مرض الاجتماع المصري بما أصاب الأخلاق، فلم تعد التربية تعالجه، ولا وازع الدين يداويه، ولا يعرف الناس حكومة أهلية ترى مرض الاجتماع في وطنها فتنام عنه أو تبيحه، اللهم إلا أن تكون تلك الحكومة مكتوفة أو مسوقة إلى ما يجب ألا يكون، ولم تكن مصيبة الاجتماع المصري بهذا المرض فقط، بل كانت بما سلط على أبنا الأمة من التشريد والفراغ، والذي يدخل المدائن لا يرى خذلان الفضيلة وحدها بل يرى أيضا خذلان الإنسانية بين جيوش المتشردين العاطلين.
عاشت الأمة خلال هذا الزمن بين مشادة ومدافعة، تنادي: إن البلاء داهم والشر متفاقم. وتطلب من الحكومة أن تؤدي الواجب فلا تسمع، وكان شأن الأمة بين حالين: شكاية وتحذير، ومعرفة للواجب وشروع في أدائه. أما التحذير فلم يكن يسمع، وأما العمل فكانت الأمة تنهض به في طريق ارتفعت فيها العقبات، على أنها لم تكن ترجع عن مقصدها وإن لم تنل منه إلا قليلا.
بقيت الصحة، وما أيسر أن تمتد العين إلى مساكن هذا الوطن في قراه ومدائنه لترى كيف تتخذ منها العلل والأمراض مكان سكانها، إن القاهرة عاصمة الشرق أجمع لم تنل جديدا من الإصلاح الصحي، فشوارعها الكبيرة الواسعة هي الشوارع التي اختطها إسماعيل وأسلافه من قبله، وقد كانت الأشجار زينة على جوانبها فاجتثت أخيرا، والإسكندرية على مثالها إلا ما اقتضت الشهوات الخاصة أن يبالغ في إصلاحه من شوارعهما حيث يسكن المتصرفون في أمور البلاد، وليست المدن الأخرى بأحسن حظا من العاصمتين وهي لا تكون كذلك طبعا، وبعد أن تكون هذه حال الصحة في الحواضر تبقى حالها في بدان الريف وقراه وصمة في جبين القرن العشرين، ألصقها به من لا يعنون بأرواح العباد.
هنالك في المدائن أحياء اسمها الأحياء الوطنية، يسكنها الشعب العامل المجتهد الصبور، أزقة وحارات لا تكاد تنفذ إليها خيوط الشمس حتى تبرد حرارتها برطوبة وخمة، ولا تكاد تمر بها نسمات الهواء حتى تفسد بنتن ريحها الخانقة، في تلك الحارات والأزقة ترى الموت جاثما يتنمر، وتبصر الحياة خائفة تترقب، ومنها ترتفع أصوات النوائح كلما جاء صيف أو دخل شتاء فجال الموت وصال، وعلى أرضها تقام المآتم الدائمة لأبناء مصر الذين تتخطفهم يد الفناء. أستغفر الله ، بل يد الإهمال الذي تركهم في مساكن ألح عليها الخراب لطول العهد بها، وأنكرها العصر لأنها أولى أن تكون مساكن أثرية.
هذه صحة الشعب الذي يسكن المدن، أما شعب الريف فلولا أنه يخرج إلى فضاء الأرض فيجد الحياة في شمسه المشرقة وهوائه النقي، لما كان غير الدور قبورا له، أفلم تنظروا مساكن الريفيين في قراهم؟ الرجل والمرأة والطفل على مضجع واحد بجانب مضجع البقرة والأتان، وما كان ابن الريف ليرضى ذلك لنفسه وأهله لولا أنه مضطر، وهو ليس يجهل كيف يجب اتقاؤه للصحة، ولكنه لا يملك وسيلة الاتقاء، يعرف أن اليد المسيطر مكلفة أن تصون صحته وحياته ولكنه يقنع بالسكوت خشية التجبيه والرفض ويعلل نفسه بأن تفعل اليوم أو غدا.
لولا أن طبيعة هذا العصر أفضت إلى النفوس بالضرورات الواجبة لما أبقت الأوباء على حي في مصر من أبنائها، علمت الأمة أن كل شيء في الوجود للحياة، وأن الحياة بالصحة والعافية، فجعل الناس في الريف والحضر لا يشكون ألما إلا فزعوا إلى الأطباء، وما كانت «مصلحة الصحة» ولا ميزانية الحكومة لتنفعانهم لو أنهم قعدوا ينتظرون أن تعالج الحكومة أسقامهم!
هكذا يشهد الواقع، ويرجع الواقع في شهادته إلى أول العهد بالحياة الأخيرة، فقد شاع الوباء الأصفر «الكوليرا» في هذه البلاد سنة 1883 حتى خافت الدول أن ينتقل إلى أوربا فألفت في الإسكندرية مجلسا صحيا دوليا يتخذ الوسائل للنجاة من خطبه الداهم، وكان المستر «ميافيل» مندوب إنكلترا في هذا المجلس.
فانظر ما قال يومئذ: «إن مهمة المجلس هي المحافظة على الصحة العامة في مصر، ومع هذا يجب السهر على المصلحة التجارية فلا يجوز تغيير اللوائح المحلية إلا إذا روعيت فيها هذه المصلحة».
كلمة قالها المستر «ميافيل» منذ ست وثلاثين سنة، فكانت وحيا لم يتبدل وكانت قانونا جرى عليه العمل إلى الآن، فماذا ما تدل عليه هذه الكلمة حين تتعارض في مصر صحة الأمة ومصلحة التجارة؟ أليس ذلك عجيبا في أفعال الناس؟!
الفصل العاشر
صفحه نامشخص