333

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

ژانرها

وكان دخوله عليهم ليلا، فطرق الباب، فقيل: «من أنت؟» فقال: «ابنكم علي مبارك!» وكانت مدة مفارقته لأمه 14 سنة، لم تره فيها، ولا سمعت صوته، فقامت مدهوشة إلى ما وراء الباب، وجعلت تنظر وتحد النظر - وكان ابنها بقيافة العسكرية الفرنساوية لابسا سيفا وكسوة تشريف - وكررت السؤال حتى علمت صدقه، ففتحت الباب وعانقته، ووقعت مغشيا عليها، ثم أفاقت، وجعلت تبكي وتضحك وتزغرد، وجاء أهل البيت والأقارب والجيران، وامتلأ المنزل ناسا، وبقوا كذلك إلى الصباح، فأقام عندهم يومين، ثم عاد إلى دمياط، وأورد نتيجة استكشافه على سليمان باشا، فوقعت عنده موقع الاستحسان، وأخبره أنه استحصل على أمر من (عباس) بإلحاقه بمعية جاليس بك.

فقبل علي يده، وسافر إلى الإسكندرية من مصر بعياله وأخ وأخت له صغيرين أخذهما معه ليربيهما، فلما وصل تركهم في المركب، وذهب إلى جاليس بك، وبينما فنجان القهوة بيده إذا بمكتوب وارد بالإشارة من (عباس) يطلبه حالا في وابور متهيئ للقيام، فداخله ما لا مزيد عليه من الخوف، لما كان يعلم مما كان يقع لمن يلوذ بالعائلة الخديوية من الإيذاء، وكان له اجتماعات بالأمير (إسماعيل) وغيره منهم، فهون عليه سليمان باشا - وكان قد سبقه إلى الإسكندرية - وسكن قلبه على عياله بأن وعده بإرسالهم إلى مصر، فسافر بدون أن يراهم، وهو بين راغب وراهب.

ولما مثل بين يدي (عباس) قال له: «إن أحمد رأفت باشا - أخا (إسماعيل)، ورفيق صاحب الترجمة في التلمذة - قد أثنى عليك، فقد جعلتك في معيتي، وقد أمرت بامتحان مهندسي الأرياف ومعلمي المدارس، لأن الكثير منهم ليسوا على شيء، وجعلتك من أرباب الامتحان، فلا تتكلم إلا بالصدق، ولو على نفسك، فلئن كذبت في شيء سلبت نعمتك، وأعدتك فلاحا!»

ثم حلفه هو وغيره على ذلك، فحلف، فأنعم عليه برتبة صاغقولاغاسي، وأعطاه نيشان الرتبة، وكان عبارة عن نصف هلال من الفضة، ونجمة من الذهب فيها ثلاثة أحجار من الماس، فاشتغل بما نيط به على وجه أتم، ثم عهدت إليه أعمال أخرى، أهمها هندسية مائية، فقام بها خير قيام، فألحق بموچيل بك - وكان مشتغلا في تتميم القناطر الخيرية - فساعده خير مساعدة.

ثم أحال (عباس) عليه النظر في ترتيب للمدارس الملكية، والرصدخانة، وضعه لمبير بك، ولم يستحسنه هو، فعمل صاحب الترجمة لجميع المدارس ترتيبا جعل أساسه احتياجات القطر لا غير، فأعجب (عباس) به، وبعد أن أقره مجلس معقود من جميع رؤساء الدواوين، أحال نظارة المدارس على بطلنا، وأعطاه رتبة أميرالاي ونيشانها مكافأة له، وصارت له عنده منزلة رفيعة.

وكان في مدة نظارته يباشر تأليف كتب المدارس بنفسه مع بعض المعلمين، وجعل بها مطبعة حروف ومطبعة حجر، مع التفاته إلى مأكل التلامذة ومشربهم وملبسهم وتعليمهم وغير ذلك بنفسه، فامتنعت عن التلامذة مضار عمومية ومفاسد كثيرة، وانقطع الشتم والسفه، وكاد يمتنع الضرب والسجن، ولم يكتف بذلك، بل رتب على نفسه دروسا كان يلقيها على التلامذة، كالطبيعة والعمارة، وألف في العمارة كتابا بقي متبعا في التعليم مدة.

ولما تولى (سعيد) تعين صاحب الترجمة للسفر مع العساكر لمحاربة الروس في سنة 1270، فخرج جميع التلامذة، كبيرهم وصغيرهم، ووقفوا بساحل النيل أمام السفينة التي نزل فيها للسفر إلى الإسكندرية، وجعلوا يبكون وينتحبون حتى أبكوه.

ثم سافر بمعية أحمد المناكلي باشا، ولبث غائبا سنتين ونصفا، قاسى فيهما مشاق الأسفار، وما يلحق المجاهدين من الإرجاف والاضطرابات، والحرمان من المألوفات، ورأى بلادا وعوائد كان يجهلها، واكتسب فيهما معرفة اللغة التركية - لأنه أقام بالأستانة العلية أربعة أشهر اشتغل فيها بتعلم تلك اللغة - وأقام عشرة شهور في بلاد القريم، وثمانية أشهر في مدينة كموشخانة ببلاد الأناضول - وهي مدينة عامرة على رأس جبل، مشهورة بمعدن الفضة الذي فيها - وكان منوطا به تسهيل سوق العساكر في مدينة ترابزون إلى مدينة أرضروم، فقاسى شدائد مهمة، وأهوالا مدلهمة، بسبب البرد والثلج الكثير ووعورة المسالك، ولكنه قام بمهمته خير قيام، وشهد له بذلك قاضي البلد وأمراؤها وأعيانها.

وكان قد تزوج قبل سفره هذا، وبعد موت زوجته الأولى، بقريبة لأحمد طوبسقال باشا، وكانت ذات مال وعقار، ويتيمة غرة، لا تحسن التصرف، ولا تميز الدرهم من الدينار، وكانت أمها تزوجت برجل يعرف براغب أفندي، وماتت عنده، فتزوج بامرأة أخرى تسيطرت على البنت كل التسيطر.

فلما دخل بها علي مبارك بك، خافت المرأة أن يطمع في أموالها، فأساءت معاملته، وتوسطت بچلبي الجلشني أفندي إلى والدة (عباس)، فرمى فيه عند حسن المناسترلي باشا، وأغرى به أغوات السراي، وأتعبه تعبا عائليا وماليا لا مزيد عليه، لم يفرغ منه إلا بتركه تلك الزوجة، والجواري التابعات لها، مع أنه إنما اشتراهن بماله.

صفحه نامشخص