والثاني:
كيف يوفر الطعام.
فأما إطالة العمر وإدامة الشباب فكان يتوسل إليهما بجلب الجواهر كالمرجان واللؤلؤ أو المعادن النفيسة كالذهب، ثم كان يعتمد على التحنيط لبقاء الجثة سليمة اعتقادا بأن سلامة الجسم تكفل سلامة النفس؛ ومن هنا كانت الهجرة لجلب هذه الجواهر والمعادن وكان التعارف وتفشي الحضارة المصرية في أنحاء العالم.
أما توفير الطعام فكان هما آخر قد لا ندرك قيمته نحن هذه الأيام لأنه لم تمر بنا سنة من السنوات حل فيها القحط وجعل الناس يموتون من الجوع، ولكن تاريخ العالم حافل بهذه المجاعات، ولا بد أنها كانت في الأزمنة القديمة أكثر مما هي الآن.
ولم يكن للإنسان هموم أخطر من هذين الهمين، إطالة العمر وتوفير الطعام، وهما الآن أخطر الهموم عند المتوحشين أو قبائل الهمج بين الزنوج؛ فإن هؤلاء الزنوج يقومون بشعائر دينية تتعلق بالشباب والزراعة، والمتأمل لهذه الشعائر لا يتمالك من أن ينسبها لمصر.
نشأت الأنظمة والأديان والشعائر في مصر لهاتين الغايتين، فكان فرعون يؤله لأن مهمته الأصلية الاستكثار من الزرع ومباركته على نحو ما يقوم به «كاهن المطر» أو «كاهن الزراعة» عند المتوحشين الآن، وكانت أديان مصر جميعها ترمي إلى الاحتفاظ بالشباب وتوقي الموت.
وقد تفشت هذه الحضارة في جميع أنحاء العالم تقريبا ثم تطورت في الأمم الحديثة حتى غابت معالمها الأولى أو كادت، فلو شئنا أن نبحث عن الحضارة المصرية القديمة في أوروبا الحديثة لوجدنا بعض المشاق لأن أوروبا في انقلاباتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية قد انسلخت من طبقات التقاليد القديمة.
ولكنا ما زلنا نجد الأثر لهذه الحضارة المصرية في إلياذة هوميروس الإغريقية وفي الآرام المبثوثة في أنحاء أوروبا وفي الأساطير الدينية الرومانية القديمة وفي الملوكية ... إلخ.
آلات موسيقية من قبر أمينمهعت.
ولكن حيث تكون الأمة راكدة أو بطيئة في تطورها نجد أن العقائد المصرية القديمة واضحة؛ فإن بناء الأهرام وتحنيط الجثث لم يختلفا بين سكان أمريكا الجنوبية والوسطى عما كانا عليه عند أسلافنا، وكذلك لا تزال ممالك الزنوج أو قبائلهم في أفريقيا تمارس من عاداتنا وشعائرنا القديمة ما نسيناه نحن أو أقلعنا عنه قبل نحو 3000 سنة.
صفحه نامشخص