المالية من شاغليها، رأى الخديو أن يقلد منصبها رجلا قريبا من قلبه، كان سبق له امتحانه في وظائف أخرى ذات مسئولية خطيرة، فوجده راجحا، وآنس منه ذكاء نادرا، وتفننا غريبا، وإخلاصا متناهيا في خدمته، فاستدعاه إليه، وعينه وزيرا لماليته.

صفحه نامشخص