تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
ژانرها
فصل فذ1
دعاني أخي والخيل بيني وبينه
فلما دعاني لم يجدني بقعدد
وزراء إسماعيل
على أن (إسماعيل) مهما كان متفوقا على الوسط المحيط به، ومهما كانت رغبته في الإصلاح قوية وثابتة، بين قوم لا رغبة لهم مطلقا في الإصلاح، فإنه ما كان ليقوم بكل الأعمال التي عملها في بلد كان يجب أن ينشأ كل شيء فيه، لولا أن الأقدار وضعت بجانبه رجالا خصصوا جميع قوى عقولهم وأجسامهم لمساعدته على نفاذ تلك الأعمال، وما انفكوا واقفين بجانبه، عاملين على نفاذها؛ أولئك الرجال هم: نوبار باشا، وشريف باشا، وعلي مبارك باشا ، ومصطفى رياض باشا.
ومن جهة أخرى، فلولا أن (إسماعيل) بلي بصداقته لإسماعيل صديق باشا أخيه في الرضاعة، فانقاد كثيرا إلى مشورته السيئة ، وتغاضى أكثر أيضا عن تصرفاته الرديئة، لما آل أمره إلى الاضمحلال والسقوط! فيجدر بنا - والحالة هذه - أن نأتي هنا على بيان وجيز، نوضح فيه لقرائنا نبذة من حياة كل من أولئك الرجال، ليكونوا على بينة منها.
فنوبار باشا
2 - وهو الشخصية الأكبر ظهورا في تاريخ مصر في ذلك العهد، ورجل الدولة الأوحد الذي جاد به الشرق، منذ توارت الأسرة الكپرولية السنية عن عالم الوجود - أرمني مسيحي، ولد بأزمير في سنة 1824 أو سنة 1825، وما كادت ترفع عنه التمائم إلا وأرسل إلى (سوريز) ليتعلم في مدرستها، فقضى فيها عدة سنوات، ثم انتقل لتتميم دروسه في مدرسة بروتستانتية في سويسرا الفرنساوية، ولما كان ذا ذاكرة عجيبة وتصور سريع، فإنه استطاع وهو في السادسة عشرة من عمره أن يفرغ من تلقن دروسه، والتعمق في معرفة اللغة الفرنساوية وآدابها، والأدب القديم على العموم، ولكنه لم يتعلم العلوم الطبيعية والرياضيات إلا تعلما سطحيا، وما اقتبسه منها فيما بعد فإنما اقتبسه في محادثاته مع أساتذتها أكثر منه في مطالعة الكتب الموضوعة فيها، فإنه وهو في الحياة العملية كان كالبرنس (پوتمكن) وزير كاترينا الثانية الكبيرة، يوجه الأسئلة إلى زائريه في خير ما يعرفونه، ويحملهم على التوسع في الكلام والإيضاح والشرح، فتكونت لديه بذلك دائرة معارف لا بأس بها، جعلته ذا اطلاع عام لا يشعر معه أنه غريب عن المحادثة، مهما تنوعت مواضيعها.
ولما غادر المدرسة وقع في خلده التطوع في الجندية الفرنساوية بأن ينضم إلى الفرقة الأجنبية، ولكن مساعيه في ذلك قوبلت برفض، واستدعاه بوغوص بك خاله، وزير (محمد علي الأمين)، إلى مصر ليدخله في خدمة مصالحها المدنية، فقدم الشاب نوبار إلى ضفاف النيل والآمال ترقص أمام مخيلته رقصا بهيا، فأحبه بوغوص بك حالما وقعت عينه عليه، وقال له: «سأدخلك في قلم المترجمين، ولكني أنصحك أن تنتبه قبل كل شيء إلى تعلم اللغة التركية، لأن تعلمها شرط لا بد منه لنجاحك في المستقبل.» فأكب نوبار على تعلمها بكل قواه، وما مضت عليه مدة إلا وأصبح يمتلكها فهما وكتابة وينطق بها - والنطق الصحيح أصعب شيء في كل لغة - كأنه تركي صميم، وليت خاله نصحه أيضا بتعلم العربية، ولكن الأيام لم تكن لتسمح بقيام فكرة ناضجة كهذه في عقلية الشيخ بوغوص، (فمحمد علي) بالرغم من كل ما عمله لإحياء مصر والرقي بها، بقي - كما سبق لنا القول في غير هذا الموضع - تركيا بحتا، فلم يتنازل مطلقا للتكلم بالعربية، ولو أن إقامته الطويلة في البلاد علمته شيئا منها، ولا عمل على إزالة الاشمئزاز الذي كان العنصر التركي يشعر به من لغة «الفلاحين»، واحتقاره إياها، ولا اهتم البتة بتعليم أولاده العربية تعليما جديا أو غير جدي.
فلم يكن يمكن أن يقع في خلد أحد - والحالة هذه - في سنة 1841 أن سيأتي يوم ينقم فيه (سعيد باشا) ثالث خلفاء الباشا العظيم على الأتراك والتركية والشراكسة إلى حد يقول معه: «إني أود أن أعرف ما هي العروق والشرايين التركية والشركسية في لأفتحها، فأتخلص من آخر نقطة من هذا الدم الممقوت!» ويقبل - نكاية في التركية والأتراك - على عزل التركية عن العرش الذي كانت قد استولت عليه منذ زوال الدولة الأيوبية، ويجعل اللغة العربية لغة البلاد الرسمية، فيحيي مواتها، ويعيد إليها بهجتها.
صفحه نامشخص