مصر الأمل ترى الآفاق البعيدة قريبة، وترى السموات العالية دانية، وترى الكواكب والنجوم في متناول أيديها .. مصر الأمل لا تعرف المستحيل ولا تعجز عن تحقيق المستحيل .. إنني لا أقول فندا، بل يشهد لها ما فعلته بإسرائيل في حرب أكتوبر الرمضانية العظيمة إذ قامت بالمعجزات، ولقنت العالم أجمع دروسا في كيفية البطش وتحقيق الآمال، على أيدي أبنائها البواسل الشجعان ذوي العقول الراجحة الواعية، والعيون الساهرة الدائمة اليقظة، والقلوب الخفاقة والأفئدة العاشقة الوالهة المدلهة بحب مصر ولا شيء غير مصر .. مصر أولا وآخرا، فهي الأمل المنشود والهدف الأسمى .. هي العلم الأخضر المرفوع عاليا يرفرف خفاقا فوق ربوع الأمة العربية بأسرها، بل والعالم أجمع .. يجد أبناؤها سعادة بالغة في رفع علمها عاليا دوما ودائما، يلاقون الموت بصدور رحبة في سبيل الذود عنه، وفي سبيل الاحتفاظ به منتصبا شامخا يظل هامة مصر الأمل .. مصر العمل .. مصر الحضارة.
الحب بد وحب مصر بدان
الحب بد .. هذا صحيح .. فالحب كالهواء والماء والطعام .. لا بد للنفس من أن تذوقه وأن تستمرئه .. الحب أساس البشرية والعمران .. بيد أن هناك حبا آخر لا مفر منه، ولا بد مما ليس منه بد .. هو حب له بد، بل قل له بدان .. هو حب الوطن والأوطان، وأنا لا أحب زوجتي فحسب، ولا أولادي فحسب .. فكل هؤلاء يموتون وإلى زوال وفناء، ولكن أحب مصر أيضا .. أحبها أعظم الحب وأصدق الحب .. وكما أن حبي لها لا يموت، فهي كذلك لا تموت؛ لذا لا أحبها حبا واحدا، بل أحبها حبين؛ حبا يخصها هي وحدها، وحبا آخر يتصل بأهلها وقومها وشعبها .. فإن أنا أحببت مصر، فلا يمكنني أن أكره أهلها وسكانها وشعبها .. غير أنني في حبي لمصر، ذلك الحب الصادق الأصيل المتغلغل في أعماق قلبي، أهبها هي كل الحب .. وأهب أهلها كل الحب أيضا .. فأنا معهم في السراء والضراء، أنا معهم في الحرب والسلم .. أنا معهم في كل أوان وفي كل مكان، أنا أتعاون معهم وأشاركهم وأحمل المعول معهم، وأبني وأشيد معهم وأرفع معهم الأحمال والأثقال .. أسعى سعيهم من أجل الحبيبة مصر .. هذا هو حبي لمصر .. إنه حب لا بد منه؛ لأنه حب شديد عنيف وعميق الأغوار يصل إلى باطن التربة الصالحة المنبتة، ويصل إلى أعماق قلوب بنيها الصابرين المؤمنين المنتمين إليها والمترعرعين فوق حقولها ونبتها وزروعها، والمرتوين بماء نيلها الطويل الجميل الجليل، والعذب السلسبيل .. فأنا مع هؤلاء كالعاشق الولهان، والحقيقة أنني مع طين مصر أكثر من عاشق .. أنا هيمان .. أنا سكران نشوان سهران .. عيناي لا تنامان عن حبيبتي مصر، ولا تسهوان أو تغفلان .. فإن كانت عيون العاشقين - كما قالوا - لا تنام، فإن عيني وقلبي وفؤادي، كلها لا تنام من فرط حبي العميق لأرض مصر المباركة صاحبة الأيادي البيضاء والجوادة بسنابلها الذهبية الصفراء، وثمارها اليانعة الخضراء .. حقا، إن حبي لك يا مصر ليس حبا عاديا، بل هو حب يصل إلى حد العبادة .. حبي لك يا مصر لا يمكن أن يقاس بحبي لزوجتي وابني وابنتي، ولا بحبي لأمي وأبي .. فحبك يا مصر هو مجموع حبي لكل هؤلاء مضروبا في عشرة .. فحبك لا يكال ولا يكيل، لا يعبأ ولا يصدر، كما أنه لا يباع ولا يشترى .. إنه شيء فوق كل هذا؛ لأنه حب ثمين وغال ثقيل .. قليله ثقيل، وكثيره أثقل وأثقل .. حبك يا مصر خفاق في القلوب، جوال في الصدور .. ربوعه أجسادنا وأكبادنا .. إنه في كل ذرة من ذرات دمائنا .. إنه في أنفاسنا الطاهرة، وأرواحنا الزكية السماوية .. هو بحق حب عجيب غريب، من لون جديد .. ندين به ويسري في عروقنا كما تسري الكهرباء في الأسلاك، فلا نراه .. إنه حب عات شديد عنيف، سره باتع، ومفعوله أكيد مريد .. إنه الحب الذي نكنه للعزيزة مصر، من دون كافة بلاد الدنيا .. فتحظى به مصر وحدها دون سائر أقطار العالم .. هو حب عظيم حقا .. يا بخت من يعرفه، ومن يذوقه!
مصر للمصريين وطن مكين
انتهى عصر الحصون والقلاع، والسيف والمقلاع، وما عاد الإنسان يفضل أرضا على أرض، ولا منطقة على منطقة .. فالعالم كله وطن واحد، يمكن للمرء أن يعيش في أية بقعة من بقاعه.
غير أن مصر كوطن يعتز به المصريون ولا يرضون عنه بديلا .. يجد المصريون، في مصر، معقلا فريدا في نوعه .. إنه معقل كريم، معقل للشرف والقيم والأخلاق الفاضلة والمثل العليا؛ لذا كانت مصر للمصريين وطنا حبيبا مكينا .. يعيش أهله في أمن أمين، وفي شرف عظيم ...
تجد كل شيء في مصر عزيزا .. تجد الكرامة والشهامة والرجولة .. تجد التضحية والاستشهاد والفداء، والجود والكرم والعطاء .. ما من أحد يستطيع أن يفهم مصر غير بنيها؛ ولا يمكن أن يرفع من شأنها وشأوها إلا عمالها وصناعها وعلماؤها وكبراؤها.
مصر وطن مكين؛ يعتز بمصريته وبالمصريين أجمعين .. يمثل كل مصري يمشي فوق أرض مصر سنبلة خرجت من باطن الأرض لتؤتي نفعا معينا، لا يمكن أن ينال منه أو يقلل من شأنه .. فأهل مصر سنابل تقبل الأرض وتناجي السماء وتشبع البطون الجائعة .. إنهم كل نبتة تقوم فوق كل حقل، وبجوار كل شط، سواء بيد إنسان أو بغير يده .. فأرض مصر تعطي بلا توقف، وتطعم من لا طعام له، وتروي كل ظمآن لا شراب عنده .. هي أرض عظيمة، وكل من عليها عظماء .. عظماء في مقرهم .. عظماء في غناهم وثرائهم .. عظماء بدينهم وعقيدتهم .. عظماء بتكاتفهم وتعاونهم .. وهم في هذا التكاتف يمثلون جبهة عريضة لا يمكن اختراقها أو النفاذ إليها .. وهم في تساندهم يخلقون ماردا جبارا يستحيل التغلب عليه أو المساس به .. وهم في ثباتهم ووقفتهم أسود كواسر يخشى بأسها، وترهب قوتها ويفزع العدو من زئيرها الذي يخاف من هول الإنس والجن ويفزع منه الجميع، جميع من على الأرض وما على الأرض.
إذن، فمن حق المصريين أن يتمسكوا بحب مصر، وأن يستميتوا في الذود عنها.
مصر بالنسبة للمصريين وطن مكين، وحصن حصين أمين، وطن عزيز منير، وطن جدير بأن ينتسب إليه الإنسان المصري العظيم الهمة، والكريم المحتد، والشريف النجار، الأبي النفس، والحيي الوجه.
صفحه نامشخص