بنى المصريون أبا الهول، لا ليمثل الهول والهلع، ولا الذعر أو الفزع، ولكن ليكون شاهدا لما يحدث فوق أرض مصر، ولكي يسخر من غزاتها الأجانب، ومن الغاصبين الأعزاب، ومن الناهبين الأشرار .. يراهم وهم يدخلون إلى مقبرتهم الأزلية وإلى مصيدتهم القوية .. فيقف يعاينه ويشاهد، ويبصر ويرى، ويلمح ويصور، ولكنه لا يتكلم؛ لأنه واثق من نفسه، واثق من أصحابه، واثق من شعب مصر، ومن عظمة ذلك الشعب الذي بناه .. يقف صامتا لأنه يعلم أن المصريين لا بد سيزأرون ويجأرون ويقومون قومتهم المصرية الأصيلة .. إنه لا يصمت عن ضعف، بل عن قوة وجبروت، كأي أب يرى أولاده يعملون من أجله فلا يسعه إذن إلا أن يراقبهم في صمت الشاكرين.
بنى المصريون الأهرام، وبنوا إلى جانبها أبا الهول يحرسها ويحميها من اعتداء المعتدين، ومن طغيان الطغاة الآثمين، ومن غي الغواة الظالمين، وطمع الطامعين الجشعين .. يمثل أبو الهول على مر السنين رأس المصري الأبي الكريم، والقوي الأصيل واللازب السرمدي الهادئ التقي الرزين الأمين، والشديد المكين .. ورأس أبي الهول هذا هو نفس رأس ذلك المصري الأريب الذي بنى الأهرام بفنه وبراعته ومهارته، وهندسته الراقية الرفيعة الخارقة النادرة التي وقف الإنسان أمامها حائرا مبهوتا عاجزا عن الوصول إلى سرها أو معرفة كنهها والسر الكامن وراءها. كانت هندسة رائعة عظيمة قبل أن يعرف العالم كله معنى الهندسة .. هذه يا سادة قطرة في بحر أو قطرة من بحر، تمثل لشعوب العالم بأسرها عظمة مصر .. بل هي مصر نفسها، أو بالحري مصر الهرم.
مصر العمل
لولا العمل ما بقيت مصر .. ولن تبقى مصر إلا بالعمل .. فكلما عملنا أثبتت مصر وجودها الأزلي .. مصر العمل واضحة جلية أمام الجميع؛ لأنها شامخة ناطقة صارخة قوية؛ تحظى بإعجاب العالم كله وباحترامه وتوقيره.
مصر العمل لا تنام، بل قوامها السهر والكد والعرق والسعي وراء الرزق الحلال .. كل مصري في هذا البلد العزيز يعمل بسواعده المفتولة العضلات والقوية، وبرأسه الشامخ الذكي وجسده الصامد الفتي، وكذلك بقدميه النشيطتين .. فالعمل شرف، والعمل تاج يزين هامة الشرفاء وأبدانهم وأيديهم وأقدامهم.
مصر العمل هي مصر القوة والفتوة، هي مصر الشدة والحدة، هي مصر النهضة والعزة، هي مصر الحضارة والغضارة والنضارة، هي مصر السعادة والنماء والرخاء، مصر الدوام والبقاء.
مصر لا تعمل إلا الخير لبنيها ولبني البشر من حولها .. كل أعمال مصر طيبة خيرة حسنة مباركة؛ تزكيها وترفع من شأنها وشأوها بين الأمم وتكلل هامتها بتيجان العزة والفخار.
مصر ليست جعجاعة، وإنما تعمل في صمت، فمن صفات مصر أنها لا تتكلم كثيرا؛ إذ تعلم أن خير الكلام ما قل ودل، وأنه إذا كان الكلام من فضة كان السكوت من ذهب.
وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن
ثرثارة في كل ناد تخطب
صفحه نامشخص