تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
ژانرها
فالمندوبية المشكلة في سنة 1936 رأت أن الحكومة عاجزة عن تعليم الناشئة العلوم الوضعية والفنية العليا، لسببين: (الأول) قلة الأساتذة الأكفاء، للقيام بتدريسها؛ و(الثاني) عجز اللغة العربية واللغات الشرقية على العموم، عجزا مطلقا عن التعبير عن مضموناتها، لعدم وجود الكلمات الدالة عليها فيها.
فرأت ، والحالة هذه، وجوب الاستمرار على إرسال البعثات المدرسية، لكي يستتم التلامذة العلوم، التي لم يكن في استطاعتهم تعلم بعضها، بكيفية كافية، ولا التقرب من غيرها، ما داموا بمصر، وما دام تعلمهم باللغة العربية.
وقد قال المسيو چومار - وهو أول من حبب إلى (محمد علي) البعثات المدرسية إلى الخارج، وأحد الأعاظم الذين ساعدوا على النمو العقلي والعلمي في القطر المصري - «هل يكفي إنشاء مداس فخمة عظيمة على الطراز الأوروبي، برجال يؤتى بهم من ميلانو وباريس ولندره بمصاريف جمة، ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى بلادهم حالما يبلغون الغرض الذي رضوا بالمجيء لأجله؟ كلا ثم كلا، وبما أن عدد الذين يختارون الإقامة إلى الأبد في وطن غير وطنهم قليل جدا، ولا يزيد على واحد في عشرين ألفا، فالواجب، إذا، تعليم الأهالي أنفسهم في أوروبا، بإحدى اللغات الأوروبية، علوم الأوروبيين وفنونهم، فيدخلون بذلك في صميمها، ويتمكنون من أسرارها، وتتجانس عقليتهم بعقلية متعلميها من الغربيين؛ ولو أمكن لمحمد علي أن يرسل إلى أوروبا منذ سنة 1815 مائة أو مائتين من الطلبة المصريين، لتقدم رقي البلاد وتمدنها عما هو عليه الآن».
ولكن تلك المندوبية رأت أن تعدل الطريقة المتبعة، حتى ذلك الحين، بأن تؤهل، أولا، في المدارس المصرية، الطلبة الذين تقرر إرسالهم إلى المدارس الأوروبية، كيلا يضيعوا من وقتهم هناك، في تلقن العلوم الممهدة لهم سبيل تلقي العلوم الخاصة، المقصودة بالذات من إرسالهم إلى تلك المدارس.
فلم تعد تبعث إلى أوروبا إلا المتخرجين من المدارس المصرية الخاصة، بعد تتميمهم علومهم فيها، وتمكنهم من لغة البلد الأجنبي المعدين للذهاب إليه.
ولنيل هذا الغرض، أنشئت مدرسة مصرية بباريس، جعلت إدارتها تحت رئاسة مصري، يقال له: استفان بك، وأسندت وكالتها إلى نائب، اسمه خليل أفندي تشيراكيان؛ وكلف ضباط معينون من لدن وزارة الحربية الفرنساوية بمراقبة سير الدروس فيها؛ وأرسل إليها، في بادئ الأمر، أربعون تلميذا؛ منهم حليم وحسين ولدا (محمد علي) وأحمد وإسماعيل ولدا (إبراهيم) - وقد سبق لنا ذكر هذا جميعه.
فلما زار (إبراهيم باشا) هذه المدرسة أثناء إحدى سياحاته في أوروبا استوقف انتباهه عدم الضبط المدرسي، وقلة نجاح الطلبة، وفداحة المصاريف التي تستدعيها مدرسة، أصبح كل واحد من تلامذتها (سلطانا صغيرا) حسبما قال هو نفسه.
ووجه نوبار باشا - وكان يومئذ كاتب أسراره (سكرتيره) - فكره إلى المضار وفقدان المزايا، الناجمة عن الطريقة المتبعة، سواء أكان من جهة التربية، على الأخص، أم من جهة التعليم على العموم، وقال له: «إن جمع أربعين طالبا مصريا في مدرسة واحدة ليعيشوا دائما طبقا لعاداتهم وطبائعهم وبدون اختلاط، أو باختلاط قليل، مع خلافهم، من غير جنسهم ودينهم؛ أو إبقاءهم في بلادهم وبيئاتهم الأصلية، سيان، فإما الامتناع عن إرسال طلبة بهذا الشكل؛ وإما الاقتصار على إرسال أحداث ما بين الثامنة والتاسعة من عمرهم، وتوزيعهم على المدارس والمآهل (بنسيون) الغربية، بحيث لا يكون أكثر من اثنين في مدرسة واحدة أو مأهل واحد: فيستفيدون في تعلمهم؛ ويستفيدون ، على الأخص، في تربيتهم».
فوافق (إبراهيم باشا) على رأي سريره (سكرتيره) وعزم على اتباعه، ولكن الموت حال دون تمكنه من ذلك: فاستمرت الطريقة العقيمة التي ندد بها نوبار متبعة، حتى أقفلت ثورة سنة 1848 الباريسية تلك المدرسة المصرية؛ وما فتئت، بعد ذلك، متغلبة على أفكار القائمين بشئون التعليم في هذا القطر، حتى في عهد الاحتلال الإنجليزي، بالرغم من جدب محصولها.
ولم يقطن إلى المزايا الجمة الناجمة عن العمل برأي (إبراهيم باشا) إلا حفيده الكريم عظمة السلطان فؤاد الأول
صفحه نامشخص