تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
ژانرها
فلبث الزبير فيها بضعة أشهر ريثما باع تجارته واشترى بثمنها تجارة أخرى وأسلحة وذخائر، وفي 29 أبريل سنة 1863 برح الخرطوم إلى بلاد النمانم، فوصلها في 25 يولية سنة 1864، وقدم هدايا نفيسة للملك تكمة، فسر بها، وأولم له وليمة فاخرة، ذبح فيها عددا وافرا من الوحوش، ومائة كلب من أسمن الكلاب المعدة لأكله.
فعاد الزبير إلى دار زوجته رانبوه، وشرع في بيع بضائعه، وكانت العادة في تلك البلاد أن يبيعوا في الأسواق أصحاب الجنايات؛ كالسارق والزاني، ويذبحونهم كالغنم، ويبيعون لحومهم طعاما، فافتدى منهم من وجده أهلا لحمل السلاح، حتى اجتمع عنده نحو خمسمائة رجل، فسلحهم بالأسلحة النارية، وعلمهم حملها واستعمالها، فأوجس الملك تكمة شرا، وخاف منه على مملكته، واستشار كهانه، فأقروا على قتله، فعلمت بذلك امرأته رانبوه ابنة الملك، وأخبرته به سرا، ونصحته بالرحيل من بلاد أبيها.
فاهتم بالأمر، وتزلف إلى الملك تكمة بالهدايا، واستأذنه في السفر إلى بلاد ملك يقال له دوبه بلغه أن فيها سن فيل بكثرة، فأذن له ظاهرا، وأوعز في السر إلى جيشه أن يكمنوا له في الطريق، ويقتلوه هو ورجاله. فما ابتعد قليلا عن بلاده إلا واعترضه جنوده الذين كانوا في الكمين، فأصلاهم نارا حامية لم يطيقوها، فانهزموا ودخل الزبير بلاد الملك دوبه، وكان عدوا لملك النمانم، فلما علم بما جرى خرج لمقابلته في مسيرة أربع ساعات من عاصمته، وأنزله في جواره على الرحب والسعة، وبنى له خصا مربعا منيعا من الخشب، وأمده من الحبوب والمئونة بما يكفي رجاله مدة طويلة.
فأرسل الملك تكمة جيشا جرارا بقيادة عمه مغبوه إلى بلاد الملك دوبه، اهتزت له البلاد في أبعد أعماقها، واستولى الرعب على الملك وقومه، ففروا هاربين خلسة تحت جنح الظلام.
فلما رأى الزبير منهم ذلك، أخذ ينظر في أمر نجاته، وإذا برسل من لدن الملك تكمة وردوا عليه، وقالوا له: «إن حرمة المصاهرة، وسابق المودة تمنعان الملك من محاربتك، ولكنه يرغب إليك أن تخرج من جميع بلاد الملك دوبه التي أصبحت تحت سلطانه، وتذهب إلى حيث تشاء ولك الأمان.» فأجابهم إلى ذلك وخرج إلى بلاد قولو، وكان ملكها قد غدر بأخيه منصور وقتله، فلم يشك بأن الزبير قادم للأخذ بثأره، فلم يسمح له بالبقاء وتهدده، وكان الفصل شتاء، فطلب الزبير إليه أن يمهله إلى أن ينقطع المطر، فأبى، فناجزه الحرب، وجرت بينهما عدة وقائع دموية انتهت بقتل الملك، وأخذ ابنه أسيرا، وامتلاك الزبير بلادهما، وجميع البلاد المجاورة لها إلى بحر العرب، فاتخذ عاصمة (بابه) التي سميت بعد ذلك «بديم الزبير» مركزا له، وصار فيها ملكا، تتقاطر إليه الناس من كل الجهات للانتظام في خدمته، وكان أول ما سعى إليه فتح طريق التجارة بين بحر الغزال وكردوفان، فأوفد في مارس سنة 1866 رسلا بهدايا إلى مشايخ عربان الزريقات الواقعين في طريق التجار، فجاءه ثمانون شيخا منهم، وعاهدوه على فتح الطريق، وتأمين القوافل والتجار من مسلمين ومسيحيين، فجعل لهم مقابل ذلك جعلا معلوما يتقاضونه من التجار، فكثر زود الناس وراجت التجارة لقرب تلك الطريق وسهولتها، وفي سنة 1869 قدم من الخرطوم رجل من متخلفي حجاج العرب، يقال له الحاج محمد البلالي، يقصد احتلال بحر الغزال، ومعه سرية مؤلفة من 200 من العساكر المنظمة السودانية، عليهم صاغ اسمه محمد منيب، و400 من العساكر الباشبوزق، عليهم سنجق يدعى كوشوك علي، و600 من الخطرية، فطاف بلاد بحر الغزال، ودخل زرائبها، وقرأ لأصحابها فرمان الحكومة بتسميته مديرا على بحر الغزال، فمنهم من أطاع وسلم، ومنهم من عصى فحارب أو فر.
ثم وجه حملته على الزبير، فجمع الزبير جيوشه، ومن لجأ إليه من أصحاب الزرائب المجاورة له، وكمن للبلالي في خور على الطريق، فلما اقترب من الكمين أشعل النار في جيشه، فقتله وقتل بعض عسكره، وأسر الباقي، ولكنه أصيب في ذلك اليوم برصاصة في كراعه الأيمن، ورجع محمولا إلى مركزه، فبعث بخبر ما كان إلى جعفر مظهر باشا حاكم السودان إذ ذاك، وانتشر خبر انتصاره على البلالي في أقاصي السودان، فزادت شهرته، وازداد نفوذه.
فلم يرق انتظام ملكه للسلطان تكمة، فأرسل في أوائل سنة 1872 عمه (مغبوه) بجيش جرار لمناصبته العداء، فأغار على مملكته، وبعث يقول له إنه لا يسمح بتأسيس ملك في جواره، فإما أن يعود تاجرا كما كان، وإلا أعاده بالقوة إلى تجارته. فوقعت الحرب بينهما ودامت سنة كاملة، جرت فيها عدة وقائع شديدة، وفي آخرها قتل السلطان تكمة وعمه مغبوه، ودان للزبير ثمانية من كبار ملوك النمانم كانوا في حروب مستمرة بعضهم ضد بعض، يصيد فيها بعضهم البعض صيد الطيور، وجاءته الأقوام من مسافات بعيدة، مقدمين الطاعة، وطالبين عمالا من قبله، فأجابهم إلى ذلك.
وكانت الرزيقات، في أثناء حربه مع النمانم، قد نقضوا العهد، وقطعوا الطرق ، وقتلوا بعض التجار، فلما انقضت الحرب أنفذ إليهم رسلا يسألهم عن سبب ذلك، فأجابوا بالشتم والسباب، وأقسموا أن لا يدعوا مسافرا يمر إليه عن طريق بلادهم إلا قتلوه وسلبوه ماله.
وكان على دارفور إذ ذاك سلطان يقال له إبراهيم، فأرسل الزبير إليه كتابا في يونية سنة 1873 أخبره بما أتاه الرزيقات من نكث العهد، وقطع السابلة، والتمس مساعدته عليهم، فلم يجبه السلطان على كتابه، ولا انتهى الرزيقات عن التعدي، فساق الزبير جيشه إلى بلادهم ليحاربهم، فتجمعوا لقتاله، فجرت بينه وبينهم عدة وقائع من 10 يولية إلى 28 أغسطس سنة 1873 وكان النصر فيها كلها له، وفي الأخيرة منها انهزم الرزيقات شر انهزام، وقتل منهم خلق كثير، وأصبحت بلاد «شكا» كلها في يده.
وكان الرزيقات قد استخدموا فقيها من فقهاء التعايشة يقال له عبد الله محمد آدم تورشين، ليقرأ لهم الأسماء في خلوته، لعلها تقبض على سلاح الزبير، فلا تنطلق ناره في ساحة الحرب، وتعهدوا له ببقرة من كل مراح.
صفحه نامشخص