تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
ژانرها
وفي 23 أكتوبر سنة 1874 خرج بالجيوش مقتفيا أثره حتى أدركه في اليوم التالي في بلدة منواشي الواقعة على مسيرة يومين إلى الجنوب الشرقي من الفاشر، ومعه من العساكر نحو ثلاثين ألفا وثمانية مدافع.
فرتب السلطان عساكره ميمنة وميسرة وقلبا، وكان هو ومن معه من الأبطال المعدودين من أقاربه وغيرهم مع المدافع في القلب، وما طلعت شمس الأحد 25 أكتوبر سنة 1874 حتى نشبت الحرب، فأطلق الفور على رجال الزبير أحد عشر مدفعا، فما أجابوهم، بل ساروا سيرا حربيا منظما قاصدين القلب، فهجمت عليهم عساكر ميمنة الفور وميسرتهم، واشتد القتال، ولكنه ما مضى إلا خمس دقائق حتى انجلت الحال عن تقهقرهم إلى الوراء. عند ذلك هاجم السلطان ومن معه في القلب، فهزموا مقدمة الزبير ودخلوا القلعة، واشتبك القتال بالسيوف والحراب ، وكنت ترى السلطان يجول في وسط المعمعة، ويقاتل كأنه الأسد، غير أنه لم يكن إلا القليل حتى خر قتيلا هو ومن معه من الفرسان والشجعان، وفيهم الكثير من أولاده وأكابر دولته، وانكشفت الحرب عن النصر المبين للقوة المصرية.
فأخذ الزبير جثة السلطان ، وكفنها بالأنسجة الفاخرة، ودفنها في جامع منواشي باحتفال عظيم؛ إجلالا لمقامه، وإقرارا ببسالته، ثم دفن القتلى من أولاده وأكابر دولته، وعفا عن جميع الأسرى، وسمح لهم بالذهاب إلى حيث شاءوا، وقد غنم في هذه الواقعة المدافع الثمانية، وسبعة وعشرين حمل جمل جبخانة، ما عدا الأسلحة النارية وغيرها.
وبعد أن استراح أربعة أيام في بندر منواشي، سار بالعساكر إلى الفاشر، فدخلها في 3 نوفمبر سنة 1874 قبل طلوع الشمس، فوجد عائلة السلطان وأهالي الذين تركهم بالفاشر قد فروا منها، ولم يبق فيها سوى التجار وبعض العلماء، فأمنهم على أموالهم ودمائهم، وأحسن معاملتهم، فلما بلغ الأهالي ذلك أخذوا يفدون إليه ليلا ونهارا، مقدمين الطاعة والامتثال، ولم يكن إلا أيام قليلة حتى دانت له جميع أهالي السلطنة، وطلب منه عبد الله التعايشي أرضا في قيجة، غربي الكلكة، فأعطاه إياها على أن يكف عما كان به من التدجيل، فرضي.
أما إسماعيل أيوب باشا المهاجم لدارفور من الشرق، فإنه أبطأ في سيره جدا، وعند وصوله إلى فوجة كتب إلى الزبير، وهذا إذ ذاك في داره، يقول: «إني جئتك بنجدة، فتشدد!» فبعث الزبير إليه يقول له: «إذا كنت قد جئتني بنجدة، فلماذا هذا الإبطاء في السير، والعدو محدق بنا بجيوش لا عداد لها؟» فأجاب: «ما أنا أمرتك بالتقدم إلى داره، ولا أفندينا، فإذا استطعت أن ترفع الحصار وتنجو بجيشك إلى هنا فافعل، وإلا فدبر أمرك بما تراه صوابا!» وبقي في فوجة حتى انقضت الحرب، وبعد دخول الزبير الفاشر بعث إليه بالخبر، فلقيه الرسول في طريقه إلى داره، فانثنى إذ ذاك عنها، ووجه الجيش إلى عاصمة دارفور، فدخلها في 11 نوفمبر سنة 1874، فأكرم الزبير لقياه، وأطلق له مائة مدفع ترحيبا به.
وكان المتخلفون من جيش الفور، لما تحققوا موت السلطان إبراهيم في منواشي، قد ولوا عمه حسب الله سلطانا عليهم، وذهبوا إلى جبل مرة وتحصنوا فيه، فلما حضر إسماعيل أيوب باشا إلى الفاشر سلمه الزبير إدارة البلاد، وجهز جيشا مؤلفا من 12000 مقاتل، فيهم 400 من العساكر المنظمة، و200 فارس من عساكر الحكومة، وزحف على جبل مرة، فلما رأى الأمير حسب الله قوته، سلم بلا قتال، وكان معه بعض أولاد السلطان إبراهيم وعمتهم الميرم عرفة، وغيرهم من أولاد السلاطين، ونحو ألف ومائتي رجل من كبراء البلاد وأعيانها، فجاء بهم جميعا إلى الفاشر بعد أن تغيب عنها في تلك المهمة ستة وتسعين يوما.
وكان الأمير حسب الله قد سأله بعد التسليم أن يساعده على توليه البلاد، ليحكمها تحت طاعة الحكومة الخديوية، فيدفع لها مائة ألف جنيه جزية سنوية، فأعجب الزبير هذا الرأي، واعتقده الصواب الذي فيه راحة البلاد والحكومة معا، فعرضه على الحكمدار، وأسنده بكل قوته، ولكن الحكمدار رفضه بتاتا، فوقع بين الاثنين جدال طويل أفضى إلى النزاع، وأرسل الأمير حسب الله والأمير محمد الفضل ابن السلطان إبراهيم وكثيرون غيرهما من أولاد السلاطين إلى مصر، وأمر الزبير بالذهاب إلى داره، والإقامة فيها بعساكره إلى أن يصدر إليه أمر آخر بالرجوع إلى بحر الغزال.
فذهب، وإذا بكتاب أتاه وهو فيها، من عبد الله التعايشي، يقول فيه: «رأيت في الحلم أنك المهدي المنتظر، وأني أحد أتباعك، فأخبرني إن كنت مهدي الزمان لأتبعك!» فكتب الزبير له: «استقم كما أمرتك، أنا لست بالمهدي، وإنما أنا جندي من جنود الله أحارب من طغى وتمرد!»
ولم يمض شهر حتى ورد عليه كتاب من إسماعيل أيوب باشا يقول: «إن بوشا أخا الأمير حسب الله شق عصا الطاعة، فجمع بقية أولاد السلاطين في جبل مرة، وملأ البلاد عيثا وفسادا.» وأمره بالخروج إليه، وإخماد ثورته، فصدع بالأمر وسار إلى جبل مرة في 3 أغسطس سنة 1875، وشهر على بوش حربا عوانا مدة خمسة عشر يوما، فترك بوش الجبل واعتصم بالفرار، فغادر الزبير ابنه سليمان مع 1200 جندي في الجبل، وتتبعه حتى أدركه في صرف الجدار قرب كبكبية، فأوقع به واقعة شديدة، انتهت بقتله وقتل أخيه سيف الدين وسبعة وعشرين رجلا من كبراء جيشه.
ثم توغل الزبير بجنده في بلاد المغرب، فدانت له ديار نامه، والمساليت، وقمر، وسلا، حتى أتى الترجة الفاصلة بين دارفور وودداي، فأقام فيها أياما للراحة، بعزم الدخول في دار ودداي، وإخضاعها للحكومة الخديوية، وكان عليها إذ ذاك السلطان علي ابن السلطان محمد شريف، فبعث إليه الزبير بكتاب يدعوه إلى الطاعة، ثم دخل بلاده وتوغل فيها، حتى صار على مسيرة يومين من عاصمته، فورد عليه كتاب منه يدل على قبوله الدخول في طاعة الحكومة الخديوية، وقد تعهد بدفع مبلغ معلوم جزية سنوية، على أن يبقى سلطانا على بلاده، ووجه إليه أحد وزرائه بهدايا كثيرة للمفاوضة معه في هذا الشأن.
صفحه نامشخص