351

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

ژانرها

ومما زاد الطين بلة في فيضان تلك السنة أن الأمطار انهمرت انهمارا غير معهود في عموم بلاد مصر السفلى ومصر الوسطى، فهدمت ما هدمت، وجرفت ما جرفت، واستمر نزولها بمصر القاهرة وحدها نيفا وتسعة أيام متواليات، واستمرت في ذات يوم منها تنهمل تسع ساعات، وست دقائق بلا انقطاع.

على أن كثرة ورود السائحين في هذا العام أيضا، بناء على المحببات والمرغبات التي بذلها لهم (إسماعيل)، سواء أكان بإقامته المراقص والملاهي التمثيلية بالقاهرة والإسكندرية، أم بالتسهيلات الكثيرة التي أوجدها لتمكينهم من زيارة عجائب القطر، حتى بلغ عددهم نيفا و64328، وكثرة ما بذلوه من مال عن يد سخية، عوضتا البلاد إلى حد ما من المضار المتابعة التي أصابتها. ثم عاد النيل فزاد زيادة مخيفة أيضا في سنة 1872، وبلغ ارتفاع مياهه نيفا وأربعة وعشرين ذراعا، فزاد في بؤس صغار الفلاحين والفقراء من الناس، ولكن عدد الزائرين الأجانب - وبلغ 67772 - جاء مخففا لشيء من ذلك المصاب، كأن الله ابتلى عباده من جهة، ولطف بهم من جهة أخرى.

17

غير أن السيل بلغ الزبى، حقيقة، في سنة 1874، فإن الفيضان ما فتئ في ذلك العام يرتفع، يرتفع، يرتفع، حتى بلغ نيفا وستة وعشرين ذراعا واثنى عشر قيراطا، فتدفقت المياه من كل صوب، وتبطحت، وأدركت ذات الأماكن المرتفعة، وأصابت القطر كله بمضار جمة، نشأ عنها عسر شديد، وغلاء فاحش، اضطرا الخديو إلى العدول عن السفر إلى الخارج، والإقامة في الإسكندرية لمراقبة خدمة الجسور وصيانتها وترميمها من جهة، ولمنع نزوح الأموال المصرية إلى خارج القطر من جهة أخرى، بإبقاء ثروة البلاد فيها. ومما زاد تلك السنة في البؤس العام هو أن وزارة المالية قررت استيفاء العوائد على سائر الأملاك بمصر والثغور والبنادر والجفالك، باعتبار السنة الهلالية بدلا من السنة الشمسية القبطية.

18

واستمر النيل على الطغيان في العامين التاليين، ولو أن شدته فيهما لم تضارع شدته في عام 1874، ففي سنة 1875 أناف ارتفاع مياهه على أربعة وعشرين ذراعا وأربعة قراريط، وفي سنة 1876 على أربعة وعشرين ذراعا وخمسة عشر قيراطا، فزاد الطين بلة، وحلقات البؤس تعقدا. أضف إلى ذلك تعسف وزير المالية في تحصيل الأموال مقدما، بدون مبالاة بالمضار المهلكة، اللاحقة بالفلاحين من وراء إتلاف تلك الفيضانات الثلاثة الطاغية المتوالية جانبا عظيما من مزروعاتهم ومحصولاتهم.

وبينما النفوس المبتهجة بنكبة إسماعيل صديق، والمترقبة بعدها فرجا، تنتظر بفارغ صبر أن يعوض الله خيرا ما أصابت به تلك الفيضانات البلاد من ضر، ويمن على القطر بنيل محسن، إذا بفيضان سنة 1877 أشح ما رآه عهد (إسماعيل) قاطبة، لعدم بلوغ مياهه سوى سبعة عشر ذراعا وثلاثة قراريط، وإذا به لا يكفي لري جانب يسير من الأطيان، فضج المزارعون والأهالي، وانخلعت قلوبهم وقلب كل ذي مصلحة في القطر معها، وتوقع الجميع مجاعة لا نظير لها في العام التالي. ولم تخيب الأقدار السيئة توقعهم، فإن نتيجة شح المياه بعد طغيانها ثلاث سنوات متواليات طغيانا مدمرا، وإتلافها جانبا عظيما من المزروعات، كانت في الواقع مجاعة شديدة، انتشرت في صميم الربوع المصرية، وأكلت لحوم البؤساء من الفلاحين وأرباب الحرف، لا بل ذات عظامهم، لا سيما في الصعيد، وكأن ذلك لم يكن كافيا لإهلاك الحرث والنسل، علاوة على الزرع والضرع، فإن الذين خلفوا إسماعيل صديق على دفة المالية من الغربيين قاموا يسلكون مسالكه للأسباب التي سنبينها فيما بعد، وابتزوا من فلاحي القطر الأموال مقدما، فطارت صرخة التألم في البلاد قاطبة، ودوت في مسامع الغربيين أنفسهم، وهم في عقر دورهم ببلادهم.

فتقرر إرسال مفتشين من الإنجليز لاستطلاع حقيقة الحال، فوجدا أن نيفا وعشرة آلاف شخص هلكوا من الجوع في مديريات جرجا وقنا وإسنا، وأن الباقين على قيد الحياة يتغذون بأعشاب برية ، وحثالة قصب السكر، وما ماثلها من التافه، وأخبرا أن أكبر أسباب البلية إنما هو ابتزاز الأموال من الفلاحين مقدما، وفي أوقات غير ملائمة ولا مناسبة، واستعمال القسوة في جبايتها إلى حد تجريدهم من مخزوناتهم الطعامية، وحبوبهم ونقودهم، وكل وسيلة تعيش أخرى، ناهيك بفتك طاعون الحمير بمواشيهم وجمالهم.

19

فهبت حكومة (إسماعيل) وأرسلت إلى أولئك البؤساء كمية من الخبز يقتاتون بها، ولكن الفناء ما انفك يعمل عمله، لا سيما في الأطفال والشيوخ، حتى لم يعد يبقى منهم في القرى والنواحي إلا القليلون.

صفحه نامشخص