درس الفراعنة وقيمته لنا
السلالات البشرية والفراعنة
مصر الأصل لحضارة العالم
حضارة مصر في العراق وآسيا
الذهب والمعادن عند الفراعنة
الشعوب البدائية
التحنيط والبناء
مصر والإغريق
حضارة مصر في أفريقيا
البقرة والقمر والعجل
زهرتا البردي واللوتس
إغريقيا المهد الثاني للحضارة
التضحية البشرية قبل عهد الفراعنة
قصة الرب أوزوريس
حكم أمينوموب
الماء أصل الحياة
قيمة الحضارة المصرية
كتاب الغصن الذهبي
درس الفراعنة وقيمته لنا
السلالات البشرية والفراعنة
مصر الأصل لحضارة العالم
حضارة مصر في العراق وآسيا
الذهب والمعادن عند الفراعنة
الشعوب البدائية
التحنيط والبناء
مصر والإغريق
حضارة مصر في أفريقيا
البقرة والقمر والعجل
زهرتا البردي واللوتس
إغريقيا المهد الثاني للحضارة
التضحية البشرية قبل عهد الفراعنة
قصة الرب أوزوريس
حكم أمينوموب
الماء أصل الحياة
قيمة الحضارة المصرية
كتاب الغصن الذهبي
مصر أصل الحضارة
مصر أصل الحضارة
تأليف
سلامة موسى
درس الفراعنة وقيمته لنا
إليوت سمث: صاحب النظرية القائلة بأن مصر أصل الحضارة.
كان درس الفراعنة مجهولا جهلا تاما إلى أن عرف شامبليون اللغة أو الخطوط المصرية القديمة، ولكن حتى بعد هذا الاكتشاف بقي تاريخهم مجهولا لأسباب كثيرة بعضها يرجع إلى العقائد الدينية، وهو أن الفراعنة كانوا كفارا، وما زلنا نسمي أطلال المدينة المصرية القديمة التي يأخذ الفلاحون ترابها لتسميد أرضهم بأنها «تل كفري» والمعنى المقصود هو أن هذه المدينة كان يسكنها الكفار قبل 3000 أو 4000 سنة.
ولكن روح التسامح الذي ساد أوروبا في القرن الماضي جعل الأوروبيين يتسامحون فيما كتب عن الفراعنة في التوراة، ويقبلون على دراسة آثارهم، ويخصون الكراسي في الجامعات لهذه الدراسة، بل يبعثون بالبعثات العلمية إلى مصر لكي تقوم بالتنقيب عن هذه الآثار وكشفها.
وبقينا نحن في مصر نجهل هذه الآثار، ولم تكن برامج التعليم تتناول التاريخ المصري إلا بصيغة موجزة كأنها خلاصة قد كتبها تلميذ للاستذكار فقط؛ ولذلك لم تبعث الدراسة المدرسية لتاريخ الفراعنة أي شوق بين الطلبة أو خريجي المدارس العليا للاستزادة، فلم يؤلف كتاب في تاريخ الفراعنة، ولم تتناول الجرائد أو المجلات هذا الموضوع.
وزاد على ذلك أنه لم يكن أحد من المصريين يتعلم اللغة المصرية القديمة، بل اقتصر تعلمها على الأجانب الذين كانوا يؤلفون بلغاتهم الأجنبية.
ولكن الحال ليست كذلك الآن؛ فإن النهضة الحديثة إلى الاستقلال والحرية بعثت كبرياء جديدة في نفوس الشبان، جعلتهم يعتزون بذكر الفراعنة ويفخرون بآثارهم، ووافق ذلك نجاح بعض المصرلوجيين مثل سليم حسن وسامي جبرة في كشف بعض الآثار، فوجدت الصحف موضوعا للكلام عن الفراعنة، كما أن «درامة» توت عنخ آمون قد بعثت الانتباه بل الدهشة والغبطة بين جميع أبناء الأمة، وبعد ذلك أو في أثناء ذلك حدثت تلك الزوبعة في الفنجان عن الفرعونية والعربية، فكانت أيضا على صغرها موضوعا للتنبيه العام عن قيمة الفراعنة في ثقافتنا أو في نهضتنا.
هذا التنبيه واضح حتى في تلك الأسر التي قد لا يفكر الآباء فيها في قيمة الحياة الفرعونية وهم مع ذلك يسمون أبناءهم بأسماء مصرية مثل رمسيس وأسيس وخوفو وأهمس، والمسلمون والمسيحيون سواء في ذلك. •••
ولكن مع كل ذلك لا يزال اهتمامنا بدرس الفراعنة ضئيلا إذا قيس بدرس الأوروبيين والأمريكيين له؛ فإن الكتب التي ألفت عن تاريخ جدودنا تعد بالمئات في اللغة الإنجليزية وحدها، وجميع الجامعات الأوروبية وبعض الأمريكية ينفق النفقات الكبيرة على إلقاء المحاضرات عن الفراعنة وبعث البعثات إلى مصر لدرس آثارهم، وقبل نحو أربع سنوات عرض علينا معهد روكفلر أن ينفق نحو مليوني جنيه للتنقيب، وعرض مع ذلك أن نضع نحن شروطنا لهذا التنقيب، ولكنا رفضنا، ولم يقل لنا أحد للآن لماذا رفضنا؟
واهتمام الغربيين بالآثار المصرية هو الذي يجعل مصرلوجيا عظيما مثل الأستاذ سليم حسن يؤلف كتبه عن مكتشفاته باللغة الإنجليزية دون العربية؛ لأنه يثق من وجود جمهور من القراء حين يؤلف باللغة الإنجليزية، وهو لا يثق من وجود هذا الجمهور بين أبناء بلاده.
والنتيجة لهذه الحال التي يؤسف عليها أن جمهور القراء في لندن أو برلين أو نيويورك يدرون عن مكتشفات سليم حسن أكثر مما ندري نحن، مع أننا أبناء هؤلاء الفراعنة الذين هم موضوع الدرس، وهذه الحال لا تشرفنا.
إن لنا هيئات حكومية تقوم بطبع الكتب العربية القديمة، وهذه خدمة لا تنكر للأدب أو لتاريخ الأدب، فلماذا لا تقوم هذه الهيئات نفسها بترجمة الكتب التي يؤلفها المصرلوجيون عن الآثار الفرعونية وطبعها؟ •••
وفينا من يعتقد أن درس الفراعنة لا يفيدنا كثيرا؛ لأن الصلة قد انقطعت بيننا وبينهم في اللغة والدين والسياسة والاجتماع والثقافة والفنون.
ولكن هذا الاعتقاد خطأ؛ فإننا أولا لا نزال من حيث السلالة مصريون، يجري في عروقنا الدم الذي كان يجري في جدودنا قبل خمسة آلاف سنة، واللغة لم تنقطع بيننا وبين عصور الفراعنة لأنها لا تزال حية في الكنائس المصرية، وكل ما طرأ عليها أنها تكتب بحروف إغريقية على نحو ما كانت تكتب التركية بحروف عربية قبل بضع سنوات، ولو أتاح الحظ للكنيسة القبطية قسيسا وطنيا - وهو مع وطنيته عالم - لرد اللغة القبطية إلى الخط المصري.
أما السياسة والاجتماع والفنون فإنها جميعا تعود في الأصول والأسس إلى مصر القديمة؛ لأن الحضارة اختراع مصري قديم. •••
وهنا نقطة تستحق الإبراز لأهميتها؛ فإن الشائع أن الأقباط هم السلالة الخالصة للمصريين القدماء، وأن المسلمين قد اختلطت دماؤهم بالدم العربي، وأن درس الفراعنة يجب ألا يكون له عند المسلمين القيمة التي له عند الأقباط.
وقد كنت أظن أن هذا الفرض معقول من الناحية التاريخية، ولكن كان يعترضه ما نراه في اختباراتنا الريفية من عظم المشابهة بل المطابقة بين السحنة الغالبة بين الفلاحين وبين السحنة الغالبة على المصريين القدماء، وهذه الحقيقة يعترف بها إليوت سمث نفسه، وإن كان هناك بين الأقباط أفراد كأنهم التماثيل المنحوتة قد أخرجت ليومها من قبور الفراعنة.
وكنت أحار في تعليل هذه الحقيقة حتى أتاح لي ظرف حسن أن أناقش الأستاذ سعيد لطفي في هذا الموضوع، وهو رجل يمتاز فوق وطنيته المصرية بسحنة فرعونية.
ويرى الأستاذ سعيد لطفي أن المسلمين أخلص في العنصرية المصرية من الأقباط؛ لأن العرب حينما غزوا مصر كانت الطبقة الحاكمة خلاسية يجري في عروق أفرادها مزيج من الدم المصري والدم الروماني، وكان الرومان الشرقيون (أي اليونان) قد قضوا في مصر ألف سنة قبل دخول العرب فكان اختلاطهم كبيرا بالمصريين، ولكن هذا الاختلاط كان مقصورا على الطبقة الحاكمة فقط، على نحو ما كان قائما في بلادنا قبل نحو خمسين سنة؛ إذ كانت الطبقة الحاكمة من المصريين وذات السلطان الاقتصادي في البلاد خليطا من الأتراك والمصريين والشراكسة، أما الفلاحون والعمال وسائر أفراد الأمة فكانوا عند دخول العرب مصريين أقحاحا لا تشوبهم شائبة من الدم الروماني، كما كانوا عند احتلال الإنجليز على هذه الحال أيضا لا يشوبهم شيء من الدم التركي أو الشركسي.
وهؤلاء الفلاحون والعمال وسائر أفراد الأمة دخلوا في الإسلام، أما الطبقة الحاكمة أو ذات السلطان الاقتصادي فقد اعتزت بمركزها وامتنعت بمقامها وأملت الآمال بخروج العرب، وهذه الطبقة هي التي ينتسب إليها الأقباط الآن وهي كما قلنا لم تكن خالصة الدم.
وعندي أن هذا المنطق معقول، وهو يثبت أن المسلمين المصريين أخلص دما وأوثق رابطة بالفراعنة من الأقباط الذين كثيرا ما نجد بينهم السحنة الرومانية. •••
وقد كان قاسم أمين فرعوني النزعة قبل أن نغرم نحن بهذا الهوى الجديد، وكان يرى أن دعوى الاختلاط بالعرب لا تنهض على أساس صحيح، وكان يقول إنه يكفي أن نضع عربيا قحا إلى جنب مصري لكي نرى الفرق العظيم بين السحنتين.
وكل من قرأ تاريخ مصر العربي يعرف كيف كان الملوك يتخلصون من العرب ويرشونهم لكي يرحلوا عن البلاد، وهم بالطبع لم يكن في ميسورهم أن يرحلوا لو كانوا قد اختلطوا بالسكان، وكل هذا يدلنا على أن المصريين - إلا الطبقات العالية - احتفظوا بدمهم الفرعوني. وفي بلادنا الآن عرب لا يختلطون بالفلاحين، وكلنا يعرفهم في الصعيد والفيوم والبحيرة والشرقية، حيث يمارسون من تجارة الإبل والغنم ورعايتها ما يخالف مألوف الفلاحين مخالفة الرحلة والانتجاع للإقامة والفلاحة. •••
وكما لكل فرد شخصيته التي تتألف من تراثه البيولوجي والاجتماعي،، كذلك لكل أمة شخصيتها التي تتألف من تاريخها وتراثها الثقافي والاجتماعي؛ ولذلك لا يمكننا أن ننظر للأمة إلا باعتبار ما لها من وحدة التاريخ. فدرسنا للتاريخ المصري هو درس للشخصية المصرية وللأخلاق المصرية، وللأثر الذي تخلفه البيئة الطبيعية لوادي النيل في سياسة الدولة ونزوات الحاكمين.
وهنا تحضرني ملاحظة أدلى بها المصرلوجي ويجال الذي مات في العام الماضي، فقد نظر إلى التاريخ المصري في مدى ستة آلاف سنة ماضية فقال - على ما أذكر - إن مصر بموقعها الجغرافي يجب أن تكون إمبراطورية إذا أرادت الاستقلال؛ فإن حدودها مفتحة الأبواب للعدو الذي يبغي غزوها سواء من الغرب أم من الجنوب أم من الشرق، وإن تاريخها أيام الفراعنة أو أيام الحكم العربي يدل على أنها كانت كذلك أو كانت العكس، فإما أن نملك السودان أو يملكنا، وإما أن نملك طرابلس أو تغزونا قبائلها، وإما أن نملك فلسطين وما والاها من الأقطار أو تملكنا هذه الأقطار، وهذا هو الذي حدث أيام الفراعنة في الدول القوية، وهذا هو الذي حدث أيام الإمبراطورية الفاطمية، أما حين لم نكن أقوياء فإن هذه الأمم المحيطة بنا غزتنا وحكمتنا. والمغزى أن مصر لا يمكنها أن تقف موقف الحياد والسلام للأمم المجاورة لها لأن حدودها لا تحميها، فهي إما أن تغزو هذه الأمم وإما أن تغزوها هذه الأمم، أو هذا على الأقل هو ما ينطق به تاريخها وموقعها الجغرافي.
والمستر ويجال يريد بالطبع مغزى آخر يتفق ونزعاته الإمبراطورية، ولكن هذا لا ينقص من قيمة هذا المنطق التاريخي الذي اعتمد عليه، وهو أننا لكي نفهم العوامل السياسية التي تتحكم في شئوننا يجب أن ندرس تاريخنا كله، ولا نقتصر منه على الحديث بل نرجع إلى أربعة الآلاف من السنين التي سبقت الميلاد المسيحي. •••
ولكن إذا كان واجبا على كل إنسان أن يدرس تاريخ بلاده فإنه يجب على المصري أن يدرس تاريخ مصر لا لأنه تاريخ مصر فقط بل لأنه تاريخ الدنيا، تاريخ الحضارة القديمة التي أخرجت الإنسان من العصر الحجري وجمع الطعام والرحلة في الغابات والبراري إلى عصر الزراعة واستنتاج الطعام والإقامة في المنازل وإنشاء الحكومة والأسرة.
فإن مصر هي - باعتراف طائفة كبيرة من المؤرخين - التي اخترعت الحضارة الأولى ، ونحن حين ندرس تاريخها القديم ندرس علما آخر هو الأنثروبولوجية ونعرف كيف نشأ الطب وما العلاقة بين تحنيط الجثة وبين توبلة الطعام، ولماذا أجمعت الأمم على الإكبار من شأن الذهب، وما علاقة هذا المعدن المشئوم بالأزمة الحاضرة، وكيف نشأت الملوكية وطبقات الأشراف، وكيف عرفت الراية للحرب والرنك للأسرة الشريفة، وما الذي بعث على التجارة بين الأمم، ولماذا تسمى الكيمياء الآن باسم مصر القديم، ولماذا أخذ الأوروبيون التقويم المصري، بل لماذا تقدس البقرة في الهند الآن.
كل هذا نستطيع أن ندرسه عندما ندرس تاريخ مصر؛ لأن الحضارة الأولى التي اخترعها جدودنا نقشت في العالم ولها آثار ليست في بلادنا فقط بل في جميع الأقطار في الصين وإنجلترا وأمريكا وأفريقيا الوسطى وإيطاليا وجزيرة العرب.
ونحن حين ندرس تاريخنا نقف منه على الأساليب التي يتخذها الذهن البشري في الابتكار والاختراع، كما نقف على السيكلوجية التي تتفشى بها العقيدة، فدراستنا لتاريخ جدودنا هي دراسة أيضا للتاريخ العالمي والفلسفة والأنثربولوجية والسيكلوجية.
لدرس الفراعنة يجب أن تؤلف اللجان في كل مدينة كبيرة أو صغيرة لكي تشترى الكتب التي كثيرا ما تتجاوز أثمانها طاقة الأفراد، وهذه اللجان تشتريها بالتعاون ثم يتوزعها أفرادها فيما بينهم لدرسها كما يجتمعون للمناقشة فيها، وهذه الكتب - كما قلت - تعد الآن بالمئات في اللغات الأوروبية وخاصة اللغة الإنجليزية.
كما يجب أن تصنع الأفلام التاريخية عن الفراعنة بإشراف أحد المصرلوجيين لعرض الحياة المصرية القديمة، فقد رأينا فلما يؤلف عن كليوبطرة فيجب أن نرى أفلاما أخرى تؤلف عن أخناتون وتحتمس ورمسيس، وهذه الأسماء ليست مألوفة في العالم الغربي الذي ألف اسم كليوبطرة؛ ولذلك قد لا ينشط مؤلفوهم إلى التأليف عنها، وإذن يجب علينا نحن أن نقوم بهذا العمل لتنوير الأذهان وإيناس القلوب بذكري الجدود.
كما يجب أن تؤلف الكتب باللغة العربية في تراجم هؤلاء الفراعنة؛ فقد استطاع ويجال أن يضع كتابا عن أخناتون لا يقل عن 300 صفحة كبيرة، وكان يجب أن يكون لهذا الملك الصالح كتاب بل كتب في العربية توضح لنا جهاده الروحاني، كما كان يجب أن نجد كتابا آخر في الجهاد الحربي الذي قام به رمسيس وعشرات أخرى من الكتب في الحضارة المصرية القديمة.
كما يجب على المدارس أن تتوسع في تدريس التاريخ الفرعوني. •••
ومدينة كبيرة مثل القاهرة هي عاصمة القطر ومحج السائحين، يجب أن تأخذ بنصيب من الفن الفرعوني، هذا الفن الذي يبعث الهيبة والوقار والفخامة كما نراه في ضريح سعد الذي نرجو أن يعود جثمانه الشريف إليه قريبا.
وفي كل من باريس ولندن وواشنطون وإستانبول مسلات مصرية، ولست أقترح أن تنقل إلى أحد الميادين في القاهرة مسلة مصرية، ولكني أظن أنه يمكن إقامة بعض التماثيل الفرعونية في مياديننا في القاهرة، وقد كان اللورد كتشنر يبغي نقل تمثال رمسيس إلى ميدان باب الحديد، ولكن قيل في ذلك الوقت إن جسر قصر النيل لا يتحمل نقله، وقد هدم هذا الجسر وأقيم مكانه آخر يمتاز بمتانته وسعته، فلم لا نعود فنفكر في نقل هذا التمثال العظيم إلى هذا الميدان؛ لكي يستقبل كل قادم إلى العاصمة ويذكره بالفراعنة؟
وليس تمثال رمسيس هو الوحيد الذي يمكن نقله، ولا ميدان باب الحديد هو الوحيد بين الميادين الذي يمكن إقامة التماثيل فيه؛ فإن تماثيل الفراعنة كثيرة ويمكن أن يقام منها عدد كبير في العاصمة لكي تكتسب المدينة منها مسحة فرعونية تنبه الذهن وتحيي القلب. •••
إن درس الفراعنة هو في النهاية الدعاية للفراعنة، ونحن نريد هذه الدعاية لأنها تتمم شخصيتنا التاريخية وتزيد كرامتنا القومية، وتنير أذهاننا عن الأصول والأسس التي قامت عليها حضارتنا أي حضارة العالم.
السلالات البشرية والفراعنة
مما يذكره إليوت سمث أنه كان ذات مرة يفحص عن القحوف البشرية في إنجلترا، وكان أمامه قحف لرأس مصري من عهد الفراعنة فوضعه مصادفة إلى جنب قحف لرأس إنجليزي حديث الوفاة، فما راعه إلا المشابهة بل المطابقة بين الاثنين.
قبطي حديث من الصعيد رسم مدام بهمان.
والواقع أننا عندما نجرد الرءوس من اللون لا نكاد نجد فرقا بين المصري القديم «أو الحديث» وبين بعض السكان في إنجلترا؛ فإن الشعب المصري ينتمي إلى السلالة الميديترانية، هذه السلالة التي تعزى إلى اسم البحر المتوسط «ميديتران» والتي تنتشر الشعوب المنتمية إليها في إيطاليا وإسبانيا وأفريقيا الشمالية ومصر والحبشة وجزيرة العرب والعراق القديم وفرنسا الجنوبية وبعض أنحاء إنجلترا. وخاصة ويلس، وتمتاز الرءوس في جميع هذه الشعوب بالاستطالة مع بروز القمحدوة من الخلف وبالشعر المتموج والوجه الطويل وقلة الشعر سواء في الجسم أو الوجه ونحافة الجسم وتوسط القامة، وهذه السلالة هي التي سكنت مصر وشرعت في اختراع الحضارة بعد أن علمها النيل مبادئ الزراعة، ومن مصر تفشت إلى الأمم الأخرى حول البحر المتوسط.
الوجه المصري في تمثال لإخناتون.
ويرى إليوت سمث أن السلالات البشرية هي الآن ست فقط، وأنها ترجع إلى أصل واحد أو أصلين أو ثلاثة يمكن أن يجد الإنسان فيها ما يذكر بالقردة العليا؛ فإن الشبه مثلا كبير جدا بين المغول وبين القرد أورانج أوتان، وكذلك هناك سمات تربطنا نحن أبناء السلالة الميديترانية بالشمبنزي، كما أن القرابة بين الزنجي والغوريلا واضحة في ملامح وتقاسيم عديدة، ولكن إذا صح هذا الفرض وهو أن للسلالات البشرية عدة أصول؛ فإن هذه الأصول كانت شديدة القرابة بدليل أنه ليس بين البشر الآن «بغال» لأن التلاقح ينجح بين جميع أفراد السلالات الحاضرة.
الوجه المصري في تمثال أمينمهعت الثالث.
ولنذكر هذه السلالات الست كما يراها إليوت سمث، وهو هنا يخالف بعض الآراء التي كانت شائعة في القرن الماضي، فهو لا يري معنى للقول بأن هناك سلالة آرية لأنه يرى أن وصف الآرية ينطبق على اللغة دون السلالة، وكذلك لا يرى معنى للكلمة القديمة «السلالة القوقازية». (1)
وأحط السلالات هي السلالة الأسترالية التي لا يزال عدد قليل من أفرادها باقيا يعيش في وادي أستراليا، وكان عددهم كبيرا ولكن البيض المهاجرين ألحوا في قتلهم، وهم شعرانيون لا يعرفون الزراعة أو بناء المنزل أو نسج القماش، ولكنهم يعرفون تحنيط الموتى ولهم عقائد تذكر بالمصريين القدماء مما يدل على أن الثقافة القليلة التي يعرفونها قد وصلت إليهم على أيدي أناس أشربوا الثقافة المصرية القديمة ثم انبتت هذه الثقافة فلم ترتق بل تقهقرت.
الوجه المصري في تمثال آخر لأخناتون
زخرف مصري فرعوني. (2)
أما السلالة الثانية فهي الزنوج الذين ينتشرون في أفريقيا الوسطى والجنوبية وآسيا الجنوبية، وهم يمتازون بالشعر المفلفل والجسم الذي يكاد يكون أملط وانفطاس الأنف وغلظ الشفة، وبين الزنوج أطول الناس قامة مثل الشيلوك، وأقصرهم قامة مثل الأقزام في الأقاليم الشرقية من الكونجو، وقد اختلط الزنوج بالسلالة الميديترانية كما ترى في النوبيين وعرب السودان، ولكن الملامح عند هؤلاء لا تزال ميديترانية وليست زنجية.
الوجه المصري في تمثال من الأسرة الرابعة
وفي زنوج البوشمان خاصة لا تعرف في السلالات البشرية الأخرى هي وفرة الشحم في الأليتين بحيث تبرزان بروزا كبيرا عن استواء القامة، وأقزام الزنوج لا يزالون بدائيين لا يعرفون شيئا من الحضارة، ولكن معظم الزنوج متوحشون، وتوحشهم قد اكتسبوه بالثقافة القليلة التي تسربت إليهم من مصر ثم لم تطرد في التقدم بل وقفت وأحيانا تقهقرت. (3)
السلالة الثالثة هي الميديترانية التي يعزى إليها الشعب المصري. (4)
السلالة الرابعة هي ما يسميه الإتنولوجيون الآن بالسلالة الألبية نسبة إلى جبال الألب حيث يكثر أفرادها، وهم يمتازون باستدارة الرءوس وانتفاء القمحدوة، وشعوب هذه السلالة يملأون أوروبا الوسطى وينتشرون إلى حدود الصين الغربية تقريبا، ومنهم الأرمن والأتراك والسوريون، وجميع هؤلاء يتشابهون من الخلف إذ ليس لواحد منهم قمحدوة بازرة، وهم كثيرو الشعر، كما هو واضح من السوريين المقيمين بيننا حيث نجد شعرا غزيرا على أجسامهم ووجوههم، ومعظم الفرنسيين ألبيون، وكذلك الحال في سويسرا وإيطاليا الشمالية وهنغاريا ومقدونيا.
وهناك وهم ساد مدة طويلة هو القول بأن الأتراك مغول، والذي بعث هذا الوهم هو أن لغتهم مغولية، ولكن اللغة لا تدل على السلالة؛ فإن وجوههم ألبية مثل السوريين أو الفرنسيين أو الحيثيين القدماء، ومن ميزات هذه السلالة عظم الأنف، فإن المصريين القدماء رسموا أنوف الحيثين كأنوف الأرمن أو الأتراك الآن بارزة قنياء. (5)
أما السلالة الخامسة فهي النوردية التي تنتشر في أوروبا الشمالية أي ألمانيا وإنجلترا ودنمركا وأسوج ونروج، وهي تمتاز بطول القامة وخفة اللون مع بروز خفيف في عظم الوجنتين، وهذه السلالة هي التي أغارت على الهند وإيران حوالي سنة 1300 أو 1200 قبل الميلاد، وفي هذا الوقت نفسه يذكر المصريون غارة الإفريقيين من الغرب أي اللوبيين ويرسمونهم بما يتفق وصفات النورديين. (6)
أما السلالة السادسة فهي المغولية التي ينتمي إليها الصينيون والتتار، وهم مستديرو الرءوس ولكنهم يختلفون من الألبيين من حيث إن لهم قماحد أي بروز في خلف الرأس، وشعرهم مستقيم لا يتموج أبدا، وهم قليلو الشعر جدا بخلاف الألبيين غزار الشعر.
والأنف مفرطح عند المغولي بارز عند الألبي، وشعوب الأمرنديين أي سكان أمريكا القدماء مغول أيضا، وكذلك الإسكيماويون الذين يقطنون أمريكا الشمالية.
هذه هي سلالات النوع البشري، ولكن يجب ألا يبرح من أذهاننا أن التقاليد اللغوية والدينية والاجتماعية التي تتوارثها إحدى الأمم تنتهي بعد مرور ألف أو ألفين من السنين إلى إيجاد ميزات خاصة للأمة، تجعلها كأنها سلالة قائمة برأسها حتى لنستطيع أن نتبين اليمني من المصري مع أن كليهما ميديتراني الأصل في السلالة، ونميز السوري من السويسري مع أنهما ينتميان إلى السلالة الألبية.
مصر الأصل لحضارة العالم
قبل 35 سنة كان في «مدرسة» الطب بقصر العيني معلم إنجليزي يدعى الدكتور إليوت سمث، وكانت حرفته التي يعيش منها ويؤديها على الوجه الكامل هي تعليم الطلبة مبادئ الطب، ولكن يحدث أحيانا كثيرة أنه يكون إلى جانب عملنا الرسمي شيء نهواه ونمارسه للذة، فلا تكون له علاقة بالحرفة أو الكسب، وكان هذا الهوى عند إليوت سمث درس الفراعنة.
وكما هو الشأن في الهوى، كان درس الفراعنة يستغرق فراغه بل يستهلك كسبه، فكان كلما سنحت له الفرصة يرحل إلى الصعيد لدرس الآثار وجمع الجماجم والمومياءات، وكان إذا خلا إلى نفسه في قصر العيني أو في بيته يقعد إلى هذه الجماجم يقيسها أو يحلل قسما من جسم المومياء أو يقرأ واحدا من مئات الكتب التي جمعها عن ثقافة الفراعنة، وكان يقرأ ويقابل وينتقد.
عالم في الطب والأنثربولوجية يبحث في التاريخ، قد ملئت نفسي بروح النزاهة العلمية، وقد نضج ذهنه بدرس الأساطير وعادات المتوحشين وأصول المدنية الحديثة في القارات الخمس، فكانت دهشته عظيمة كلما وجد عادة من العادات التي تخالف المنطق، بل التي قد تكون مضرة بمن يمارسونها في الصين أو أمريكا الجنوبية أو عند سكان أوغندا، إذا هو حاول تفسيرها بظروف البيئة التي نبتت فيها لم يستطع، ولكن هذا التفسير ممكن إذا هو ردها إلى مصر أيام الفراعنة.
وعندئذ انبسط أمامه العالم القديم، فرأي أن هذا العالم إنما كان أمة واحدة هي مصر اخترعت المدنية الأولى ثم تفشت هذه المدنية في أنحاء العالم، وإنه إلى الآن نستطيع أن نرجع بعادات العالم في نظام الحكومة والقضاء والزواج والنقد وتقاليد الموت والدفن بل في قصص الأطفال إلى الفراعنة. •••
ولو أن عالما مصريا هو الذي ارتأى هذا الرأي لاتهم فيه لوطنيته، ولكن إليوت سمث إنجليزي، وهو ليس أديبا افتتن بجمال الأدب الإغريقي مثلا فدافع عنه وقال بسموه على سائر الآداب، وإنما هو عالم قد اعتاد التمحيص والشك؛ ولذلك لا نجد في كتبه لفظة حماسية أو عبارة إعجاب، وإنما نجد أسلوب العالم النزيه الذي يقرر الحقائق ويخشى من التورط في الاستنتاج فيتراجع عن كل ما يوهم المبالغة أو الإسراف.
وقد أقيمت المقارنة بين تشارلس داروين وإليوت سمث؛ فإن الأول عزا نشوء الأحياء إلى أصل أو أصول قليلة، والثاني يعزو نشوء المدنية إلى أصل واحد هو مصر.
والمقارنة صحيحة والشبه واضح، فقد كان الاعتقاد السائد قبل داروين أن كل نوع من الحيوان قد نشأ على حدة لا يضم الأنواع أصل مشترك، وكان الاعتقاد قبل إليوت سمث أن المدنيات القديمة نشأت مستقلة في أنحاء مختلفة في العالم، وقد جعلت الشواهد التي حشدها إليوت سمث المؤرخين يؤمنون بنظريته. •••
والآن ما هي هذه النظرية؟
هي أن الإنسان كان يعيش قبل نحو عشرة آلاف سنة وهو لا يعرف الزراعة، فلم يكن يستنتج الطعام بالزراعة وإنما كان يجمعه بالصيد واقتلاع الجذور وجني الأثمار البرية.
وفرق عظيم بين جمع الطعام وبين استنتاجه.
ففي الحال الأولى يبقى الإنسان بدويا راحلا ينتقل كل يوم، لا يعرف نظام الحكومة أو بناء المسكن، وفي الحال الثانية يعرف الزراعة، ومتى عرفها استقر في مكان وبنى المسكن ورضي بالخضوع للحكومة، ثم يدرك من الزراعة أشياء عديدة كاستئناس الحيوان والهندسة والفلك وعندئذ تنشأ المدنية.
ولكن لماذا اختص المصريون باستنباط المدنية الأولى حين جهلها سائر الناس؟
الجواب على ذلك أن المصريين لم يكونوا عبقريين، فقد كانوا مثل سائر الشعوب التي تحيط بالبحر المتوسط على ذكاء عظيم حقا، ولكن استنباطهم للمدنية لم يكن ثمرة العبقرية بمقدار ما كان ثمرة للوسط المصري؛ وذلك أن النيل بفيضانه السنوي الذي كان ينساح كل عام في الوادي كان يعلمهم على الرغم منهم أصول الزراعة، وفي العالم أنهار كثيرة ولكنها لا تنتظم في فيضاناتها لا من حيث المقدار ولا من حيث الميعاد، فهي تسيء إلى تعليم الإنساني البدائي الذي يعيش في واديها، وتربك ذهنه باختلاف مواعيدها ومقاديرها، أما النيل فكان ولا يزال منتظما؛ ولذلك كان جدودنا قبل 10000 سنة يلقون الصعاب في جمع الطعام من الصيد واقتلاع الجذور، بل كانوا يجوعون وأحيانا يموتون، وهم في ذلك وإذا بماء الفيضان ينساح ثم ينحسر فتكتسي الأرض خضرة زاهية وتنبت الجذور المختفية فيعم الفرح، ثم تكرر هذا الفيضان سنة بعد أخرى، فتعلم منه جدودنا أن الماء ضروري للنبات وأنه يمكن الاستكثار من الزراعة بالجذور أو البذور، وأنه خير لهم أن يزرعوا ويستنتجوا الطعام بالزراعة من أن يجمعوه من الغابات والنباتات البرية.
ونشأت الزراعة فسكن كل منهم في مكان لا يبرحه، وأصبحوا فلاحين لهم بيوت بعد أن كانوا بدوا يرحلون، وعندئذ ظهرت الحكومة في صورة «شيخ» يرجع إليه في المنازعات، ثم بتوالي الزمن وتوافر التجارب ظهر المهندسون الذين أدركوا كيف يمكن تدبير الماء بالحياض، وكيف ينظم التقويم على نظام فلكي يتفق ومواعيد الزراعة، ولعل هذا المهندس الأول أو الفلكي الأول هو أول الفراعنة.
ولكن هذا الفرعون الأول الذي هدى البلاد إلى خيرات الزراعة وأنشأ لهم الحياض ونظم التقويم، قضي عليه كما يقضى على كل حي بالموت، فاحتفظ جدودنا بجسمه وهم في سذاجتهم يحسبون أن الاحتفاظ بالجسم يؤدي إلى الاحتفاظ بالحياة، فعرفوا الدفن والتحنيط، ثم كانوا يستشيرونه بعد موته كما كانوا يفعلون في حياته، فنشأت الأديان الأولى وعرف المعبد.
زراعة وديانة وملك وعبادة وهندسة وتقويم وبناء للمنزل واستئناس للماشية، فماذا يبقى بعد ذلك لتكوين المدنية الأولى؟
لم يبق شيء سوى التدرج؛ فإن جميع المبادئ قد وضعت، والزيادة بعد ذلك هي توافر التجارب وتنوع الفنون التي تنشأ من هذه المبادئ أي مبادئ الزراعة؛ لأن الزراعة هي الأصل لفكرة المدنية، وقد نرى في أيامنا مدنية صناعية ولكن المدنية الأولى كانت بالطبع مدنية زراعية.
هذه المدنية الأولى هي التي اخترعت القيمة الاجتماعية للذهب وعرفت التحنيط وجمعت المعارف الأولى للكيمياء، وإلى الآن يعرف العالم المتمدن هذه اللفظة «كيمياء» ولكن قل من يدري أصلها.
إن أصلها خيما بمعنى مصر؛ لأن الإغريق سموا هذا «العلم المصري» لاختصاص جدودنا به. •••
والآن كيف نحقق هذه النظرية؟
عندنا طرق كثيرة للتحقيق:
فأولا:
نحن نعرف أن الأساطير الحديثة ترجع إلى قصص قديمة، وكذلك الأساطير القديمة ترجع إلى قصص أقدم منها، وهذا مثلا هو حال الإلياذة، فقد كتب الأستاذ عبد القادر حمزة بضع مقالات أثبت فيها أن جميع الأساطير التي ذكرها هوميروس في ملحمته ترجع إلى قصص مصرية قديمة نقلها الإغريق عن مصر، وواضح أن الإغريق لم يختصوا بنقل هذه القصص إذ إن أمما أخرى نقلتها بنصها أو حرفتها لكي تلائم البيئة الجديدة، فإذا قلنا إن الإلياذة أساس الأدب الإغريقي جاز لنا أن نقول إن هذا الأدب يقوم على أصل مصري.
وثانيا:
أثبت الأستاذ برستد الذي لا يمكن أن يطعن في نزاهته أو علمه أن الفن الإغريقي القديم إنما نهض على الأسس التي وضعها المصريون القدماء، وحسب الإنسان أن ينظر إلى الصور التي وضعها للمقابلة بين العمود المصري والعمود الإغريقي، وبين التمثال الإغريقي الأول وتماثيل المصريين القدماء لكي يعترف بأن الفن الإغريقي القديم مقترض من مصر.
وبدهي أن الإغريق الذين نقلوا قصص مصر وفنونها قد نقلوا أيضا أشياء أخرى في الدين والأسرة والزواج والزراعة والحكومة.
وثالثا:
في العادات الحديثة بين الأمم الشرقية المتمدنة والمتوحشة ما يدل على أن الثقافة الفاشية ترجع إلى أصل مصري، مثل عبادة البقرة عند الهنود، فإن هذه البقرة هي معبودتنا القديمة «هاتور» التي يعرف اسمها كل فلاح مصري، وكذلك في حفلة التتويج لإمبراطور اليابان وفي وصفه بأن سليل الآلهة ما يشبه بل يكاد يطابق حفلة التتويج عند الفراعنة، بل راية الحرب هي التي اخترعها المصريون لأغراض سحرية لأنه كان يرسم عليها الصقر الذي يحمي حامله من الموت ويهيئ له الغلبة على العدو، أو كان يرسم عليها التمساح لهذا الغرض عينه، بل الذهب الذي تختزنه بعض الأمم وتخرج عن قاعدته بعض الدول إنما منح هذه القيمة الاجتماعية من المصريين القدماء، وتقويمنا الإفرنجي الآن هو تقويمنا الفرعوني القديم أخذه يوليوس قيصر من الإسكندرية، والتحنيط الذي اخترعه جدودنا لتخليد الجثة لا يزال يمارس بين المتوحشين على الطريقة المصرية القديمة، بل تتويج الملك في بعض أنحاء أفريقيا الوسطى يومئ أكثر من إيماءة إلى تتويج الفراعنة، وبناء السفن هو صناعة مصرية قديمة قد نقحت ولكن أصولها المصرية لا تزال واضحة، والعالم كله أو معظمه يدفن موتاه ويكفنهم ويبني لهم القبور على العقائد المصرية، حتى الروح يجب أن تطرد من البيت على الطريقة المصرية القديمة، وجدودنا هم الذين زرعوا القمح حتى شاع في العصور القديمة باسمه المصري.
ويمكننا أن نزيد في تعديد الأشياء التي استنبطها جدودنا ثم عمت العالم، وكان الأصل فيها اهتداؤهم إلى الزراعة عن طريق النيل. •••
الآن عرفنا أن مصر هي التي اخترعت المدنية الأولى فكيف تفشت هذه المدنية وما هي العوامل التي جعلتها تخرج من مصر حتى نرى أثرها في أمريكا الجنوبية مثلا كما تدل على ذلك عادة التحنيط؟
العامل الوحيد في تفشي هذه المدنية المصرية القديمة هو العقيدة السحرية أو الدينية التي جعلت جدودنا يبحثون عن الذهب والجواهر، ثم جعلتهم أيضا يطوفون الأقطار النائية لكي يحصلوا على الطيوب التي يحتاج إليها التحنيط والأخشاب المقدسة، وليس عجيبا أن يكون الذهب رائد الاكتشاف فقد كان كذلك عندما قصد الأوروبيون إلى القارة الجديدة في القرن الخامس عشرة، وهو السبب لاستثمار أفريقيا الجنوبية في العصر الحديث.
إن الذهب يبهر العين بجماله فكيف به إذا أضيف إلى هذا الجمال خاصة أخرى هي أنه يطيل العمر ويمنع الموت؟
هذه هي العقيدة الأولى التي آمن بها المصريون القدماء عن الذهب، وهذا هو السبب في وضعه في توابيت الملوك؛ لأنه يجب علينا ألا ننسى أن الملك في تابوته ليس ميتا وإنما هو في حال أخرى من الحياة يحتاج فيها إلى الذهب لكي تطول، وكان الذهب يجمع من الأقطار البعيدة ويحمل إلى خزانة فرعون، وهي في ذلك الوقت خزانة الدولة؛ ومن هنا صار الذهب نقدا للتعامل.
ولم يكن الذهب وحيدا في هذه الخاصة أي إطالة العمر؛ فإن الجواهر الأخرى كالمرجان واللؤلؤ كانت كذلك، وإلى وقت قريب كان بعض العامة يأكلون الذهب والجواهر باعتقاد إنهما يطيلان العمر.
ولفظة «النوبة» تعني بلاد الذهب، وفي هذا المعنى ما يدل على الباعث الأصلي الذي جعل المصريين القدماء يستعمرونها. •••
وفي هجرة المصريين للبحث عن الذهب والجواهر يجب أن نلاحظ شيئين: الأول أنهم كانوا حين يهتدون إلى منجم يقيمون حوله، ولم تكن المواصلات سهلة إذ لم يكونوا قد عرفوا بعد الجمل أو الفرس، فكان المنجم نواة للاستعمار ينتقل إليه المصريون فيزرعون ما حوله ويبنون قريتهم ويقيمون حكومتهم على النحو الذي ألفوه في مصر قبل أن يغادروها، وكانوا ينظرون إلى من حولهم من البشر كأنهم متوحشون، وكان هؤلاء ينجذبون إليهم إما طوعا لأن خيرات الزراعة تغريهم وإما كرها بالقتال والأسر، وكان بعض المصريين بالطبع يعود إلى مصر محملا بالذهب والجواهر والأسرى، ولكن كثيرين منهم كانوا يلبثون حيث هم يتناسلون ويتزوجون مع القبائل المتوحشة التي حولهم.
والشيء الثاني الذي يجب أن نلاحظه أن انتقال الثقافة المصرية من النوبة إلى الحبشة مثلا لا يشترط له هجرة المصريين الأقحاح، بل يكفي أن ينتقل النوبيون الذين امتزجوا بالدم المصري أو تثقفوا بالثقافة المصرية إلى الحبشة، ثم تستقر هذه الثقافة في الحبشة أو تتفشى الأنظمة المصرية ومعها العقائد التي تتعلق بالذهب والجواهر فتنتقل من الحبشة إلى الصومال وهلم جرا.
فإذا قيل إن ثقافة مصر انتقلت إلى أمريكا، فليس المعني المقصود أن المصريين نقلوها إذ قد تكون هذه الثقافة قد مرت على أيدي شعوب مختلفة تأثرت بها وسلمتها كما تسلمتها أو بعد تنقيحات اقتضتها البيئة. •••
إننا نجد في أمريكا أهراما كالأهرام التي في مصر، ونجد فيها طريقة التحنيط وعبادة الشمس والثعبان، ونجد في طريقة التحنيط تفاصيل غير لازمة ولكنها تؤدي لأنها حفظت بالتقاليد، فهي تجري في أمريكا كما كانت تجري في مصر لأنها تلتصق بشعائر دينية في مصر.
زخارف فرعونية.
ثم نجد عبادة الشمس مقرونة إلى عبادة الثعبان في أمريكا، فلا نفهم لهذا الاشتراك مغزى إلا إذا رجعنا به وعرفنا الظروف التي جمعتهما في مدينتي إدفو وعين شمس.
وقد نتساءل هنا: لماذا نجد أهراما وتحنيطا في أمريكا النائية ولا نجدهما في الهند أو إيران القريبتين؟
فالجواب على ذلك أنه حين تجد الأمة عوامل التقدم قوية فإنها تنقح تقاليدها أو تلغيها، أما إذا ركدت وجمدت فإنها تستبقي تقاليدها، وقد طرأ على الهند وفارس ما جعلهما يكونان لأنفسهما مدنية هندسية خاصة أو فارسية خاصة فذهبت معالم الثقافة المصرية القديمة، ولكن حيث يسود الجمود في الأقاليم الجنوبية من الهند أو سيلان ما زلنا نجد التحنيط، وكذلك الحال في بعض الأقاليم النائية في إندونسيا. •••
إن أساطير الإغريق تثبت الأصل المصري الذي نشأت منه، وكذلك فنونهم وعلومهم، بل كذلك آثار المتوحشين في أفريقيا وآسيا وأمريكا، ودرسنا للحضارة المصرية الأولى هو في حقيقته درس سام للفلسفة التاريخية كما هو غذاء لوطنيتنا الفرعونية.
إن الفراعنة ليسوا آباءنا فقط بل هم آباء العالم الذي تعلم منهم كيف يترك حياة البداوة إلى حياة الزراعة والحضارة، وهم لذلك جديرون بدرسنا وفخارنا.
حضارة مصر في العراق وآسيا
من المسائل التي كثر فيها الجدال مسألة الحضارة الأولى هي نشأت في العراق أم في مصر؟
والأغلبية الساحقة من الآثاريين هي الآن في صف مصر، تقول إنها هي الأصل والمنبت الذي نبتت فيه الحضارة الأولى ولكن هناك أقلية يتزعمها ليوناردو ولي تقول بأن العراق هو الأصل، وليوناردو ولي هذا هو صاحب المكتشفات العظيمة في أور.
وهم عندما يقولون إن الحضارة نشأت في العراق يعنون أن سومر تلك المملكة القديمة البائدة هي التي اخترعت الحضارة الأولى، والسومريون شعب ينتهي إلى سلالة غير معروفة، وهم يبدون من نفوسهم أنهم كانوا يحلقون رءوسهم ويرسلون لحاهم، وهم أصحاب الخط الأسفيني أو المسماري الذي كانوا يكتبونه على الطين بالحفر فيجف ويقرأ، وهؤلاء السومريون هم الذين جعلوا وحدة العد 60، وهذه الوحدة هي التي ما زلنا نعمل بها في قياس الساعة، وهم أصحاب برج بابل.
وهؤلاء السومريون لم يكنوا ساميين، وما يعرف عنهم قليل، ولكن من الحقائق الفاشية أنهم تعلموا الزراعة من مصر، فإن برستد يقول هنا: «وكان قد جاءهم من مصر الشعير ونوع من الحنطة الذي تنشق حبوبه؛ ولذلك دعوه باسمه المصري».
والزراعة حوالي سنة 4000 قبل الميلاد لم تكن شيئا آخر غير القمح والشعير؛ لأنها كانت زراعة يد الحبة قامت على اكتشاف هذين النباتين، فإذا قلنا إن مصر علمت السومريين زراعة القمح والشعير ومنحتهما الاسم المصري، فإن هذا يعني أن مصر علمت السومريين الزراعة، والزراعة هي أول مراحل الحضارة.
وعند السومريين تقاليد قديمة تقول إن الذي علمهم رجل هبط عليهم من خليج فارس، ونحن لا نعرف شيئا عنهم قبل سنة 3000 قبل الميلاد مع أننا نعرف أن مصر كانت متحضرة تعرف الزراعة وملاحة النهر والبحر حوالي سنة 4000 قبل عهد الفراعنة، فإذا صدقنا هذه التقاليد السومرية لم نجد مفرا من اعتقاد أن هذا الرجل الذي علم السومريين الزراعة وأعطاهم الاسم المصري للقمح هو رجل مصري خرج للبحث عن الذهب والعقاقير والجواهر التي تطيل الحياة، ونقل إلى العراق مبادئ الزراعة. •••
وأور التي يعمل ليونارد ولي في التنقيب عن آثارها ليست لها المكانة التاريخية التي يمكن أن يقارنها الإنسان بمكانة مصر من حيث اختراع الحضارة، ولكن هناك مدينة أثرية أخرى هي سوسة مدينة العيلاميين التي تبعث الدهشة بآثارها القديمة؛ وذلك لأن هذه الآثار تشبه كل الشبه الآثار المصرية القديمة قبل عهد الأسر الفرعونية، فقد وجد فيها منجل حجري لا يشابه بل يطابق المنجل الذي استعمل في مصر قبل الأسر، ووجدت بها آثار منازل مستطيلة وطوب أخضر وفئوس من الحجر ورءوس للسهام وأشياء أخرى تطابق ما كان يصنع في مصر قبل عهد الأسر الفرعونية. وقد قال المسيو إدمون بوتييه سنة 1912 «عندما نفحص عن الآثار المصرية قبل عهد التاريخ وفي العصور الأولى للأسر الفرعونية، ندهش لمواضع الشبه العديدة بينها وبين آثار العلاميين، وفي مصر نجد في الأشكال والأشياء والتفاصيل وصنعة ما يذكرنا بآثار سوسة». في أور وفي سوسة آثار قديمة تدل أيضا على حضارة بدائية.
والشبه كبير بين حضارة أوروبا وحضارة مصر، وهو أكبر بين حضارة سوسة وبين حضارة مصر، فإذا لم نغتصب الاستنتاج المنطقي وإذا لم نتبع هذا الزعم القائل بأن الطبيعة البشرية تتشابه في كل مكان، وهي لذلك قادرة على الاختراع في كل مكان، إذا لم نقل ذلك فلا مفر من أن نقول إن أور وسوسة قد علما مصر أو أن مصر هي التي علمتهما مبادئ الحضارة.
ولكن مصر كتاب كامل الصفحات يبدأ بالعصر الحجري ثم يتدرج إلى عصر الزراعة الأولى، وقد أثبت الدكتور ريزنر أن هذا الاستمرار لا ينقطع في تاريخنا القديم فإن أطوار العصر الحجري تتدرج وتندغم في أطوار الحضارة الزراعية الأولى، وعندنا في مصر ما يسمى الآن «عصر البداري» وهو يقع حوالي سنة 12000 قبل الميلاد، وليس له شبه في سوسة أو أور أو أي بقعة أخرى في العالم، وهو عصر بدأت فيه مصر بشيء من الحضارة البدائية. وأساس الحضارة في مصر هو الزراعة، وأساس الزراعة في مصر هو النيل الذي علم المصريين مبادئها بانتظامه ومواظبة فيضانه عاما بعد آخر حتى أدرك الإنسان القديم أن الماء أصل كل شيء حي، وهذا الأساس لم يعرف في العراق لأن الفرات ودجلة نهران لا ينتظم فيضانهما الانتظام الذي نراه في النيل، وهما لذلك لا يفتقان الذهن أو يبعثان على التفكير كما حدث في مصر، ثم نحن لا نجد في أور أو سوسة هذا التدرج الذي لا ينقطع بين العصر الحجري وبين الحضارة الأولى كما نراه في مصر، ثم حضارة أور أو سوسة لا ترجع إلى أبعد من سنة 3100 قبل الميلاد في تقدير المستر ولي في حين هي تمتد في مصر إلى أبعد من ذلك بكثير قبل عهد الأسر. •••
وفي ضوء التاريخ المصري القديم وبالمقابلة بينه وبين تاريخ العراق نستطيع أن نقول إنه في عصر قديم سبق الدولة الأولى في مصر خرجت السفن المصرية من النيل تقصد إلى الشرق وتنشد هذه المواد التي تطيل الحياة كالجواهر والمعادن والعقاقير، فقطعت البحر الأحمر ثم جازت السواحل العربية إلى أن دخلت فارس والعراق، وهناك كانت النواة للحضارة المصرية الأولى، فحضارة سوسة هي حضارة مصرية أجنبية ولذلك سرعان ما انحطت لأن الذين أقاموها انقرضوا أو اندغموا فيمن حولهم من الشعوب فتنوسيت الثقافة التي جلبوها من مصر، ولو كانت حضارة سوسة أصلية فيها لوجدناها ترتقي بدلا من أن تنحط.
ثم انتقلت حضارة السومريين «أور» والعيلاميين «سوسة» إلى الشرق لنفس البواعث التي بعثت المصريين على الهجرة، فإن العقائد التي تتصل بإطالة الحياة بعثت هؤلاء على الهجرة في طلب الذهب والجواهر إلى السند؛ ولذلك نجد السر مارشال يتحدث عن «حضارة سومرية هندية» في موهنجو دارو.
ثم تنتقل هذه الحضارة إلى الهند والصين وتتبع في طريقها مناجم الذهب وتحمل معها الثقافة الزراعية الأولى من القمح والشعير، وهذه الثقافة الأولى هي التي جلبت مع الآلهة المصرية القديمة التي تختص بالزراعة حتى يقول الرب: «أنا أوزوريس وأنا أعيش كالآلهة وأنا أعيش كالحب وأنمو كالحب، وأنا الشعير».
وكما انتقلت حضارة سومر إلى السند، وانتقلت حضارة السند إلى الهند، كذلك انتقلت حضارة الهند إلى سيام والجزر الملاوية، ثم انتقلت بعد ذلك حضارة الجزر الملاوية إلى القارة الأمريكية، وقد رأينا أن الاسم المصري للقمح قد استعمل في العراق، والآن نجد اسم بعض الآلات الزراعية في الجزر الملاوية قد انتقل إلى أمريكا الجنوبية، ويرى هذا قبل أن يعرف كولمبس هذه القارة بآلاف السنين. •••
وربما يكون من المفيد أن ننقل هذه الكلمة التالية للأستاذ إليوت سمث عن حضارة السومريين. «من المألوف أن يقال إن حضارة السومريين قد أثرت في مصر في بداية عصر الأسر الفرعونية، ولكن النظر في التاريخ يوضح لنا استحالة ذلك، وذلك أن الفحص عن عادات الدفن في المدافن الأولى في أور قد ألقى ضوءا على هذا الموضوع؛ فإن المستر ولي وجد عادات مختلفة كانت تتبع في القبور الأولى، فقد كانت الجثة تلفف في حصير وتوضع في نعش بيضوي من الطين أو في نعش مستطيل من الخشب، وكانت القبور تبنى لها سقوف مقنطرة أو مرفوعة من الحجر، وهذه العادات تظهر في سومر مرة واحدة مفاجئة بلا تدرج، ولسنا نجد في عيلام «سوسة» أو في سومر «أور» أي أثر يدل على التدرج لهذه السلسلة من العادات المعقدة في الدفن، ووجود هذه الأشكال العديدة لمعالجة الدفن يدل على تاريخ معقد وراء هذه الثقافة لسكان أور الأولين، فإذا وجدنا في قطر آخر ما يكشف لنا عن التطور في هذه العادات كان لنا الحق في أن نزعم أن هذا القطر هو الأصل لهذه العادات، وقد شرح لنا المستر بري التاريخ الكامل في مصر لهذا التطور في عادات الدفن، وأنها كلها عرفت ومورست عند نهاية الأسرة الثانية في حكم بيرابسن وخاسنحموتي.
وقد سبق أن رأينا كيف أن المصريين قبل عهد الأسر كانوا يلفون موتاهم في الجلد أو الحصير لكي يحموهم من التراب، وكيف أن هذه العادة أرشدتهم إلى صنع النعوش المختلفة، وكان الفقراء لا يزالون في عهد الدولة القديمة يلفون موتاهم في الحصير مدة طويلة بعد الأسرة الثانية، وكانت القبور تصفح جدرانها بالخشب قبل عهد الأسر، ثم صنع بعد ذلك صندوق من الخشب يمكن حمله هو أول نعش في العالم، ولا شك في أنه صنع أولا للأغنياء، ثم صار الفقراء يقلدون هذا النعش ويصنعونه من الطين أو الفخار، وكانوا يصنعونه بيضويا في نهاية الأسرة الثانية أو بداية الأسرة الثالثة. وهذا الشكل البيضوي أسهل صنعا في الطين والفخار من الشكل المستطيل.
ومن المهم أن نلاحظ أن المستر ولي دهش حين وجد في أور أن النعوش المصنوعة من الطين هي للفقراء، أما المصنوعة من الخشب فكانت كما هي في مصر للأغنياء، وفي كل من مصر وأور وجدت النعوش الخشبية ولها طاقات مصفحة بالخشب.
وعند بداية الأسرة الأولى تجد عادات الدفن في مصر بلغت الطور الذي بلغته في أور، ولكن البناء بالحجر والسقف القبوي لم يكن قد ظهر بعد في مصر إذ هو اخترع بعد ذلك وقد بدئ في مصر في البناء بالحجر للقبور في الأسرة الأولى، ولكن أول قبر كبير من الحجر هو قبر خاسخموي في الأسرة الثانية، وفي أواخر هذه الأسرة عرف السقف القبوي المرفرف لقبور النبلاء.
وعلى هذا نقول إن المجموعة المختلفة التي نجدها في أور عند السومريين إنما نمت في مصر بتراكم المخترعات التي بدأت قبل عصر الأسرة إلى أن تمت في نهاية الأسرة الثانية، وكذلك يمكن أن نقول بملء الثقة إن الحضارة الأولى في سومر كانت تعاصر الجزء الأخير من عصر الأسرة الثانية في مصر «حوالي 3000 ق.م.».
إن الحضارة كانت اختراعا مصريا، ولم تكن عيلام وسومر سوى مستعمرات مصرية نقل إليها المصريون خميرة الثقافة، ولكن ما نقل لم يكن كل الحضارة لأن قسما فقط من هذه الثقافة تأصل ونبت ونما وثمت لذلك عناصر مميزة أخرى».
الذهب والمعادن عند الفراعنة
كلنا يعرف أن هجرة الأوروبيين إلى القارة الأمريكية تعود إلى رغبتهم في الذهب، وأن استعمار الأمريكيين للولايات المتحدة نفسها كان يسير على الدوام في أثر الذهب، فحيثما يكون المنجم يهرع إليه السكان، وأفريقيا الجنوبية لم تستعمر إلا من أجل الذهب.
وكذلك الحال عندما القدماء؛ فإن الكتب السنسكريتية تذكر أن هجرة الهنود إلى الهند كانت تتخذ على الدوام تلك الطرق التي تؤدي إلى مناجم الذهب، ولكن الهنود القدماء مثل المصريين القدماء لم يكونوا يطلبون الذهب من أجل الزينة والنقد كما يطلب الآن، بل كانوا يعزون إليه صفات قيمة أكبر عندهم وألصق بحياتهم من قيمته عندنا.
كان القدماء من الهنود يصفون الذهب في كتبهم التي لا تزال تقرأ في اللغة السنسكريتية المنقرضة بأنه خالد وأنه متولد من النار وأنه يعيد الشباب ويطيل الحياة ويكثر النسل، وهو النار والنور والخلود معا.
وهذه والصفات لم يخترعها الآريون المهاجرون إلى الهند، وإنما هم أخذوها عن الفراعنة؛ فإن تقديس الذهب عقيدة فرعونية، فهم كانوا أبناء الشمس أي أبناء رع، وكان يجري في عروقهم سائل الذهب الذي ورثوه عن رع.
وقد دهشنا قبل سنوات عندما اكتشف قبر توتنخ آمون، ورأينا مقدارا عظيما من الذهب، ولكن هذا الفرعون لم يكن شاذا في وفرة الذهب فإن جميع الفراعنة منذ الأسرة الأولى بل جميع النبلاء كانوا يضعون الذهب في القبور لأنه الوسيلة إلى الخلود.
وهذه القداسة التي نسبت إلى الذهب أيام الفراعنة قد انحدرت إلى الأمم القديمة، بل بقيت منها أثارة حتى في القرون الوسطى حين اختلط البحث عن إكسير الحياة بالبحث عن إحالة المعادن الخسيسة إلى معادن شريفة والذهب بالطبع في رأسها، وهذا الاختلاط يؤيد قدم العقيدة في قداسة الذهب وأنه معدن الآلهة والسبيل إلى الخلود. •••
وكيف وصل الذهب إلى هذه المنزلة؟
للجواب على هذا السؤال نقول إننا نجد في المتحف المصري ودعا مصنوعا من الذهب، وهو يعزى إلى الأسرة الأولى، وليس في العالم الآن صائغ يصوغ الذهب في هيئة الودع، ونعنى هذا الودع الذي ما زلنا نجده عند العرافين الذين يخبروننا عن طالعنا بضربه فوق الرمل.
هذا الودع كان له أثر كبير جدا في عقائد الإنسان البدائي في العصر الحجري، حتى لقد كان سببا في انتقال الثقافة الأولى بين البشر كما أوضح ذلك المستر ولفرد جاكسون في كتابه «الأصداف ودلالتها على الهجرة الثقافية».
فإن الإنسان في العصر الحجري كان من السذاجة بحيث كان يعتقد أن الأم هي العامل الوحيد للولادة، وكان يجهل الأبوة بمعناها البيولوجي؛ ولذلك نظر إلى الودعة نظرة خاصة لما بينها وبين عضو التناسل في المرأة من مشابهة ، فقدسها لهذا السبب وصار يتجشم المشاق لجلبها من البقاع النائية لكي يحملها وهو يتوهم أنها ما دامت هي الأصل في الحياة فإنها قادرة على أن تحفظه في صحة دائمة وتقيه من الأمراض وتطيل عمره حتى بعد الموت؛ وذلك لأن الموت عنده كان حياة أخرى تحتاج أيضا إلى ما يحفظها ويطيلها.
ولكن الودعة بطبيعتها صدفة هشة تنكسر لأقل مصادمة، وهي مع ذلك كانت تجلب من البقاع النائية؛ ولذلك فكر الإنسان البدائي في أن يصنع ودعا من الحجر، وظل الإيمان بالودعة مدة طويلة حتى بعد أن اهتدى المصريون إلى الزراعة وأسسوا الحضارة، وكانوا يصنعونها من الحجر والذهب.
ويرى إليوت سمث أن اكتشفاهم للذهب كان مصادفة حين كانوا يبعثون بعثاتهم إلى سواحل البحر الأحمر لجمع الودع، فإن هذا الودع لا يوجد في سواحلنا الشمالية وإنما يوجد كثيرا في البحر الأحمر، وهناك عثروا على مناجم الذهب فاستحسنوا لونه وخفته ومرونته ونصاعته، فصاروا يصنعون منه تماثيل صغيرة للودع بدلا من أن يصنعوها من الحجر، وشاع بعد ذلك استعمال الذهب لهذه الغاية، ثم بتوالي السنين أو القرون انتقلت ميزات الودعة إلى الذهب حتى أصبح المعدن نفسه يضفي على من يحمله أو يتحلى به صفات الصحة والخلود أو طول البقاء. •••
الودعة والبقرة والذهب: هذه الأشياء الثلاثة كانت تمثل في أذهان جدودنا الفراعنة معاني الصحة وطول العمر والخلود، ولا بد أن الودعة فقدت قيمتها عندما عمت الحضارة البدائية الأولى وشرع الناس يفكرون في وظيفة الرجل البيولوجية في التناسل، ولكن الذهب كان قد احتل من نفوسهم مكانا كبيرا يلابس عواطفهم فبقيت مكانته، أما البقرة فكانت حاضرة على الدوام في أذهانهم وهي أعم من الذهب؛ لأن هذه المعادن كانت حيازته تقتصر على الأغنياء وأما البقرة فكانت عامة في الريف يملكها الزارعون، وكانت رمزا للأمومة ترضع الناس لبنها فيقوم عند الطفل مقام اللبن الذي يرضعه من أمه؛ ومن هنا أصبحت البقرة - التي لا تزال تقدس في الهند - الربة هاتور.
ولكن الودعة والبقرة والذهب اختلطت لأنها جميعها تؤدي مهمة واحدة، وهذا القول هو الذي تثبته الشواهد التاريخية؛ ولذلك ترى الكلمة الهيروغليفية لهاتور تعني الذهب، وهي توصف بأنها «هاتور الذهبية».
ومن هنا عناية القدماء بالذهب الذي كانوا يبعثون البعثات إلى الأقطار النائية لجلبة واحتفالهم به ودفنه مع الموتى. •••
وكان الذهب بذلك وسيلة لنقل الحضارة - حضارة أبناء الشمس - في عصر الفراعنة من مصر إلى آسيا وأفريقيا وأوروبا بل إلى أمريكا، والآن يطوف السائح المنقب فيجد في تاريخ الأمم التي ينزل فيها أو في تقاليدها الباقية قصصا عن أبناء الآلهة الذين نزلوا فيها واكتشفوا الذهب.
وأبناء الآلهة هم أبناء الشمس أي رع، هم المصريون الذين أقاموا حيث كان الذهب وزرعوا وعملوا من حولهم التقويم الشمسي وتحنيط الموتى وبناء الهرم، ونقلوا الإنسان من العصر الحجري إلى الحضارة.
ولم تقف مهمة الذهب عند إفشاء الثقافة، فإن المصريين افتتحوا به عصر المعادن، واستخرجوا الناس واستعملوه أولا كما يستعمل الذهب للشبه الكبير بينهما، ثم وجدوا من صلابته ما يجعله صالحا للآلات فصاغوا منه الخناجر على هيئة الأسلحة الحجرية القديمة، ثم صنعوا السيف وهو خنجر طويل، ووجدوا في الرماد المتخلف من صهر النحاس مواد لصنع المينا التي يطلى بها الفخار، ثم ارتقوا من ذلك إلى صنع الزجاج.
وهكذا نجد سلسلة متعددة الحلقات من ألوان الرقي البشري نشأت جميعها على أسطورة قديمة هي أن الذهب يطيل العمر. •••
في هذا العام 1935 يبلغ السر جيمس فريزر الحادية والثمانين من عمره، وهذا العالم العظيم قد عرف وذاع صيته بكتاب يدعى «الغصن الذهبي» تعد صفحاته بالألوف، وهو مجموعة وافية من العادات والعبادات والشعائر وألوان السحر والعرافة والعقائد التي تتمشى في أنحاء العالم المتحضر والمتوحش، ولهذا الكتاب موجز تبلغ صفحاته 756.
والقارئ لهذا الكتاب يعجب بهمة المؤلف وجلده وإحاطته، وسيبقى هذا الكتاب خالدا بين الكتب التي تعد مراجع غالية وإن كان أساسه كله خطأ؛ فإن الحقائق المدونة فيه لها فائدتها التي يمكن كل قارئ أن ينتفع بها، أما استنتاجات المؤلف منها فقد ثبت خطأها ولا قيمة لها الآن.
فإن المؤلف يفرض أن الطبيعة البشرية واحدة في كل مكان، وأنها تستجيب للظواهر الطبيعية بعقائد متشابهة؛ ولذلك إذا عرفنا أن التحنيط معروف في بيرو في أمريكا السفلى وفي الجزر الملاوية في جنوبي أسيا وفي مصر وفي الكونجو، فإننا يجب أن نعرف أن الظروف تشابهت فاستجاب لها الإنسان في جميع هذه الأقطار استجابات متشابهة، فليس هناك إذن ما يدعونا إلى أن نفرض أن الثقافة انتقلت في مسألة التحنيط من قطر إلى آخر، وكذلك الشأن في اختراع الزراعة والاهتداء إلى المعادن ونظام الحكومة والكهانة والزواج إلى غير ذلك.
ولكن هل هذا هو الواقع الذي نستطيع أن ندعمه بشهادة الحياة التي يعيشها البشر أو قبائلهم أو أممهم المختلفة؟
إن الواقع يثبت أن الأمم أو القبائل أحيانا تتجاور ومع ذلك تعيش كل منها في حدود ثقافتها الموروثة، فهذه قبيلة تمارس الزراعة وأخرى تجاورها، ولكنها لا تزال تجمع الطعام جمعا ولا تستنتجه استنتاجا، وهذه طائفة تمارس عادات الزواج أو تحريم بعض الطعام فتخالف الطوائف الأخرى المحيطة بها، ولو أن الجميع يتجاورون ويختلطون. وكل ذلك لأن لكل منها تراثا ثقافيا يجعلها تحب وتكره ما لا يحبه غيرها أو يكرهه.
والإنسان بطبيعته جامد لا يقبل على العادة الجديدة وليس هو بالمفكر النشيط الذي يدأب في الاختراع والاكتشاف، فإذا فرضنا أن إحدى الأمم اهتدت إلى اكتشاف أو اختراع فإن من المبالغة الكبيرة في حسن الظن بالذهن البشري أن نعتقد أن سائر الأمم ستخترع مثلها، وقصارى ما يحدث أنها تنقل عنها في بطء وفتور، وانتشار الأديان الحديثة يدل على أن انتقال الثقافة من قطر إلى آخر في العصور القديمة كان مألوفا، ولما كانت الحضارة المصرية القديمة تتصل بالدين وتمس العقائد التي تتعلق بالصحة وطول العمر والخلود والتناسل؛ كانت تجد قبولا بل تلهفا أينما حلت لأن الإنسان مهموم بهذه الأشياء، كما يدل على ذلك مثلا هذه المعارف الجديدة عن الفيتامينات التي فشت بين الناس هذه الأيام وبولغ فيها مبالغات كثيرة خرجت بها عن حدودها العلمية؛ فإن الناس لشوقهم إلى ما يطيل العمر ويقوي الصحة يكثرون من قراءة هذه الموضوعات ، كما أن الكتاب الذين عرفوا هذا الشغف قد أصبحوا يبالغون في فائدة الفيتامينات.
وهكذا الحال في العصور القديمة فإن الوهم الذي أشاعه المصريون عن فائدة الذهب والتحنيط جعل الأمم البدائية الأخرى تعتنق مذهبهم وتقبل حضارتهم وترتقي بها إلى الاكتشافات والاختراعات الأخرى. •••
ويجب عندما نبحث انتقال الثقافة المصرية إلى أقطار العالم أن نميز بين إنسانين أحدهما الإنسان البدائي والآخر الإنسان المتوحش.
فإن الإنسان البدائي لا يعرف الزراعة وليس عنده تراث كثير أو قليل من التقاليد، فهو يعيش عيشة ساذجة يجهل فيها اللباس والمسكن والغزو والسبي.
أما الإنسان المتوحش فيعرف طائفة عظيمة من العقائد يمارسها، منها السحر والقتال ونظام الحكم وأحيانا يعرف الزراعة، وهذا الإنسان هو الذي جمع السر جيمس فريزر عاداته من جميع الأقطار وعرضها في كتابه لكي يثبت المشابهة في استجابة الذهن البشري للبيئة إذا اتفقت الظروف.
ولكن مدرسة كمبردج التي تقول بأن مصر هي أصل الحضارة التي تفشت منها إلى سائر الأقطار تفسر هذا التوحش عند المتوحشين بأن الثقافة المصرية القديمة وصلت إليهم فركدت ولم ترتق أو هي انحطت على أيديهم وانمسخت.
وهذا التفسير يبرره الاستقراء؛ لأننا نجد في عادات المتوحشين الحاضرة بذور الثقافة المصرية القديمة.
الشعوب البدائية
يجب أن نميز بين الشعب البدائي والشعب المتوحش؛ فإن الإنسان في العصر الحجري كان بدائيا لا يدري شيئا من فنون الحضارة، أما الشعب المتوحش فله نظم اجتماعية تدل على أنه لقن شيئا من ثقافة المتمدنين ولكنه مارسها مع انحطاط في الفهم أو عجز عن الترقية، فهو يمارس الزراعة ويعرف الملوكية والدين ولكنه مع ذلك يمارس التضحية البشرية والرق إلى غير ذلك.
ولا يكاد يكون في العالم الآن شعب بدائي؛ لأن الحضارة قد انسلت إلى أنأى الأقاليم ورشحت إلى جميع الطبقات، حتى الإسكيماويون الذين يبنون بيوتهم بجدران من الثلج في شمال كندا صاروا يشترون الأقمشة ويأكلون الأطعمة المحفوظة في العلب، ولكن يمكن من وقت لآخر أن يقع السائح على فرد أو أسرة قد انقطعت عن العالم في غابة أو على ذروة جبل حيث تعيش عيشا ضنينا لا يطمع فيها إحدى القبائل أو الجماعات، فتبقى وهي تعيش عيشا بدائيا ساذجا.
وقد عرف العلماء أمتين من البشر قد انقرضتا، وكانت كلتاهما تعيش في حال بدائية ساذجة: الأولى هي التسمانيون سكان تسمانيا الجزيرة الإنجليزية التي تبعد بنحو مئة ميل عن أستراليا. والثانية هي البوشمان الذين كانوا يعيشون في أفريقيا الجنوبية، وقد أباد الإنجليز الأولى وأباد البوير أي الهولنديون الثانية، ولكن بقي من المعارف التي جمعت عنهم ممن عاصرهم ما يكفي لأن نعرف كيف عاشوا وبأي العقائد آمنوا.
ونحن عندما نقف على طريقة العيش التي عاشها التسمانيون نعرف كيف كان يعيش آباؤنا قبل نحو خمسين أو مئة ألف سنة، وعندما نقف على طريقة العيش التي عاشها البوشمان نعرف حالتنا قبل نحو 15 أو 10 آلاف سنة. •••
اكتشفت تسمانيا سنة 1642 ولكنها لم تستعمر إلا منذ 1772 إذ صارت بريطانيا تنفي إليها مجرميها، ثم بعد ذلك شرع الإنجليز يهجرون إليها ويعيشون فيها، وكان فيها من السكان الأصليين ما يبلغ نحو عشرين ألفا، وكانوا سلالة بشرية منفصلة لعلها أحط السلالات التي عاشت إلى عصرنا الحديث؛ فإن تفريغ الجمجمة عند أفرادها لم يكن يزيد في المتوسط على 1200 سنتيمتر مكعب في حين هو يزيد عندنا الآن على 1400 وأحيانا يبلغ 1500 س مكعب، وكانت القامة قصيرة والوجه كريها، بل لفظة «كريهة» هذه قد ذكرت مرات متكررة في جميع ما كتب عنهم وهي تدل على شعور أولئك الذين عاينوهم من الأوروبيين، وكان التسمانيون يعيشون عرايا ولا يعرفون معنى للعورة أو الاستحياء من كشفها، وكانوا يحمون أجسامهم من المطر بأن يدهنوا بشرتهم بالدهن والمغرة وأحيانا إذا اشتد البرد وضعوا على أكتافهم جلود الكنغر، وهو الحيوان الكيسي الذي يعيش إلى الآن في أستراليا وتسمانيا.
ومن التسمانيين نعرف أن للزينة قيمة كبيرة في اللباس؛ فإن المرأة كانت تزين جسمها بحلقات وقلائد من الزهر في الذراع والعنق، وتزين ركبها بنسائر من جلد الكنغر، والرجال يتخذون قلائد من المحار والسن، وهذا إلى الحزوز التي يحدثونها بجلودهم كما يفعل الزنوج.
ولم يعرف التسمانيون بناء المنزل أو الاجتماع في قرية، ولكنهم مع ذلك كانت لهم عناية ببناء خيمة فوق الميت وهنا يشك الإنسان في أنهم هم الذين ابتكروا هذه العادة.
وكانت آلاتهم من الخشب لا يعرفون المعادن، وكانوا يصيدون بالمطرد يحذفون به الكنغر وغيره على مسافة 30 أو 40 مترا، وكانوا يستخرجون المحار من السواحل ولكنهم لم يعرفوا صيد السمك، وكانوا يشوون طعامهم على النار ولكنهم كانوا يجهلون سلقه في الماء، وكان جهلهم تاما بالزراعة ولكنهم كانوا يشعلون النار بالحك، يحكون عودا عموديا في أخدود من خشبة أفقية أخذا وردا أو يديرون العود في فجوة مستديرة في خشبة أفقية.
ولما كانوا يعيشون على الصيد فإنهم كانوا في رحلة دائمة، يقيمون يومين على الأكثر في مكان الصيد إلى أن يأكلوه ثم يرحلوا إلى صيد آخر.
وكان التسماني يتزوج من قبيلة أخرى بعيدة عنه، وكان النسب قائما على الأم دون الأب، وكان يحدث أن تترك الفتاة قبيلتها وترحل إلى أخرى لكي تبحث عن زوج، ويشك في أنهم عرفوا المضارة إذ الأغلب أن الرجل كان يقنع بزوجة واحدة، وكان على الزوجة أن تغوص في الماء للمحار وتشوي اللحم وتقدمه لزوجها، وهو يلقي إليها ما يفيض منه كما لو كانت كلبا ينتظر اللقمة بعد الأخرى، ولم يكن في الزواج شيء مما تفهمه أنه احتفال أو عرس، وكانوا يجهلون التقبيل. •••
أما البوشمان فأقل سذاجة من التسمانيين، وقد انقرضوا تقريبا هم أيضا، ومما يجب الالتفات إليه أن كلا من التسمانيين والبوشمان انقرضوا دون أن يتزاوجوا بالإنجليز أو البوير؛ وذلك لأن هؤلاء اشمأزوا من هذا التزاوج وأعملوا فيهم القتل حتى أبادوهم، ومن هنا نفهم أن السلالات القديمة التي ظهرت وانقرضت مثل الإنسان النياندرتالي لم تختلط بنا لأن الأرجح أن انقراضها كان نتيجة الاشمئزاز أيضا.
وكانت السلالة البوشمانية يمتاز أفرادها بشيئين في غاية الغرابة: الأول أن للبوشماني رجلا كان أم امرأة ألية بارزة جدا، والثاني أن للمرأة شفة تتدلي من حرف المهبل حتى تبلغ في الطول 10 إلى 12 سنتيمترا، فإذا سارت ظنها الرائي رجلا.
وكان البوشماني خلوا من هموم العيش لا يبالي غير طعام اليوم، وكان يمتاز من التسماني بذكائه وقدرته الفنية، فقد كان له رسامون بارعون في الرسم بالأصباغ، وكانوا يعيشون إما في خصاص من القش والشجر وإما في الكهوف، وفي جدران هذه الكهوف وسقوفها وجدت هذه الرسوم، وكانوا يعنون بالرقص والغناء.
ولم يكن عند التسمانيين شيء بتاتا عن العقائد والأوهام مثل الإيمان بالأرواح أو العفاريت، ولكن البوشماني كان يؤمن بالله ويعتقد بقاء الروح بعد الموت ويدفن موتاه بعناية، وهنا يجب أيضا أن نشك في أنه هو المخترع لهذه العقائد إذ الأغلب أنها تسربت إليه من القبائل الإفريقية الأخرى المتوحشة.
وكان البوشماني يمتاز أيضا من التسماني من حيث شعوره بالحياء للعورة ورغبته في إخفائها، وكان يتخذ زنارا له ذنب من الخلف والأمام، وكان زنار النساء يحمل خرزا أو تتدلى منه خيوط، وكن ينتعلن بنعال خفيفة، وكان للبوشمان براعة في الصيد حتى الفيل، والزرافة والجنو والأيائل كانوا يصيدونها، ولكنهم كانوا يجهلون الزراعة جهلا تاما. •••
وكانوا في الزواج يقيمون احتفالا أو عرسا على أساس أن العريس يخطف العروس، وكان حين يحاول خطفها يهرع إيها أهلها وعشيرتها ويضربونه، فإذا تحمل الضرب وتجلد نالها، وإذا عجز لم ينلها، وكان على الزوج أن يتجنب حماته لا يراها أبدا لأنها طبو، وكان الطلاق يحدث بالتراضي.
هذا هو حال شعبين بدائيين لم يعرفا الزراعة التي تعد الأصل للحضارة والتي لا يمكن أن تقوم حضارة بدونها، وهنا في الوقت نفسه لا يعدان من الشعوب المتوحشة؛ لأن التوحش هو نتيجة الحضارة الناقصة أو الراكدة في أطوارها الأولى أو التي أفسدتها البيئة كما نرى في المتوحشين في أفريقيا وآسيا من الشعوب التي تمارس القتال وتزين بيوتها بالجماجم، أو غير ذلك من ضروب القسوة التي يجهلها البدائي لأنه خلو أو كالخلو من نظام اجتماعي حسن أو سيئ.
التحنيط والبناء
كان القبر أصلا من أصول الحضارة القديمة، منه تعلم الإنسان البناء ونحت التماثيل، وعنه أنشئت المعابد وتأسست الأديان القديمة، وعرفت الكيمياء عن التحنيط، ووصل الناس إلى أقصى الأرض يبحثون عن الذهب والمعادن والإيتاء بهما لإطالة العمر بعد الموت.
كان المصريون قبل أن يعرفوا القبور يتركون موتاهم للشمس فتجف الجثة ويبدو كأنها صاحبها لا يزال سليم الأعضاء، ثم يلفونها في القماش ويحفرون لها حفرة غير عميقة، وكانوا أحيانا يفصلون بينها وبين جدران الحفرة بالبوص لكي يمنعون التراب أو الرمل المحيط عن الانهيار على الجثة، ثم صاروا يفرشون الأرض وجدران القبر بألواح من الخشب بدلا من البوص، وأخيرا صنعوا النعش، ويمكننا الآن أن نقول إن النعش كان أول ما صنعه النجارون وإن القبر أول ما بناه البناءون في العالم.
ولكن المصريين في تجاربهم الأولى عن تخليد الجثة لكي يطمئنوا إلى أن حياتها لا تزال باقية، رأوا أنهم عكسوا الغاية باختراع النعش؛ لأن الجثة بدلا من أن تبقى سليمة تفسد وينحل اللحم، ومتى زال اللحم زال البقاء، وكانت لهم مصلحة كبيرة في أن يبقى الميت العظيم رئيسا كان أو كاهنا أو ملكا؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنه هو الذي كان يزيد المحصولات، فما دام حيا (بعد الموت) لا يكون هناك خطر من نقص الطعام.
وكانوا يعرفون من تمليح السمك وتجفيفه أنه يمكن اللحم أن يبقى سليما ما دام مملحا أو مجففا، وقد التفت هيرودوتس السائح الإغريقي إلى عناية المصريين بهذه الصناعة مما يدل على أنها كانت عريقة عندهم، كما عرفوا أن نزع الأحشاء هو شرط لمنع التعفن سواء في السمك أو الإنسان، ومن المرجح أنهم اهتدوا إلى تمليح الجثة من تمليح السمك والتمليح هو أساس التحنيط.
وما زلنا إلى الآن نحتفل بمرور أربعين يوما على وفاة الميت، وهذه الأيام هي التي كانت الجثة تقضيها وهي مغمورة في الماء والملح ثم تخرج بعدها لكي تعالج وتحنط بأنواع أخرى من العقاقير والأفاويه والراتينجات وتلفف بالأقمشة قبل أن تدفن، ولكن حتى مع هذا التحنيط لم يثق المصريون كل الثقة بأن الروح ستعرف الجثة فصنعوا لها تمثالا لكي لا تضل، فإنهم رأوا أنهم مهما أتقنوا التحنيط فإن الوجه تتغير ملامحه فصنعوا أولا صورة فوق لفائف المومياء تشبه الأصل، ولكن هذه الصورة لم تكف فصنعوا التمثال.
وجه مومياء من العصر المسيحي في الفيوم.
وربما يكون من المبالغة أن نقول إن الرسم والنحت قد نشأ كلاهما من العناية بالميت؛ فإن الطبيعة الإنسانية أكبر من ذلك، وللفنون لذة تتجاوز حدود المنفعة، وقد ترك الإنسان البدائي رسوما لا يمكن أن تفسر بالغاية النفعية؛ إذ إن الروح الفني واضح فيها، ولكن يجب أن نعترف بأن القبر المصري كان أحد الأصول - أو على الأقل الوسائل - للنحت والرسم، فكان التمثال يصنع من الخشب أو الحجر ووجه المومياء يرسم بالألوان.
وقبل أسابيع ذكرت الصحف خبرا غريبا هو أن بعض اللصوص سرقوا جثة وجيه من وجهاء المنيا، ولا بد أن هؤلاء اللصوص هم من سلالة أولئك اللصوص الذين كانوا يسرقون قبور الفراعنة وكبار رجال الدولة، والإغراء بالسرقة في الأزمنة القديمة كان أكبر مما هو الآن؛ وذلك لأن أسلافنا كانوا يضعون مع الميت مقدارا من الذهب اعتقادا بأن هذا المعدن يطيل الحياة ويمنع عنه الفساد؛ ولذلك فكر المصريون كثيرا في بناء القبر بحيث يضل الباحث سواء أكان لصا سافلا أو عالما مصرلوجيا عن الوصول إليه، وهذا التفكير جعلهم يتقنون صناعة البناء بالحجر، ولكن هذا الإتقان لأجل الميت فقط لأن فرعون نفسه كان يعيش في قصر من الطوب النيئ كما يفعل فلاحونا إلى الآن.
ثم اعتقدوا أن الميت يحتاج إلى الطعام فبنيت منصة أمام القبر ليوضع عليها، ومن هذه المنصة وبناء القبر نشأ المعبد والقربان، ويجب أن نذكر أن فرعون كان إلها في حياته، وكذلك كان بعد وفاته، ومن هنا يسهل علينا كيف تطور القبر إلى المعبد المصري القديم.
وهذا القبر المصري لا نراه في مصر فقط، بل ما زلنا نجده في أقطار العالم النائية في جزيرة العرب وفرنسا وبريطانيا وأقطار آسيا وأفريقيا؛ وذلك لأن المصريين الذين خرجوا من مصر للبحث عن الذهب والعقاقير والخشب وسائر ما يلزم للميت، كانوا أحيانا يموتون قبل أن تتاح لهم العودة إلى بلادهم فكانوا يبنون قبورهم حيث هم في جزيرة العرب أو في السودان أو في فرنسا، ولكنهم كانوا يبنونها وهم يجهلون الدقة في الصناعة، فكان القبر يبنى وكأنه الرسم الكروكي للأصل، فقد كانوا مثلا يصلون بين منصة الطعام وبين التمثال الذي ينحت على هيئة الميت بطاق مفتوح لكي يستطيع التمثال أن يأكل ما يقدم له.
هذا في الأصل أي في مصر، ولكنهم في الهند مثلا فتحوا الطاق ولم يستطيعوا صنع التمثال، أو أقاموا الأعمدة وحفروا السراديب ولكنهم عجزوا عن تحقيق سائر الملحقات، وهذه القبور أو الأطلال التي تدل على أن المصريين هم الذين بنوها لا يكاد يخلو منها قطر في العالم، وهي تسمى عند العرب أرام، وفي اللغة الإنجليزية «دولمن».
وعندما نتتبع الأماكن التي لا تزال فيها هذه الأطلال قائمة نجد أنها قريبة من مناجم الذهب أو أي معدن آخر يشبه الذهب مثل النحاس أو غيره، وكما أننا نجد أن الهرم قد انتقل إلى أمريكا على أيدي أناس تثقفوا بالثقافة المصرية، كذلك نجد القبر المصري منتشرا في كل مكان والقبور أسهل بناء من الأهرام؛ ولذلك هي أكثر عددا وانتشارا منها.
وقيام هذه الآرام إلى جنب المناجم أو بالقرب منها يدل على أن الذين بنوها كانوا يقصدون من رحلتهم إلى الأقطار النائية إلى جلب الذهب، وقد بقيت هذه الحال إلى عصرنا الحديث؛ فإن الفينيقيين رحلوا إلى إنجلترا لجلب المعادن، بل عندما نتأمل الباعث الرحلات القديمة نجد أنها تكاد تنحصر في جلب المعادن والأفاويه ولكليهما علاقة بالتحنيط.
وكما انتقل بناء القبر المصري وتفشى في أنحاء العالم كذلك انتقل فن التحنيط حتى بلغ القارة الأمريكية، وهناك شواهد تشريحية تدل على أن التحنيط في أمريكا قد صار على الطريقة التي اتبعت في مصر حتى إن بعض الأعضاء التي عولجت بطريقة خاصة في مصر نراها هي نفسها قد عولجت أيضا في القارة الأمريكية؛ لأنها تتعلق بشعائر وعادات أبناء الشمس أي المصريين.
وأبناء الشمس هؤلاء لا تخلو أمة من الأمم المختلفة من تقاليدهم، وهذه الأمم تحتفظ بهذه التقاليد لأنها كانت ولا تزال بطيئة التطور لم ينسخ الجديد فيها القديم، فهم يذكرون في تقاليدهم أن «أبناء الشمس» جاءوهم وعلموهم العبادة والزراعة ودفن الموتى وبناء القبور واستخراج الذهب ونحت الحجر.
ومن التحنيط عرف الإنسان الكيمياء حتى إن الإغريق أطلقوا لفظة كيمي وهي تعني مصر على هذا العلم، ومن الزراعة عرف الإنسان الفلك؛ لأنه اضطر إلى معرفة الأوقات الزراعية على النظام الشمسي حتى لا يخطئ أيام الزرع أو الحصاد، ومن البحث الخرافي عن تخليد الموتى ارتقى المصريون إلى البحث عن الوسائل التي تحفظ صحة الجسم، ومن بناء القبر ارتقوا إلى بناء المعبد ثم إلى بناء المساكن بعد فترة طويلة من الإهمال، ومن عبادة الآلهة المتعددة إلى عبادة الإله الواحد أيام أخناتون. •••
وعندما نتكلم عن الحضارة المصرية القديمة يجب ألا يفوتنا أننا نتحدث عن نحو 4500 سنة قبل الميلاد تقلبت فيها البلاد على حضارات مختلفة؛ ولذلك نحن نتجوز حين نقول «الحضارة المصرية» لأنها لم تكن واحدة طول هذه القرون المتعاقبة، وإلى الآن نجد في أنحاء العالم شواهد تدل على انتقال ثقافة مصر في الأسرة الخامسة أو السادسة، وشواهد أخرى تدل على انتقالها في أيام الأسرة الثانية عشرة أو حتى الأسرة الخامسة والعشرين.
وقد زال بناء الهرم من مصر بعد الأسر الأولى، ولكن بناء القبور بقي على ما هو عليه إلى العصور الحديثة، وبقي التحنيط حتى إلى ما بعد دخول الدين المسيحي، ومع ما حاوله أبناء المسيحية في القرون الأولى من إلغائه لم يستطيعوا ذلك لأن العادة كانت قد تأصلت في النفوس؛ ولذلك فإن المسيحيين بقواعده قرون وهم يحنطون موتاهم في مصر، ولم يقض على هذه العادة إلا بعد دخول الإسلام.
مصر والإغريق
الأستاذ برستد هو العالم الأثري الذي توسط بين المثري الأمريكي روكفلر وبين الحكومة المصرية لكي يهب الأول الثانية مليونين من الجنيهات لزيادة البحث عن الآثار المصرية وتنشيط العلماء إلى القدوم إلى مصر، وقد رفضت حكومتنا هذه الهبة مع أن الأمريكيين يقولون إنهم عرضوا على الحكومة أن تكتب أي شروط لقبول الهبة وما على معهد روكفلر سوى القبول .
والأستاذ برستد معروف بسعة ثقافته في الآثار القديمة في مصر وغير مصر، وكتابه «فتح الحضارة» من أبدع ما كتب في نشوء الحضارة الأولى، وهو لسعة ثقافته يدأب في المقابلات والمقارنات يقابل بين مصر ودنمركا أو بين مصر وبريطانيا أو بين مصر والأقطار الشرقية الأخرى، وهو لا يقول بعبارات صريحة إن مصر أصل الحضارة في العالم ولكن هذا هو ما يستنتج من العرض العظيم الذي يعرضه للقارئ من تاريخ الأمم المختلفة.
باليسار خنجر مصري يليه خنجر إيطالي ثم خنجر وجد في جبال جورا ثم خنجر دنمركي وكلها منقولة عن المصري.
ونحن في هذا الفصل نعتمد عليه هو وحده وننقل من كتابه رسوم بعض الآثار القديمة التي تدل على أن المصريين هم الذين اخترعوا الحضارة، عرفوا الزراعة أولا ثم اضطروا بحكم هذه الصناعة إلى اختراع سائر ملابسات الحضارة القديمة من دين وحكومة وآنية ومسكن وملابس وخبز وخمر ... إلخ.
ولنبدأ بالخنجر المصري فنقول: إن المصريين كانوا قبل أن يعرفوا المعادن يشتركون مع سائر الشعوب في بداوتها في استعمال سكاكين الأحجار، يحفرون بها عن الجذور ويقتلون بها الوحوش، وهذه السكاكين توجد الآن مطمورة في جميع أنحاء العالم، ولكن لما تحضر المصريون وعرفوا النحاس والبرونز صنعوا خناجرهم القديمة على مثال السكاكين الحجرية، ثم انتشرت هذه الصناعة وخرجت من مصر إلى أوروبا فصنع الأوروبيون خناجر هم على الطريقة المصرية، ثم اخترع الأوروبيون السيف وهو خنجر طويل.
واخترع المصريون حروف الهجاء وكانت تصويرية أولا، ثم اختصرت الصور حتى صارت تؤدي ما تؤديه لنا حروف الهجاء، وقد اتجهت حضارة مصر نحو الشمال والشرق فشاعت الحروف المصرية؛ ولذلك نراها الآن في آثار جزيرة كريت بتعديل طفيف جدا لا ينكر أصلها المصري، وكما أخذ الكريتيون هذه الحروف من مصر كذلك أخذوا صناعة الفخار فنقلوا الطريقة المصرية في صنع الآنية حوالي سنة 2700 قبل الميلاد.
حروف هيروغليفية مصرية «باليسار» نقلها سكان جزيرة كريت «باليمين» مع تنقيح طفيف.
وقد يمكن القارئ أن يعترض هنا فيقول بعكس ما يقوله الأستاذ برستد، وهو أن مصر نقلت صنع الخناجر المعدنية من أوروبا ونقلت حروف الهجاء وصنع الآنية من جزيرة كريت، ولكن هذا الاعتراض مردود؛ وذلك لأن للكتابة الهيروغليفية المصرية أصلا مصريا واضحا يتفق واللغة المصرية القديمة، ولكنه لا يتفق واللغات الأخرى التي استعملت هذه الحروف، ثم إن تقدير الآثار يدل على السابق والمسبوق فيها دع عنك السذاجة التي نراها في المخترعات لأول اختراعها، ثم ما يطرأ عليها من تنقيح بالانتقال من قطر إلى آخر.
والإسفنكس الذي يسميه العامة «أبو الهول» من أقدم الآثار المصرية، وهو شيء مألوف في الكرنك، وهو حيوان له وجه إنسان، فعند أهرام الجيزة نرى الإسفنكس الكبير وأقدم الإسفنكسات وهو أسد له وجه إنسان، وفي الكرنك نرى كباشا لها وجوه إنسانية وأحيانا نجد للإسفنكس جناحا فيجمع بين الدابة والطائر والإنسان، وقد أعجب القدماء بهذه الفكرة واعتقدوا أن الإسفنكس حقيقة لها وجود وقد دخل في ثقافة الإغريق، وكان هؤلاء يصنعونه بوجه امرأة وجسم حيوان، يعرض للناس ثم يلقي عليهم أحجية أي لغزا شاقا فإذا لم يحلوه خنقهم، ولا بد أنه كان للإسفنكس المصري دلالة دينية؛ فإننا نجد للآن معبدا حسنا قريبا منه عند الأهرام، وقد أخذه الفينيقيون والحيثيون والأشوريون وصاروا يزينون به الأثاث يصنعونه من العاج ويضعونه على طرف المائدة أو الكرسي.
باليسار زهريات مصرية من الحجر وباليمين زهريات صنعت في كريت نقلا عن المصري.
وقد كان المصريون أول من عرفوا صناعة الزجاج وعنهم نقلته الأمم الأخرى، وما تزال آنيتهم تشهد بعبقريتهم في الصناعة، وقد كانوا يصنعون الآنية من الفخار النيئ أو المصهور، أو كانوا ينقرونها نقرا في الحجر إذا كانت من المرمر العادي أو المرمر الشفاف «الألبستر» أو كانوا يصنعونها من الزجاج، وقد شاعت الآنية على الطراز المصري عند الأمم الأخرى لأنها نقلت عنه.
إسفنكس صنع في أشور على الطريقة المصرية.
قماقم للعطور من الزجاج، باليسار قمقم مصري وبالوسط قمقم بابلي وباليمين قمقم وجد في إيطاليا الشمالية، وكلها منقولة عن الطراز المصري.
وإذا شئنا أن نقول في أي شيء برع المصريون وتفوقوا على غيرهم من الأمم، فالجواب أنهم برعوا في الصناعة عامة وفي صناعة البناء والنحت خاصة، وقد أخذت الأمم ذلك عنهم، وقد وجد المصريون من وثنيتهم وتعدد آلهتهم أعظم ما يغري على بناء المعابد ونحت التماثيل، ولم يمت النحت ولم ينقرض المثالون إلا بعد التوحيد المسيحي والتوحيد الإسلامي، وكلاهما جعل من التمثال صنما يجب هدمه. وقد استطاع الأثريون أن يجدوا في تاريخ النحت الإغريقي ذلك الأساس المصري الذي قام عليه؛ فإن التماثيل الأولى صنعت على غرار التماثيل المصرية فكانت نقلا صريحا لم تتخلص من الفن المصري إلا بعد تنقيحات كبيرة، فمصر ألهمت العالم صناعة النحت وألهمت الإغريق هذه الصناعة الفريدة التي تفوقوا فيها وتوخوا منها الجمال، بينما المصري كان يتوخى الحقيقة والعظمة الإلهية والهدوء الروحي، وقد ثبت أن الفن الهندي يرجع إلى إيحاء الإغريق الذين زرعوا بذرته في حملة الإسكندر المقدوني على الهند، وانتشرت هذه الصناعة من الهند إلى أنحاء آسيا بل انتقلت بعد ذلك إلى القارة الأمريكية.
باليمين تمثال مصري قديم وباليسار تمثال إغريقي صنع على غرار المصري يحاكي وضعه في جميع الأعضاء.
باليسار عمود مصري من الخشب وقد حلي بورق اللوتس، وبالوسط جزء من حائط في قصر نبوخذنصر في بابل وبه رسم اللوتس المنقول من مصر، وبأسفل رأسان لأعمدة إغريقية بها حلية اللوتس المصرية، وباليمين عمود إغريقي حدث به تنقيح كبير فلا يرى ورق اللوتس إلا في أعلاه وقد استحال إلى حلية جميلة.
وما حدث في النحت حدث أيضا في البناء؛ فالمصريون هم الذين اخترعوا العمود ونقله الإغريق عنهم، والبرهان على هذا النقل أن المصريين استعملوا أوراق اللوتس المصري في تزيين الأعمدة، ولهذه الأوراق دلالة فنية ودينية عندهم، فنقل الإغريق هذه الحلية وليس لها هذه الدلالة.
فإذا تأمل القارئ هذه الرسوم وجد مصداق ما يقوله العلماء الآن، وهو أن المصريين أشاعوا الحضارة الأولى في العالم.
وقد ذكرنا الأدلة الحسية على نقل الحضارة المصرية إلى الشمال والشرق، ولسنا في حاجة لأن نذكر أن السودان الآن يحتوى على أهرام مثل الأهرام المصرية نقلها ملوك إثيوبيا عن مصر كما نقلوا معها العقائد والشعائر الدينية.
وأكبر تمثال للربة هاتور يوجد الآن في السودان، وملوك القبائل في إفريقيا قد تسربت إليهم الحضارة المصرية فمارسوا منها ما استطاعوا وما وافق مناخهم الحار، فالملك يعتبر إلى الآن عندهم من الآلهة كما كان الفراعنة عند أسلافنا.
وكذلك انتشرت عبادة رع «الشمس» عند أمم الشرق، وما يزال أثرها واضحا في حفلة التتويج لإمبراطور اليابان، ومن الأقطار والجزر الواقعة في جنوب آسيا الشرقي انتقلت الحضارة إلى أمريكا الغربية فشملت القارة، والبراهين على ذلك كثيرة منها أن شعائر مصرية دينية كانت تمارس في أمريكا الوسطى، ومنها تمثال لرأس فيل وجد في الشاطئ الغربي وليس في القارة الأمريكية فيلة، ومنها أن لفظة معزقة التي استعملت في أمريكا الجنوبية هي نفسها اللفظة التي استعملت في شرق آسيا الجنوبي.
حضارة مصر في أفريقيا
كان المصري القديم في بداية وجدانه المدني ينظر لشيئين:
الأول:
كيف يطيل عمره ويديم قوة شبابه.
والثاني:
كيف يوفر الطعام.
فأما إطالة العمر وإدامة الشباب فكان يتوسل إليهما بجلب الجواهر كالمرجان واللؤلؤ أو المعادن النفيسة كالذهب، ثم كان يعتمد على التحنيط لبقاء الجثة سليمة اعتقادا بأن سلامة الجسم تكفل سلامة النفس؛ ومن هنا كانت الهجرة لجلب هذه الجواهر والمعادن وكان التعارف وتفشي الحضارة المصرية في أنحاء العالم.
أما توفير الطعام فكان هما آخر قد لا ندرك قيمته نحن هذه الأيام لأنه لم تمر بنا سنة من السنوات حل فيها القحط وجعل الناس يموتون من الجوع، ولكن تاريخ العالم حافل بهذه المجاعات، ولا بد أنها كانت في الأزمنة القديمة أكثر مما هي الآن.
ولم يكن للإنسان هموم أخطر من هذين الهمين، إطالة العمر وتوفير الطعام، وهما الآن أخطر الهموم عند المتوحشين أو قبائل الهمج بين الزنوج؛ فإن هؤلاء الزنوج يقومون بشعائر دينية تتعلق بالشباب والزراعة، والمتأمل لهذه الشعائر لا يتمالك من أن ينسبها لمصر.
نشأت الأنظمة والأديان والشعائر في مصر لهاتين الغايتين، فكان فرعون يؤله لأن مهمته الأصلية الاستكثار من الزرع ومباركته على نحو ما يقوم به «كاهن المطر» أو «كاهن الزراعة» عند المتوحشين الآن، وكانت أديان مصر جميعها ترمي إلى الاحتفاظ بالشباب وتوقي الموت.
وقد تفشت هذه الحضارة في جميع أنحاء العالم تقريبا ثم تطورت في الأمم الحديثة حتى غابت معالمها الأولى أو كادت، فلو شئنا أن نبحث عن الحضارة المصرية القديمة في أوروبا الحديثة لوجدنا بعض المشاق لأن أوروبا في انقلاباتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية قد انسلخت من طبقات التقاليد القديمة.
ولكنا ما زلنا نجد الأثر لهذه الحضارة المصرية في إلياذة هوميروس الإغريقية وفي الآرام المبثوثة في أنحاء أوروبا وفي الأساطير الدينية الرومانية القديمة وفي الملوكية ... إلخ.
آلات موسيقية من قبر أمينمهعت.
ولكن حيث تكون الأمة راكدة أو بطيئة في تطورها نجد أن العقائد المصرية القديمة واضحة؛ فإن بناء الأهرام وتحنيط الجثث لم يختلفا بين سكان أمريكا الجنوبية والوسطى عما كانا عليه عند أسلافنا، وكذلك لا تزال ممالك الزنوج أو قبائلهم في أفريقيا تمارس من عاداتنا وشعائرنا القديمة ما نسيناه نحن أو أقلعنا عنه قبل نحو 3000 سنة.
آلات موسيقية تستعمل في أفريقيا الغربية الآن، وهي مطابقة للآلات المصرية أيام أمينمهعت. •••
وهذه الكلمة التي نقولها سنخصها بالتقاليد المصرية التي تفشت في أنحاء أفريقيا وخاصة بين الزنوج، ونعتمد فيها على الأستاذ سيليجمان مؤلف «مصر وأفريقيا الزنجية» وقد صدر هذا الكتاب هذا العام.
ويرى الأستاذ سيليجمان أن مصر كانت منذ الأسرة الخامسة تعرف الزنوج وتتصل بهم، وكانت هناك أربعة طرق للانتقال بين مصر وأنحاء أفريقيا: (1)
الأول هو الطريق الشمالي الغربي أو ما نسميه الآن طرابلس وتونس إلخ، وقد كانت قرطجنة «تونس» تتخذ قرص الشمس المصري رسما لنقودها في القرن الثالث قبل الميلاد. (2)
ثم طريق النيل الأبيض. (3)
ثم طريق النيل الأزرق. (4)
وأخيرا طرق الواحات.
وبهذه الطرق الأربعة كانت تصل حضارة مصر إلى أنحاء أفريقيا فتعرف في الحبشة والبحيرات ونيجيريا بل في الكونجو.
ويجب أن نلتمس الأصل في العقائد الزنجية وأنظمتهم الاجتماعية في عقائد مصر القديمة، ونحن نراها في سنة 1934 بعد الميلاد كما كانت قبل 5000 سنة في مصر بلا تنقيح أو تبديل؛ لأن هذه القبائل راكدة لا ترتقي ولا تقلع عن تقاليدها القديمة.
نذكر الآن بضعة أشياء وعادات ليست مشابهة لما كان يمارسه آباؤنا قبل آلاف السنين، بل مطابقة لأنها منقولة نقلا لم ينقح، ففي الأسرة الخامسة مثلا كانت العادة الفاشية أن يلوى قرن البقرة، ولا تزال رسوم باقية تبين لنا ذلك اللي، وإلى الآن يمارس رعاة البقرة في النوير هذه العادة.
وقد كان الصقر شعار الملوكية عند الفراعنة، وهو كذلك الآن عند الملوك في أوغندا.
وتحنيط الجثة فن مصري قديم يحتاج إلى علم بالكيمياء والعقاقير، كما يحتاج إلى أقمشة كثيرة تلفف بها المومياء، وقد عجز الزنوج في الكونجو عن الكيمياء والعقاقير، ولكنهم يلففون جثة الملك أو الأمير بأقمشة كثيرة هي المظهر الخارجي للتحنيط.
والآلات الموسيقية التي تستعمل في أفريقيا الغربية الآن هي نفسها الآلات المصرية القديمة، وهنا يجب أن نقرر أن المسألة ليست مسألة مشابهة بل مطابقة.
زوجة طهراقة فرعوني مصر تضرب الجهات الأربع كما يفعل الآن بعض ملوك الزنوج. •••
وقد نشأت المملكة الميروئية في الجزء الشمالي من السودان واتصلت بالحبشة، وكانت هذه المملكة طبعة أخرى للمدنية المصرية ووسيلة لنقلها وتوزيعها في الأقطار المحيطة، فعرف بناء الهرم في السودان كما عرفت الربة هاتور ونقلت بالطبع عادات مصرية كما درست الثقافة المصرية.
ومما يجب أن يلاحظ هنا أننا نجد العادات أو الشعائر المصرية التي شاعت بين الزنوج في أفريقيا تحتفظ احتفاظا عجيبا بمسحتها البدائية، حتى لقد ترتقي في مصر بعد ذلك وتتخلص منها أو ترتقي بها إلى طور أعلى فتبقى هي بين الزنوج على أصلها الذي زال من مصر، وليس هذا مقصورا على الزنوج بل هو عام بين جميع الأمم أو القبائل الراكدة التي تفشت بينها ثقافة مصر القديمة.
ففي مصر قبل الأسرة الخامسة كان اعتقاد خلود الروح والتمتع بالعالم الآخر مقصورا على الملوك والأمراء والكهنة، ثم ثار الشعب وطلب تعميم هذا الحق، ولكنا ما زلنا نجد الاعتقاد القديم قائما في بعض أنحاء أفريقيا وآسيا.
وفي مصر كان الاعتقاد القديم أيضا يقول بالتضحية البشرية، وقد زال هذا الاعتقاد قبل الأسرة الأولى، ولكن هذه التضحية عرفت في شمال السودان حتى حين كان الحاكم واليا مصريا موفدا من مصر.
بل هناك ما يدعو إلى الظن بأن فرعون مصر في الأزمنة البعيدة أو بكلمة أصح ذلك الأمير أو الرئيس الذي سبق عصر الفراعنة كان يعد من الآلهة، وأنه كان يقتل إذا ظهرت عليه أمارات الشيخوخة؛ وذلك لأن المهمة الأصلية له هي الزرع، وصحة الزرع كانت تتوقف على صحته وقوته، فإذا ألم به الضعف من مرض أو شيخوخة قتل حتى يقوم بمهمته شاب يتمتع بالصحة والقوة.
وارتقت مصر من التضحية البشرية ومن قتل الأمير، وصار الفراعنة يبعثون البعثات للبحث عن الذهب والجواهر التي تديم الشباب والقوة ويضعونها في قبورهم لهذا الغرض نفسه.
ولكن الثقافة الأولى - ثقافة التضحية وقتل الأمير أو كاهن المطر والزرع - لا تزال قائمة بين الزنوج في أفريقيا إلى يومنا هذا، حتى إن الكاهن يطلب إلى قومه أن يقتلوه إذا أحس الضعف؛ لأنه يعتقد أن ضعفه هو ضعف للأرض والزرع، وأن من المصلحة أن يتولى شاب الحكم بدلا منه لكي يزيد البركات، ثم يجب ألا يبرح من أذهاننا أنه حين يقتل يعد نفسه قد انتقل للعالم الآخر وأن حياته هناك متصلة بحياته هنا على نحو ما فهم الفراعنة تماما حين استعدوا للعالم الثاني بالتحنيط. •••
والآن نذكر شيئا آخر لا يقوم على المشابهة ولا على الاستنتاج؛ لأن المطابقة واضحة فيه، فقد ذكر روسكو في كتابه عن قبيلة البوجندا أن الملك في إحدى قبائلها يؤدي شعائر خاصة يوم تتويجه؛ فإنه يتناول قوسا لها وتر قد نزع من جسم آدمي ثم تقدم له السهام فيشد أوتارها لكي «يرمي بها الأمم».
ويقول روسكو في وصف ما رأى: «لما شدت القوس سلمت للملك ومعها أربعة سهام فرماها جميعها عن القوس، كل واحد منها في جهة من الجهات الأربع وهو يقول ما ترجمته: إني أضرب الأمم وأغلبها. ويذكر اسم واحدة من الأمم وهو يرمي بالسهم في ناحيتها، ويهرع أتباعه فيحملون إليه السهام التي تحفظ في الجعبة إلى احتفال آخر... لأن هذا الاحتفال كان يكرر في بداية كل عام».
وهذا الاحتفال نقسه منقوش جملة مرات في قبور الفراعنة؛ فإن الملك تحتمس الثالث يرمي الجهات الأربع في واحد من هذه النقوش وفي نقش آخر نرى طهراقه وزوجته الملكة ترمي الجهات الأربع بالقوس، وهذا الاحتفال رمز للقوة والغلبة. •••
إن هذه الأمثلة جميعها تدل على أن ثقافة المتوحشين في أفريقيا الزنجية ترجع إلى أصل مصري، وإذا كان الزنوج لم يرتقوا فلأن البيئة المحيطة بهم قد حالت دون ذلك؛ فإن مصر قطعت أكثر من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد وهي بوتقة للعقائد الدينية، عرفت فيها دفن الموتى ومعنى الخلود والعالم الثاني والإثابة على الحسنة والعقاب على السيئة وكثير من الحكم السامية قد عزيت إلى آلتها وكهنتها، وقد ألهمت العالم كثيرا من عقائد فتغنى الإغريق بالرب آمون، وقد رأيت بنفسي معبد ربتنا القديمة أسيس في مدينة بومباي التي طمرها بركان فيزوف، وقد عبد القرطاجنيون قرص الشمس المصري، وبنيت الأهرام في السودان، وعرفت أيضا الربة هاتور. ومصر هي التي أشاعت نظام الرهبانية بل هناك ما يرجح أن ملابس الكهنة في أيامنا هي نفسها ملابس الكهنة أيام جدودنا الفراعنة. •••
لقد كان اختراع الحضارة - كما يقول إليوت سمث - أعظم انقلاب حدث في تاريخ البشر، ولم تكن الحضارة الأولى مجموعة ملفقة من المكتشفات وإنما كانت جسما حيا له قلبان هما الزراعة وإطالة العمر، وكل ما نعرفه عن التواريخ للأمم القديمة كان يدور حول هذين الأمرين، فمنهما نشأت الأديان والحكومات والملوكية والأسرة والقضاء وعلوم الهندسة والهيئة والكيمياء والطب، كما كانا أيضا الأصل في طائفة كبيرة من الصناعات مثل الفخار والبناء والتعدين والنجارة وصنع السفن ونسج الأقمشة وتخمير البيرة.
لقد قال بلونارك المؤرخ الإغريقي، وهو بالطبع يروي هنا أسطورة كانت شائعة في عصره: «لما جاء أوزوريس إلى مملكته وجد المصريين يعيشون حياة كتلك التي يعيشها الدواب، فعمد إليهم يعلمهم فنون الزراعة وسن لهم القوانين وعلمهم عبادة الآلهة، ثم خرج بعد ذلك وجاب أنحاء العالم ينشر المدنية».
وهذه الأسطورة لم تكن روايتها عبثا ولم تخترع أيام الإغريق، وإنما هي قصة مصرية قديمة تدل على تاريخ يغيب في الأزمنة البعيدة.
وليس أوزوريس هذا سوى أحد الفراعنة أو الأمراء الأولين الذين استحالوا آلهة بعد وفاتهم، كما هو الشأن إلى الآن بين الكهنة والأمراء الزنوج الذين ورثوا التقاليد المصرية القديمة.
وكان المصريون يعيشون كالدواب لأنهم كانوا يجهلون الزراعة ويجهلون كل ما نما منها كالحكومة والقضاء والصناعات العديدة، وعزو إفشاء الحضارة في العالم إلى أوزوريس لا يعني أكثر من القول بأن المصريين هم الذين أفشوها.
وليس في العالم الآن رجل يمكنه أن يضارع برستد في سعة ثقافته ونزاهته العلمية، ومع ذلك يقول هذا العالم: «لقد ثبتت هذه الحقيقة العلمية ثبوتا نهائيا وهي أن الحضارة نشأت أولا في مصر». •••
هذا التاريخ المصري القديم يجب أن ندرسه؛ لأننا بدرسه نغذو وطنيتنا بأحسن ما تغذى به، وهو الحقائق الحقة التي تبعث في نفوسنا الكبرياء الوطنية وتحثنا على أن نستعيد مركزنا للقيادة في الحضارة كما كان أسلافنا.
وهذا الدرس يغذو غيرتنا للإصلاح، فإننا نحن الذين اخترعنا الكتابة والقراءة للعالم يجب ألا نترك فلاحنا يجهلهما بعد ستة آلاف سنة من اختراعهما، ونحن الذين أكثرنا الطعام بالزراعة يجب ألا نجيع الفلاح أو العامل المصري في عصر قد شبع فيه جميع الناس بعد ثمانية آلاف سنة من اختراعها، ونحن الذين بنينا أول منزل سكنه إنسان يجب أن نبني المنازل للمصريين الذين يعيشون في مباني لا يرضى الأوروبي أن يدفن فيها موتاه فضلا عن أحيائه.
مصر التي اخترعت الحضارة يجب أن تتقدم جميع الأمم في هذا الميدان ويجب ألا تسمح لأحد لأن يردها إلى الهمجية.
البقرة والقمر والعجل
عندما ننظر نظرة التحليل للأديان المصرية القديمة يجب أن نعتبر ثلاثة اعتبارات: (1)
أن هذه الأديان كانت في نشأتها عقائد بدائية يحاول بها الإنسان الذي اهتدى إلى الزراعة أن يفسر بها مظاهر الكون بأبسط ما يصل إليه خياله. (2)
أن الغاية الأساسية التي قصد إليها من هذه العقائد هي إطالة عمره.
البقرة المقدسة في مصر القديمة وبين قرنيها القمر، وهي الأصل لتقديس البقر في الهند. (3)
أن الزراعة بطبيعة اهتداء المصري القديم إليها كانت اكتشافا عظيما عنده وكانت محور نشاطه وآماله.
وفي ضوء هذه الاعتبارات نستطيع أن نفسر العقائد القديمة دون أن نتورط في فروض صوفية وروحانية كان المصري القديم بعيدا عنهما كل البعد لأنه كان ماديا في عقيدته الدينية يبغي بها طول العمر ووفرة المحصولات الزراعية.
العجل المقدس في الهند الآن وهو يعيد إلينا ذكرى العجل أبيس في مصر.
ومن المعروف أن مصر لم تتحد اتحادا سياسيا أو إداريا إلا بعد انقضاء قرون عدة على تفشي الحضارة الزراعية فيها؛ ولذلك تفشت العقائد بينها واختلفت باختلاف الأقاليم، فلما وحدت البلاد في الإدارة أصبحت العقائد تزدوج وتندغم. ومن هنا ما يبدو لنا من غرابة عندما نجد اقتران الثعبان بالشمس أو القمر بالبقرة في العبادة، ونستطيع أحيانا بالتحليل أن نهتدي إلى أصل الفكرة الأولى في هذا الازدواج، كما أننا أحيانا نعجز عن ذلك ولا نجد مسوغا لهذا الازدواج سوى المصادفة. •••
وعبادة البقرة من العبادات الأولى التي اخترعتها مصر ثم عمت بعد ذلك العالم القديم كله، بل هي لا تزال تعبد في الهند كما أن اسمها لا يزال حيا بين الفلاحين في شهور هاتور؛ إذ إن هذا هو اسمها، وكذلك عبادة العجل فإننا نعرف العجل أبيس ولا يزال العجل محترما في الهند وهو يطلق «يعد أن يرسم ويقدس» في المدن فلا يجوز لأحد أن ينهره، وعلى كل إنسان أن يقدم له الطعام ويتمسح به للتبرك، وقد يرقد العجل في أحد الشوارع ويعطل المرور ومع ذلك لا يجوز لأحد أن يضربه وينهضه، وقد اخترع المصريون عبادة البقر والعجل ونسوها، ولكن الهند لم تنسها لأن طبقة البراهمة تحتفظ بتقاليدها التي ورثتها قبل 3000 عام.
ولا بد أن المصري القديم دهش دهشة عظيمة عندما اهتدى إلى الزراعة واستأنس البقرة فوجد فيها حيوانا أليفا له صفات الأم الإنسانية؛ إذ يخرج اللبن من ضرعها فيغذو الأطفال وغير الأطفال، وشعر منها أنه ظئره التي تحنو عليه وتقدم له اللبن بدلا من أمه، وهي بذلك تبعث الحياة في الأطفال، ومن هنا كان تأليفها وقد رسمت على جدران القبور المصرية والملك يرضع لبنها.
والحمل والولادة من الشئون التي اهتمت لها جميع الأمم القديمة، وقل أن يقرأ الإنسان وصفا للآلهة في مصر أو بابل أو الهند إلا ويجد أن خواص التناسل من أهم صفاتها وأنها موكلة بإخصاب الأمة وتكثيرها؛ فإن البقرة أخذت المكانة اللائقة بها عند جميع الأمم لأنها الرمز للأمومة، وما زالت تتطور حتى أصبحت الربة هاتور التي ترفع الإنسان من الأرض إلى السماء.
وقد قلنا إن العقائد نشأت متعددة في أماكن مختلفة في مصر ثم اندغمت أو ازدوجت عقب الاتحاد السياسي حين أصبح للبلاد كهانة رئيسية تنظم المعابد وتقرر العبادات، وقد كان للقمر مهمة تناسلية تقرب من مهمة البقرة، فإن كل امرأة تعرف أنها تحيض كل 28 يوما أي كل شهر قمري؛ ولذلك فإن القمر نظر إليه في الحضارة الأولى كأن له صلة بتنظيم الطمث والحمل.
هندي يقسم بذنب البقرة المقدسة.
ولذلك نرى أن البقرة رسمت عند أسلافنا وبين قرنيها قمر كأن المقصود هو جمع صفات الحمل والأمومة في ربة واحدة هي هاتور، وكأن الجمع بينهما هو أيضا جمع بين الأرض والسماء.
وقريب من منطق العقيدة بالبقرة منطق العقيدة في العجل؛ فإنه ابن البقرة وأخو الإنسان «في الرضاع» وهو رمز الذكورة أو الفحولة والتلقيح والإخصاب سواء للبقرة أو للأرض التي يحرثها وينبت زرعها؛ ولذلك ألهه المصريون القدماء وقدسوه كما يقدس العجل الآن في الهند، ونسبوا إليه صفات تتفق والألوهية فقد كانوا يعتقدون أن أمه عذراء، وقد ذكره فلوطرخس بقوله: «إن العجل أبيس تحمل به أمه عندما ينضب عليها شعاع قوي من القمر وهي في الشبق».
ويقول هيرودوتس: «هذا العجل أبيس تضعه بقرة ثم عقب ولادته تعود عاقرا لا تلد، ويقول المصريون إن شعاعا من النار «النور» ينزل عليها من السماء فتحمل هذا العجل».
وهذه العجول يكشف عن مومياءاتها في أرمنت الآن، وسوف نعرف منها شيئا بل أشياء كثيرة عن هذا المنطق البدائي الذي جعل الإنسان الأول يقدس البقرة وابنها كما يقدسهما الهنود الآن، كما جعله ينسب صفات خاصة لآلهة لا تزال حية في العقائد الحديثة.
زهرتا البردي واللوتس
قال الأستاذ بتري: «العالم مدين في زخارفه للمصريين الذين أوجدوا أول مدنية على الأرض».
وقد بدأ الفن المصري أشكالا بسيطة كالخطوط والدوائر ومعظمها يمثل زهرتي اللوتس والبردي، ثم أخذ الرسامون رويدا رويدا يزيدون ويوازنون وينقحون في أشكال هاتين الزهرتين حتى أوجدوا مئات الأشكال الزخرفية التي أخذتها الأمم الأخرى.
زهرة البردي في أعلى وزهرة اللوتس في أسفل.
ولقد تعد زهرة اللوتس في فن الزخرفة المصرية القديمة من أهم الوحدات المشهورة في هذا الفن، وقد عم استعمالها في آثار المصريين، حتى لتكاد أن تكون رمزا عليهم، ولم يقتصر اتخاذها للزخرف في مصر وحدها بل إنها سرت إلى الأقطار التي كانت تجاور مصر في العهد القديم، فوجد لها أثر في غالب فنون الأقطار الأخرى، وهذا الأثر كان على الدوام تابعا لما عرف عنها في مصر، بحيث إن التنقيح الذي يأخذ به الرسام المصري كان ينقله عنه الرسامون في الأقطار الأخرى.
وقد ظهرت هذه الزهرة في الزخارف القديمة أي قبل الأسر الفرعونية ثم في التيجان ورءوس الأعمدة، وقد أكثر المصريون من التفنن في أوضاعها وهي مفردة أو مع ساقها أو كانت ترسم إلى جوار زهرة البردي بحيث تتناوبان الزينة واحدة بعد أخرى.
واللوتس هو الذي يعرف باسم البشنين الآن أو أن هذا النبات نوع منه، أما البردي فلا ينبت في مصر ولكنه منتشر الآن في أعلى النيل، والبردي هذا هو الذي كان يصنع من سيقانه ورق الكتابة عند أسلافنا من وريقتين ملتفتي الأطراف اليمني واليسرى، وفي وسطهما وريقة ثالثة كأنها ترى بأصول المنظور، فكان هذا الوضع في الزهرة أقرب إلى أن يجعلها شبيهة بالزنبق، حتى إن كثيرا من العلماء في بادئ الأمر ظنها كذلك، ثم زاد المصريون على ذلك الوضع بأن جعلوا الوريقة الوسطى أكثر من واحدة، وأن مدوها إلى أطول من الأخريات، وأكثروا منها حتى أخذت شكل «المروحة».
ويمكن القارئ بالنظر إلى الصورتين الطبيعيتين لزهرة البردي وزهرة اللوتس في الرسم الأول أن يميز الرسوم التالية فيجد فيها تنقيحا للأولى أو الثانية.
وقد وصف الأستاذان أحمد يوسف ويوسف خفاجي في كتابهما عن الزخرفة المصرية القديمة نبات البردي بقولهما:
نبات ذو ساق طويلة قوية، تخرج في خطوط مستقيمة، بعكس ساق اللوتس القصيرة الضعيفة ... وتنتهي الساق بزهرة تتفتح بخيوط كثيرة صفراء تشبه «ذقن الباشا» أي زهرة اللبخ، وقد تفنن المصري القديم في اتخاذ هذه الزهرة كوحدة زخرفية على أشكال شغلت مقدارا عظيما من زخارفه.
ومن البردي صنع المصريون الورق، بشق السيقان إلى شرائح أخرى، في شكل الشبكة، ثم الضغط عليها جميعا وهي خضراء، فيحصلون على صحيفة من الورق هو ما عرف بورق البردي.
وظهرت زهرة البردي في الزخارف المصرية، بجانب اللوتس، متمشية معها في كل أدوار تاريخها، فهي قديمة ومألوفة كاللوتس سواء بسواء، وقد تراها مثلت دورا هاما في التاريخ المصري، منذ أن جعلها المصريون القدماء رمزا على الوجه البحري، فكانت توضع مع اللوتس في عقدة بشكل خاص لترمز معها إلى اتحاد الوجهين تحت حكم الملك.
وإذا نظرنا إلى شكل تلك الزهرة في الطبيعة وقارناها بشكل تلك الوحدة التي أخرجها الفنان.
إغريقيا المهد الثاني للحضارة
مصر هي المهد الأول للحضارة، هي التي اخترعت الزراعة واكتشفت المعادن ونحتت الحجر وشيدت المباني، وأوجدت الأسس الأولى للدين والاجتماع والقانون، ولكن إغريقيا هي المهد الثاني للحضارة، هي التي عممت التجارة والنقود وأقامت حكومة المدينة الديمقراطية بدلا من حكومة القطر الأتوقراطية ووضعت الرأي فوق العقيدة وبدأت حركة التفكير الحديث.
حضارة الفراعنة هي حضارة الزراعة، وحضارة الإغريق هي حضارة التجارة.
للمصريين ديانة وعقائد جزمية، وللإغريق فلسفة وآراء فرضية.
ونحن حين نقرأ مخلفات المصريين القدماء نشعر أننا في عالم قديم لا ننفصل منه انفصالا كميا فقط بل كيفيا أيضا، أما حين نقرأ مخلفات الإغريق فإننا نجد فيها روح العصر الحديث، وليس في عصرنا الحاضر من النهضات الاجتماعية المختلفة ما لا نجد بذرته الأولى عند الإغريق؛ فإن الحركة النسوية الحديثة والدعوة إلى الاشتراكية وتوحيد الأمم في حضارة واحدة وتأصيل الإنسان بالتزاوج والديموقراطية والفاشية والبحث العلمي والمضاربة الفلسفية وحركة العري والدعوة إلى الرياضة والجمال والرحلة من أجل العلم، كل هذا كان يعرفه الإغريق وقد عقدوا له المناقشات الحادة ولكن مع عظم هذا الفرق بين المصريين والإغريق القدماء نجد حلقات للاتصال تصل بين حضارتي مصر وإغريقيا. •••
إن الذي يثبته التاريخ أن حضارة مصر القديمة دخلت الجزر الأيونية أو اليونان جملة مرات؛ ففي المرة الأولى اكتسحتها الموجة الأولى التي خرجت من مصر في الدولة القديمة فعممت الآرام التي بنيت محاكاة للقبور المصرية الفرعونية وانتشرت معها الزراعة واستنباط الذهب والنحاس.
ثم خرجت موجة أخرى من مصر إلى كريت ثم إلى أوروبا أيام الدولة الوسطى وقد طغت هذه الموجة على الجزر اليونانية كما طغت على أقسام مختلفة من أوروبا، وكان حظ هذه الجزر أكبر من غيرها لقربها من كريت ولبنان حيث كانت جالية أو جاليات مصرية تقيم فيها وتتصل بالإغريق.
ثم جاءت الموجة الثالثة وهي أهم الثلاث أيام الأسرة السادسة والعشرين في عصر إبساماتيك بل قبله وبعده، وهنا زاد الاتصال بين المصريين والإغريق حتى أنشئت مدن إغريقية في الأقاليم الشمالية من مصر واتصلت التجارة بين القطرين حوالي سنة 700 قبل الميلاد، وأساطير الإغريق تقول أن أسرة ملوكية مصرية كانت تحكم الإغريق أنشأها دانوس، وسواء أصحت هذه الأسطورة أم لم تصح فإنها تدل على أن الإغريق كانوا يرون من الصلة بين القطرين ما يبررها. •••
وليس هناك شك في أن رجال الفن والأطباء والفلاسفة الإغريق كانوا يحجون إلى مصر وينقلون عنها، بل لقد دخل فيثاغورس في نظام الكهنة في طيبة وعاش في مصر أكثر مما عاش في وطنه، والمشهور عن أفلاطون أنه زار مصر، ويعد طاليس أول فلاسفة الإغريق «600 ق.م.» وهو الذي يقول إن الماء أصل جميع الأشياء كما كانت عقيدة مصر التي تنص عليها ديانة أوزوريس.
وقد نقلت الأرباب المصرية إلى إغريقيا، مثل الرب الراقص بيس، بل إن هيكات ربة السحر «عكاظ العربية» الإغريقية مشتقة من لفظة هيكا المصرية بمعنى السحر، وقد نحت الجعل «الجعران» في الجزر اليونانية على الطريقة المصرية، والتماثيل الإغريقية الأولى نحتت على النمط المصري: الذراعان ترسلان والقدم اليسرى تتقدم قليلا على اليمنى.
وكثير من الأساطير التي ذكرت في إلياذة هوميروس يمكن الاهتداء إلى أصولها في القصص القديمة. •••
وكان من حظ الإغريق وهم في بداية نهضتهم أن اتصلوا بالمصريين في العهد الصاوي أي الأسرة السادسة والعشرين؛ فإن هذه الأسرة عادت تصبو إلى الدولة القديمة، وتنقل مومياءات فراعنتها من شمال الدلتا إلى مقابر الملوك عند الأهرام، وتنحت التماثيل على طريقة الفراعنة في عصر الأهرام، وهذه الطريقة تشترط التزام الطبيعة دون تكلف القواعد الموروثة، وأخذ الإغريق بهذه الطريقة وارتقوا بها إلى أن بلغوا الذروة في النحت.
والحضارة المصرية في عهد إبساماتيك كانت بعيدة بعدا عظيما عن حضارة الفراعنة أيام الأهرام، فقد كان الملك حوالي سنة 3000 ق.م. زعيما للزراعة قبل كل شيء، أما حوالي سنة 600 أو 700 ق.م. أيام إبساماتيك فقد استحال الملك للتجارة ولذلك فإن الحضارة الصاوية التي تذكر في مصر حوالي سنة 7000 أو 6000 ق.م. هي المهد الطبيعي للحضارة الجديدة الإغريقية. •••
تعددت الطرق التي انتقلت بها حضارات مصر إلى إغريقيا، ولكن ليس شك في أن جزيرة كريت كانت أعظم هذه الطرق، فإنها تقع بين بلادنا وبين شبه الجزيرة، وإذا نحن تعمقنا قليلا في بحث الآثار في كريت ألفينا البراهين القاطعة على أن كريت كانت عيالا على مصر في كل ما عرفته من حضارتها المينوية كما يسميها السر آرثر إيفانز.
وأول ما يستغرب في هذه الجزيرة أنه ليس فيها ما يدل على أن سكانها عاشوا في العصر الحجري؛ فإن أول السكان عرفوا الزراعة، وهذا يدل على أن الجزيرة لم تكن مسكونة مدة العصر الحجري القديم وأن الناس رحلوا إليها على السفن، ولما كان المصريون هم الذين اخترعوا السفن والزراعة فإن المعقول أنهم هم أيضا الذين رحلوا إلى كريت وسكنوها لأول عهدها بالإنسان ونقلوا معهم الحضارة الزراعية. •••
والإغريق يذكرون مينو كأنه أسطورة قديمة في كريت، ولكن أبحاث السر إيفانز قد أثبتت أن عصر مينو هو الثمرة اليانعة لحضارة قديمة مضى عليها أكثر 2000 سنة وصلت كريت من مصر حوالي سنة 3500 قبل الميلاد وقبل الأسرة الفرعونية.
وقد وجدت أسلحة من النحاس وآنية من المرمر، إما أنها قد استوردت من مصر قبل عهد الأسر وإما أن الجاليات المصرية قد صنعتها في هذه الجزيرة. •••
ومما يلاحظ مع الاستغراب أن المصريين كانوا يرسمون الزنوج والحيثيين وغيرهم من أبناء الأقطار الأجنبية كأنهم أجانب يراد تهزئتهم، أما الكريتيون فكان المصريون يرسمونهم كما يرسمون أنفسهم بدون هذه النزعة الكاريكاتورية، مع تخفيف ألوانهم.
وملابس الكريتيين تشبه كل الشبه ملابس المصريين قبل عهد الأسر، وشعر المرأة يضفر ويرسل على الظهر كما كان الشأن عند النوبيين.
وهناك أداة لها قيمة في الشعائر الدينية هي الفأس المزدوجة، وقد وجدت لهذه الغاية في كل من مصر وكريت، كما أن العجل قدس فيها، والصليب المصري القديم «أنخ» قد عرف في القطرين أيضا. •••
ومن أعجب ما يروى في تاريخ كريت أن الانحطاط كان يصيبها على الدوام عقب الانحطاط الذي كان يصيب مصر، وحينما تكون في مصر نهضة تكون أيضا في كريت نهضة لأن الارتباط كان قويا بينهما والتجانس في الحضارة تاما والعلاقات متصلة، وبين كريت وبين إغريقيا عشرات من الجزر وقد وجد في واحد منها وهي سفنوس قدور عليها رسم سفينة مصرية، ومثل هذا الرسم وجد أيضا في نقادة بالوجه القبلي.
ويمكن أن نزيد من الأمثلة للدلالة على أن حضارة مصر التي استقرت في كريت قد انتقلت إلى الجزر اليونانية ومنها إلى شبه الجزيرة في الثلاثة الآلاف من السنين التي سبقت الميلاد المسيحي، وزاد هذا الانتقال قوة أيام العصر الصاوي في حكم إبساماتيك وبعده. •••
وكما أن حضارة مصر القديمة تفشت في العالم القديم وخرجت موجات متوالية إلى جميع أنحاء العالم وفي عصور مختلفة كذلك تفشت حضارة الإغريق بعد ذلك، وأثر هذه الحضارة لا يزال واضحا في البوذية التي يؤمن بها مئات الملايين من الأسيويين، كما يتضح أيضا في ملابس المتوحشين في أقصى حدود آسيا فإن كساء الرأس الذي نعرفه عن بركليس يتخذه المتوحشون الآن في بعض أنحاء آسيا.
وتفشي الحضارة الإغريقية هو برهان غير مباشر على تفشي الحضارة المصرية القديمة؛ فإن الإنسان ليس حيوانا مدنيا بالطبع وإنما هو يتمدن بالتطبع، والظروف التي تبعث على إيجاد حضارة جديدة قليلة جدا وهي لا توجد في كل قطر، فليس في كل قطر «نيل» يعلم الناس الزراعة ويجبره على تعلمها.
واختراع النقود الذي جعل التجارة تنتشر أيام الإغريق وتنشئ حضارة جديدة هي حضارة المدينة المستقلة لا يمكن أن يتكرر في كل زمان أو مكان.
وحسبنا أن نتأمل في هاتين الحقيقتين البارزتين أمام أعيننا وهي كيف أن الثقافة المسيحية انتشرت في القارات الخمس، وكيف تم ذلك أيضا للثقافة الإسلامية؛ فإن ثقافة مصر القديمة قد وصلت إلى أمريكا الجنوبية والوسطى على نحو ما وصلت الثقافة الإسلامية جزر فيليبين في المحيط الهادي مع أنه لم يمض على الإسلام سوى نحو 1300 سنة، في حين أن تاريخ الحضارة المصرية القديمة لا يقل عن 6000 أو 7000 سنة قبل الميلاد.
التضحية البشرية قبل عهد الفراعنة
ليس الانفصال القائم الآن بين الملوكية والألوهية قديما؛ فإن الاثنتين كانتا في بداية التاريخ متصلتين موحدتين، فقد كان الملك هو الإله والإله هو الملك، بل هذا هو الحال القائمة الآن في اليابان فإن الإمبراطور هناك إله اليابانيين الذي يجب أن يعبد، وكان الفراعنة آلهة مصر، وكلنا يذكر كيف أن الإسكندر المقدوني حين قدم إلى مصر رحل إلى واحة سيوة حيث أقيمت له الشعائر التي جعلته ابنا للإله أمون، ولم يكن الإسكندر حين تجشم السفر إلى هذه الواحة وقطع الصحراء يمزح أو يخدع المصريين أو الإغريق، بل الحقيقة أنه كان يؤمن بأنه ابن الإله وأنه أصبح بما أقيم له من الشعائر في المعبد في عداد الآلهة. ونحن نستبعد هذه الفكرة عن أذهاننا لأننا نشأنا في القرن العشرين، وفكرة الألوهية مجردة عندنا عن المادة ولكنها لم تكن كذلك قبل 2500 سنة سواء في مصر أم اليونان، وكان الملوك آلهة كما كانوا أبناء الآلهة، والسمات والأخلاق البشرية واضحة كل الوضوح في آلهة الإغريق.
فإذا كانت هذه حال الناس قبل 2500 سنة وفي أيام الإسكندر وحضارة الإغريق فكيف كانت حالهم قبل 7000 سنة حين كانت الأفكار والعقائد في طور التكون واللغة ناقصة عن التعبير ولفظة الملك ترادف لفظة الإله؟
إننا حين نقول إن المصريين أصل الحضارة يجب أن نتخيل هذا الشعب المصري وهو يجاهد الطبيعة ويحتال على فهم الدنيا بأفكار بدائية لا تسعف على التفكير الناضج، وأنه جاهد آلاف السنين قبل أن يصل إلى عهد الفراعنة؛ فالملك مينا ليس أول الملوك بل لعله قد سبقه نحو مئة ملك أو أمير مهمته الأصلية أن يكثر من المحصولات ويمنع المرض والموت عن الأمة، فإذا كثر الوباء في أفراد الأمة وتفشى المرض والموت، أو إذا أمحل المحصول عزي ذلك إليه لأنه هو الإله المتصرف بالبلاد.
فما هو منطق هذه الحال عند المصري البدائي قبل عهد الفراعنة وما هي نتيجة هذا المنطق؟
هو أن الملك أي الإله ما دام في صحة تامة وله من شبابه قوة وعافية فإنه سيحتفظ بهذه الصفات للأمة التي يحكمها كما يحتفظ بها للمحصولات، أما إذا نشب به المرض أو اعتراه الضعف أو حلت به الشيخوخة فإنه لن يقدر على أن يكسب أمته صحة أو المحصولات وفرة؛ وإذن يجب أن يقتل لكي يتولى العرش غيره من الشبان الأقوياء الأصحاء.
ولم نجد في مصر ملكا مقتولا لأننا لم نجد ملوكا قبل الفراعنة، ولكنا نستنتج هذا القتل من جملة أشياء:
أولا:
أن الرواية المصرية القديمة تقول إن الرب أوزوريس قد قتل، وكان عيده السنوي ينحصر في موته ثم قيامه من بين الأموات ... وهذا الرب كان لا بد ملكا من ملوك مصر قبل الفراعنة.
الثاني:
أن عادة قتل الملوك تفشت من مصر إلى الأمم الأخرى في الطور الأولى من الحضارة المصرية، وقد كان ملوك إثيوبيا يقتلون إلى عصر الرومان .
الثالث:
أن قتل الملوك كان جاريا إلى عهد قريب في السودان، وكان الملك إذا أحس بالضعف رضي بالقتل حتى لا يصيب الضعف شعبه؛ إذ هو المسئول عن الزارعة وعن صحة الشعب.
الرابع:
أن التضحية البشرية مورست في عهد قديم في مصر، ثم ترقى الشعب، ولكن أحد الحكام المصريين في السودان عاد إليها فوجدت الضحايا البشرية في قبره لأن الوسط السوداني الذي كان يعيش فيه لم يكن متدرجا في الرقي مع الحضارة المصرية بل وقف عند طورها الأول.
الخامس:
أن مانيتو المؤرخ المصري ذكر أن المصريين كانوا يحرقون رجلا أصهب الشعر ثم يذرون رماده، وأن هذه التضحية البشرية كان يضحى بها على قبر أوزوريس.
وتفسير هذه التضحية أن أوزوريس هو رب القمح، والقمح أصفر أصهب فالرجل الأصهب يمثل أوزوريس الذي كان ملكا وربا وقتل من أجل الزراعة.
فالمصريون عرفوا التضحية البشرية - قبل عهد الفراعنة - في الملوك، وعرفوها بعد الفراعنة في أفراد آخرين، ولن نكسب مجدا بأن ندعي أن أسلافنا لم يعرفوا التضحية البشرية وأنهم كانوا أعمق ذهنا وأسمى عواطف من ارتكاب هذه الجناية؛ فإنهم كانوا مبتدئين يتحسسون العقائد والآراء لزيادة صحتهم ووفرة محصولاتهم، وقد هداهم ذهنهم إلى أن الملك هو المسئول عن الصحة والبركة، فإذا أهمل وجب قتله، ثم أذاعوا هذه العقيدة في أنحاء العالم حتى لقد نرى لها أثرا في أوروبا نفسها الآن حيث تقام حفلات تومئ إلى قتل الإله أي الملك، وملوك السودان وهم أقرب الملوك المتوحشين إلينا مارسوا هذه العادة وربما لا يزال بعضهم يمارسها إن لم تكن الحكومات الأوروبية قد منعتها، وكتاب الغصن الذهبي الذي ألفه فريزر يقوم على هذا الأساس وهو قتل الملوك. •••
أما كيف تخلص المصريون من هذه العقيدة السيئة وكفوا عن قتل ملوكهم فلسنا نعرف على التحقيق الدرجات التي ارتقوا عليها، ولكنا نجد أيام الفراعنة أنهم اهتدوا إلى طريقة لرد الشباب إلى الملك في الشعيرة الخاصة برمي السهام عن القوس إلى الجهات الأربع، وفي التتويج حين يتخذ الملك لباسا وتاجا وتقام له صلوات وتؤدى شعائر، وحفلة التتويج هذه هي نفسها التي ترى إلى الآن في زواج الأقباط؛ فإن العروسين يمنحان حياة جديدة أساسها الصلوات والأدعية والشعائر التي تؤدى لهما وهما في ملابس وتيجان ملوكية، والمعقول أن تنتقل هذه الحفلة من الملوك إلى الخاصة ثم إلى العامة.
والملك القديم حين كان يعبد من أفراد الشعب لم تكن العبادة لشخصه كأن له فضلا على الأمة، بل كان خدمة من هؤلاء الأفراد له حتى تعود إليه الصحة لكي تنتقل منه إلى الأمة والمزروعات.
قصة الرب أوزوريس
الأساطير القديمة هي التاريخ المزخرف، وهي تقوم على حقائق زينها الخيال أو شوهها الخوف، ولكن المتأمل لها في ضوء البيئة الجغرافية والتاريخية يستطيع أن يجد الحقائق من أوهام الخيال والخوف، وفي أسطورة الرب أوزوريس حقائق كثيرة تجعلنا نقف على نشأة الحضارة في مصر، ومن هذه الأسطورة يمكننا أن نخرج بهذه النتائج الثلاث: (1)
أن المصريين قتلوا ملوكهم الأولين. (2)
أن الألوهية الأولى عندهم نشأت من الملوكية واندغمت الاثنتان. (3)
أن المهمة الأولى للملك والإله في الحضارة المصرية الأولى كانت الزراعة والخصوبة والتقويم الزراعي.
وقد كتب كثيرون من الكتاب الإغريق المتأخرين مثل فلوطرخس قصة أوزوريس، ولا بد أن فلوطرخس اعتمد فيما كتبه على بعض المصادر المصرية، وقد وجد في أسلافنا ما يؤيد كثيرا مما قاله، وهذا الذي نذكره فيما يلي لخصناه عن جملة فصول في «الغصن الذهبي» لفريزر.
وأوزوريس هو أقدم الأرباب المصرية وأحبها إلى قلوب المصريين القدماء، ويؤثر عنه أنه هو الذي أضاف الأيام الخمسة أو الستة على السنة القبطية لكي تصبح سنة شمسية؛ وذلك أن السنة المصرية القديمة كانت قمرية كل شهر منها ثلاثون يوما كما هو الشأن عند جميع الأمم البدائية، ولكن هذه السنة القمرية لا توافق الزراعة لأن الأشهر لا تتفق ودورة الأرض حول الشمس، والمأثور أن أوزوريس هو الذي أضاف هذه الأيام الخمسة أو الستة لكي تلاءم الزراعة.
ويؤيد ذلك أن التقاليد تقول إنه ولد في أول يوم من هذه الأيام التي تعرف للآن باسم أيام النسيء وقد سمع صوت عظيم يدوي في أنحاء البلاد وقت ولادته يقول «ملك عظيم قد ولد» هو أوزوريس.
وتزوج أوزوريس أخته أسيس على نحو ما كان يفعل الفراعنة، ثم تولى الحكم ملكا على الأرض وأخرج المصريين من البداوة وسن لهم القوانين وعلمهم عبادة الآلهة، وتزيد الأسطورة على ذلك زيادات منها أن المصريين كانوا يأكلون البشر، ولكن أسيس في جولاتها في البرية أو الغابة اكتشفت القمح والشعير وعلم أوزوريس المصريين زراعتهما فكفوا عن أكل البشر، وكذلك علمهم جني الأثمار من الشجر وربى الكرمة على العريش وداس الزبيب والعنب لاستخراج الخمر.
ثم شعر أوزوريس بحاجة العالم كله إلى هذه البركات فترك الحكم لأخته وزوجته أسيس في مصر، ثم خرج فجاب أنحاء العالم ينشر الزراعة والحضارة، وكان يعلم الناس استخراج الجعة من الشعير إذا وجد أن الأرض لا تصلح لغرس الكروم.
ومن هذه الخلاصة يدرك القارئ أن أسلافنا كانوا يعرفون ما اهتدى إليه العلماء المصرلوجيون الآن وهو أن أسلافهم قد اخترعوا الزارعة ونشروها في أنحاء العالم. •••
وتستطرد الأسطورة إلى ذكر الغيرة التي دبت في صدر سيت «شيت» شقيق أوزوريس، فقد غار منه وحسده على المكانة التي بلغها، ففكر في هلاكه وذلك بأن عمد إلى أوزوريس فقاس جسمه طولا وعرضا ثم صنع نعشا على هذا القياس، ودعاه إلى الشراب مع بعض الإخوان، وقعد الجميع يأكلون ويشربون ويقصفون، وعندئذ أحضر سيت النعش أو الصندوق، ونهض كل منهم يقيس الصندوق على جسمه فلا يجد أنه يوافقه، وأخيرا نهض أوزوريس وفعل فعلهم فحواه الصندوق وهب عندئذ سيت فألقى الغطاء عليه ودقه ولحمه بالرصاص المصهور ثم حمل الصندوق وألقاه في النيل.
وبلغ الخبر أسيس زوجته وأخته فجزت خصلة من شعرها واتخذت الحداد وسارت على شاطئ النيل تجوبه لكي تهتدي إليه، وقادها السير إلى الوجه البحري حيث مناقع البردي وكانت في صحبتها سبع عقارب، ووقعت على الأرض منهوكة من الإعياء أمام كوخ تسكنه امرأة فقيرة، وهي كذلك وإذا بعقرب من هذه العقارب قد تركتها ودخلت الكوخ متسللة إليه من تحت الباب فوجدت ابن هذه المرأة فلسعته وقتلته، فصرخت الأم وولولت فالتفتت أسيس ونهضت إليها ووجدت الطفل المقتول فرقته رقية ردت إليه الحياة.
وفي هذه الأثناء تلد أسيس ربا صغيرا فتسميه هورس، فتخفيه عن عمه لأنها تعرف ما ينطوي عليه من النية السيئة لابن أوزوريس، ولكن إحدى العقارب تلسع هورس، وتحاول أسيس أن تبرئه من السم فتستجير بالرب رع الذي يستجيب لندائها فيبعث إليها بالرب توت الذي ما زلنا نحفظ اسمه في شهورنا القبطية فيلقنها رقية تعيد بها الحياة للموتى، ويحيا هورس. •••
ويكون الصندوق الذي يحوي جسم أوزوريس قد حمله التيار في النيل إلى أن خرج به إلى البحر المتوسط، فما يزال تتخبطه الأمواج إلى أن بلغ بيبلوس على شواطئ سوريا، وهناك تنبت عليه شجرة يراها الملك فيعجب بها.
وتعرف أسيس أن الصندوق وصل إلى بيبلوس فتهرع إليها وتقعد هناك إلى جنب بئر، فتأتي خادمات القصر ووصيفات الملكة فترى أسيس قاعدة ولها عطر يفوح وعلى رأسها شعر مرجل يأخذ العين، فيذهبن إلى الملكة ويخبرنها فتدعوها الملكة لكي تزينها، وهناك تغري الربة أسيس ملكة بيبلوس لكي تطلب من زوجها أن يقطع جزع الشجرة الذي نبت فوق الصندوق ويضعه في المعبد، وتقول الأسطورة إنه إلى الآن لا يزال هذا الجزع يعبد في بيبلوس.
ولما رفع الجزع ظهر الصندوق فأخذته أسيس وأبحرت به في زورق، ولما بعدت عن الشاطئ فتحت الصندوق وضمت جثة زوجها أوزوريس على صدرها وقبلته وبكت وبقيت على ذلك إلى أن بلغت مصر، وهناك تذكرت ابنها هورس فتركت الصندوق وقصدت إلى ابنها لكي تراه.
ولكن سيت عرف أن الصندوق قد ترك وهو وحده ليس من يحرسه، فقصد إليه وأخرج الجثة ومزقها حتى صارت أربعة عشر شلوا، وأخذ الأشلاء فوزعها في أمكان مختلفة من النيل، وبلغ الخبر أسيس فسارعت وصنعت لنفسها رمثا من البردي وسارت به في النيل تجمع الأشلاء، ولأن أسيس ركبت رمثا من البردي تقول الأسطورة إن المصريين لا يزالون إلى الآن آمنين من التماسيح إذا ركبوا أرماث البردي في النيل.
وجمعت أسيس الأشلاء وصارت تدفنها شلوا بعد شلو في بلاد مصر، ومن هنا السبب في أن للرب أوزوريس قبورا مختلفة متعددة في أنحاء مصر. •••
هذه أسطورة الرب أوزوريس كما رواها كتاب الإغريق، وقد وجد في معبد دندرة ما يؤيدها، وتزيد الآثار على ذلك بأن الرب رع هو الذي يجمع أشلاء أوزوريس والربة أسيس هي التي تنفخ فيه الحياة فيحيا ولكن في العالم الثاني.
وتمثال أوزوريس لهذا السبب يصنع بهيئة المومياء أي الجثة المحنطة الملففة بالأقمشة، وعلى رأسه تاج وفي يده صولجان، وكان كل ميت عند المصريين القدماء يسمى أوزوريس وكان كل ميت يكتب له الخلود ما دام محنطا. •••
هذه خلاصة القصة أو الأسطورة، وهي تدل على أن أوزوريس كان ملكا له تاج وصولجان، وأنه قتل لأنه خشي عليه من الشيخوخة أو المرض إذ هو الذي يحدث الخصوبة في الأرض فما دام شابا فهو قادر على إحداث الخصوبة، أما إذا أسن وشاخ فإن القحط يصيب الأرض، وإذن قتل لكي يتولى مكانه شاب آخر.
أما أن أشلاءه دفنت في أمكنة مختلفة في أنحاء مصر فذلك لاعتقاد آخر وهو أنه كان يتجسد في الزرع، وقد سرت هاتان العقيدتان في أنحاء العالم من مصر؛ أي قتل الملوك والتضحية البشرية بدفن أشلائها في أمكان مختلفة لكي تتجسد في الزرع، وقد ذكر المؤرخ المصري مانيتو (أيام البطالسة) أن أسلافه كانوا يضحون كل عام برجل أصهب الشعر (في لون القمح) أيام الحصاد حتى يكثر المحصول، وكان المصريون في حصاد القمح ينوحون ويولولون، وهذا مستغرب لأول وهلة لأن وقت الحصاد يجب أن يكون وقت فرح، ولكن هذا النواح كان معللا بقتل الرب أوزوريس الذي يمثله الرجل الأصهب.
وربما تكون «عروس النيل» أي التمثال الذي يصنع على هيئة إنسان ثم يلقى في النيل يمثل أوزوريس من حيث إنه رب الزراعة إذ كان يوضع في رأس هذا التمثال عود من الذرة.
حكم أمينوموب
معظم الأمثال والحكم الشائعة عند الأمم القديمة ومعظم الأساطير تعود إلى أصل مصري صريح أو منقح؛ فإن الكلمة العربية التي اختلف فيها بعض الكتاب وهي «القتل أنفى للقتل» قد أثبت الأستاذ عبد القادر حمزة أنها مصرية قديمة، وقصة الطوفان التي روتها التوراة حافلة بالألفاظ المصرية التي تنم عن أصلها حتى لفظة الطوفان نفسها مصرية وليست عبرية، وكثير من قصص هوميروس اليوناني يعود إلى أصل مصري، وفي حكم أمينوموب التي تعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد نرى أن إدراك المصريين للضمير والشخصية قد بلغ القمة، ونعني هذه الحكم التي ترجمت إلى العبرانية وكانت ينبوعا عظيم الخطر لكتاب الأمثال، ومقابلة بسيطة لحكم أمينوموب وللأمثال التي تعزى إلى سليمان الحكيم تتبين لنا هذه الحقيقة في وضوح وجلاء:
حكم أمينو موب
الأمثال
أمل أذنك لتسمع تعليمي وهيئ قلبك لفهمها ومن المنفعة أن تضعها في قلبك والويل للذي يخالفها.
أمل أذنك واسمع كلام الحكماء، ووجه قلبك إلى معرفتي؛ لأنه حسن أن حفظتها في قلبك.
لا تزل معالم الحدود في حقل، ولا تكن جشعا في سبيل ذراع من الأرض، ولا تتعد حدود أرملة.
لا تنقل التخوم القديم، لا تدخل حدود الأيتام.
لا تتعب نفسك في طلب المزيد، إذ تكون حاجتك مقضية.
لا تتعب نفسك لكي تصير غنيا، هل تطير عينيك نحوه وليس هو.
إذا كانت الثروات تأتيك بالسرقة فلن تمكث معك أثناء الليل، حينما يأتي الصباح لن ترى لها أثرا؛ إذ إنها صنعت لنفسها أجنحة كالأوز وطارت إلى السماء.
لأنه إنما يصنع لنفسه أجنحة كالنسر يطير إلى السماء.
ومن هذا العرض السريع للنصوص المتقدمة نتبين نشوء الأخلاق والشخصية عند قدماء المصريين، وأن هذا النشوء كان مبعثه الاختبار والتجربة الاجتماعية، هو وضع الهيئة الاجتماعية الذي صنع كل هذا وهذا النظر إلى الأمور يفيدنا في أمرين: الثقة بالإنسان وبالقوة الكامنة فيه، والأمل في مستقبل الإنسانية وبعث النشاط الفكري للبحث الحر والنظر المطلق إلى الحياة فدراستنا إذن لتاريخ مصر القديمة هي في الواقع دراسة إنسانية قبل أن تكون دراسة قومية، وفي هذه الدراسات قد رأينا إلى أي حد بلغت العبقرية الإنسانية في الشعب المصري القديم، وإلى أي حد اندس هذا العقل المصري في الإنسانية كلها فملأها وطغى عليها وطبعها بطابع ظاهر أو خفي نحن الآن خليقون أن نتلمس معالمه في كل مكان.
وإذا كان هذا هو شأن العقل المصري فلنا نحن الآن أن نستعيد الثقة بعبقريتنا الكامنة، وأن نضع نصب أعيننا أن العقل المصري الحديث جدير بأن يأتي بما أتى به العقل المصري القديم من المعجزات، فهذا الوجدان الإنساني الذي أشرق نوره في مصر إنما فتنته العناصر المصرية الصميمة، فهو نتاج النيل المصري، وهو نتاج هذه الأرض السوداء الممتدة على جانبيه، وهو نتاج هذه الشمس السافرة، هذه السماء الصاحية الضحوك.
كل هذه العناصر التي نضج بين أحضانها الوجدان الإنساني لم تتغير عما كانت عليه، إذا عرفنا هذا كله وعرفنا أن الدم الذي يجري في عروقنا نحن المصريين المحدثين إنما هو دم أجدادنا العظام؛ أمكننا حينئذ أن نقول إن العبقرية كامنة فينا ستتفجر من جديد يوما ما، وغاية ما نحتاج إليه هو أن نفلح الحديقة كما يقول فولتير.
الماء أصل الحياة
ليس عبثا أن يسمي العرب مني الرجل ماءه، وليس عبثا أن يشتق العرب الحياة من الحيا وهو فرج المرأة، وليس عبثا أن يشتقوا الروح من الريح والنسمة من النسيم والنفس من النفس، فإن العرب كانوا أمة بدائية، واللغة العربية لا تزال مع بقائها حية إلى الآن تحمل بين ألفاظها ما يدل على العقائد الأولى، كما بقي الحجاب بين نساء العرب يدل على العقيدة البدائية وهي أن المرأة ضعيفة يجب أن يتوقاها الرجل وينفصل منها ويجعل لها حرما خاصا لئلا تنقل عدوى الضعف منها إليه فيضعف هو أيضا.
ولننظر في هذه الألفاظ التي ذكرناها في ضوء الثقافة القديمة؛ فإن الإنسان الأول لم يكن يعرف أن الأبوة ضرورية للتناسل فكان يحسب أن المرأة هي الأصل الوحيد للولادة، وما دام الطفل ينزل منها فحياها هو الأصل للحياة؛ ولذلك أصبح الفرج أي الحيا رمزا لطول العمر، ولما كانت الودعة تشبهه صار يجمع الودع ويحمله لكي يطيل عمره ويخصب زرعه، فعل ذلك كله قبل أن يعرف الحضارة، فلما عرفها واهتدى إلى الذهب صار يصوغ الذهب في هيئة الودع، وعندئذ انتقلت خاصة الودع إلى الذهب فصار يطلب لذاته.
ولا يحتاج القارئ إلى توضيح العلاقة بين الروح والريح ... إلخ؛ فإنها واضحة لأن الإنسان البدائي كان يضع يده على فم الشخص وقت النزع، فإذا انقطع الريح فقد خرجت الروح؛ فهذه اللفظة تحريف من تلك.
أما الذي يحتاج إلى بعض الشرح فهو نظرة المصري القديم للماء، فقد رأى من فيضان النيل أنه يعم البلاد ويخرج الزرع فاعتقد أنه الأصل لهذه الحياة النباتية، لهذه البركات العميمة التي يتزود منها بالطعام والكساء. وكلنا يعرف أن الأمم القديمة كانت تعد الماء ضروريا للطهارة، حتى الهندي لا يزال يتطهر بالنزول في نهر الكنج، وإذا مس الإنسان نجاسة تطهر منها بالماء، وليس التطهر لأجل النظافة لأن الغاية صوفية وليست مادية.
اعتقد المصري القديم أن الماء هو الذي يبعث الحياة في الحبة فتنبت، فلما صار يجفف الجثة بالتحنيط احتاج إلى أن يرد إليها الحياة بالتطرية، ووسيلة التطرية هي الماء؛ لأن المومياء كانت بعد عملية التحنيط المادية تحتاج إلى صلوات وأدعية وحركات ترد إليها الحياة في العالم الثاني، فكانت تطريتها بالماء إحدى هذه الشعائر.
وذلك أن المومياء جسم جاف ميت، بل هو «أموت» من الميت، فلكي تكتسب طراءة الجسم الحي يجب أن تبلل وتحرك فتثنى الساقان ويحنى الظهر ويرد الرأس للوراء والأمام وترفع اليدان إلى آخر هذه الحركات التي كان يظن المصري القديم في سذاجته أنه يرد بها الحياة إلى المومياء، وهذه الوسائل التي عرف المصري القديم أو اعتقد أنها ترد الحياة إلى المومياء عاد بمنطق أناني ساذج يستعملها في نفسه، فصار يسكب الماء على جسمه ويحرك ساقيه ويحني ساقيه ويرفع يديه لكي يطيل عمره أو يجدد شبابه، وهذا كله هو أصل الصلاة عند المصري القديم؛ فإنه لم يكن يقصد منها إلى أن يتوسل إلى الرب رع أو الرب أوزوريس، وإنما كان يرى فيها تعويذة أو تعاويذ لإطالة عمره وتجديد شبابه، وقد كان هذا بالطبع قبل أن تستقر عبادة الآلهة، فلما استقرت تطور هذا التطور وأصبح يقوم بكل ذلك توسلا للآلهة.
هذا هو الأصل للميزات التي عزيت إلى الماء في إزالة النجاسة عند المصريين القدماء؛ لأن إزالة النجاسة هي صيغة أخرى لإطالة العمر وزيادة البركات والغلات التي يأتي بها النيل فيحدث الحياة في حبة القمح الميتة، وتحريك أعضاء مومياء هو الأصل لحركات الصلاة عند الفراعنة، وقد استحال تقديم الطعام لمومياء في البر إلى قربان مقدس في المعبد.
وقد عرف المصري البخور، استعمله أولا عند تمثال الميت؛ فإن هذا التمثال حجر جامد، وهو لا يكتسب الحياة إلا بعد عمليات تشبه تلك التي كانت تستعمل مع المومياء، ولكن المومياء يمكن تحريك أعضائها أما التمثال فليس كذلك، فكان المصري القديم يشعل المر والمصطكي وغيرهما فيخرج بخارهما أو «بخورهما» على التمثال فيكسبه من الدفء والعرق ما يجعله شبيها بالجسم الحي، ومن هنا أصبح للبخور قيمة في المعابد المصرية، وما زلنا نستعمله في الرقى لكي يرد العين وينفي الشر، والأصل رد الحياة أو إطالة العمر.
قيمة الحضارة المصرية
هذا هو آخر حديثنا عن هذا الموضوع الذي يشغل بال المؤرخين ويقلب نظرياتهم ويجعل مصر مركزا للحضارة البدائية الأولى، وحديثنا هذا هو أطيب الأحاديث يغذو عقولنا بما فيه من حقائق تبين لنا تطور الاجتماع ونشأة العادات التي لا نكاد نفهم لها أسبابا معقولة لولا الرجوع إلى مصر، وهو يغذو قلوبنا لأنه يضع آباءنا الفراعنة على قمة لم تتطاول إليها أمة من الأمم إذ قد سجل فضل تحضيرهم للناس وإخراجهم من بداوة العصر الحجري إلى عصر الزراعة.
هؤلاء الفراعنة، هؤلاء الآباء هم فخر الإنسانية وسوف يذكرون بالإعجاب بعد آلاف السنين، وسوف تذكر مصر بأنها القطر الوحيد الذي نشأت فيه الحضارة الأولى وعلمت الناس الدين والقوانين والفنون ومبادئ العلوم، وشعب مصر القديم الذي أسدى إلى الإنسانية هذا الفضل هو من السلالة الميديترانية؛ أي تلك التي عاشت حول البحر المتوسط بشواطئه الأربعة سواء في أفريقيا أم آسيا أم أوروبا، ولا يزال أبناؤها حول هذا البحر، وربما يزداد عددهم وتنساح سلالتهم حتى تبلغ الحبشة أو اليمن في الجنوب أو أوروبا الوسطى في الشمال.
وعرفت مصر أو اخترعت فن الملاحة من أزمنة قديمة قبل عهد الأسر، واستطاعت لهذا السبب أن تنشر الحضارة الأولى حول هذا البحر وفي جزره، ولم يكن المصريون يجدون في الأمم البدوية التي تعيش حوله ما يدل على أن هذه الأمم تخالفهم، إلا القليل من خفة اللون في الأمم الشمالية، بل الأرجح أن اللغات أو اللهجات التي كانت سائدة حول شواطئه كانت متقاربة، وهذه الوحدة في السلالة والتقارب في اللغة شجعا المصريين على الهجرة فاستعمروا كريت وانتشروا منها يبحثون عن الذهب والعقاقير والجواهر لكي يحصلوا على المواد التي تتصل بالتحنيط والدفن.
ظروف متجمعة، شعب ذكي من سلالة قوية الأجسام قوية الأذهان إلى نهر يفيض بميعاد فينبت النبات كأنه يريد أن يعلم الناس، إلى بحر كأنه البحيرة التي يعيش حول شواطئها أفراد سلالة واحدة، والبحر بفضل اليابسة من حيث التنقل، لهذه الظروف ظهرت الحضارة في مصر وانتشرت حول البحر المتوسط وفي جزره، وإذا كانت هذه الحضارة الأولى لم تتوغل في أوروبا فلأنها لم تكن ملائمة للمناخ البارد، ولأن وسط أوروبا كانت تقطنه سلالة أخرى هي السلالة الألبية التي تستدير رءوس الأفراد فيها وهذا بخلاف السلالة الميديترانية التي تستطيل رءوس أفرادها. •••
ويمكننا الآن أن نثق أن المؤسسات الاجتماعية الأولى إنما نشأت في مصر ونقلتها الأمم الأخرى عنها إما بهجرة المصريين إلى هذه الأقطار البعيدة وإما عن سبيل آخر لأن النقل يمكن أيضا عن ناقل بعد ناقل، وليس ضروريا أن يكون المصري بالذات هو الذي علم الأمريكيين أو الأستراليين مبادئ التحنيط، وكذلك يجب ألا ننسى أن الفينيقيين حين استعمروا إسبانيا ووصلوا إلى إنجلترا إنما كانوا يبنون كلما حلوا أو رحلوا مبادئ الحضارة التي تعلموها من مصر.
وبذلك يمكننا أن نثق أن عادات «المتوحشين» وما يذكر عن الطبو والطوطم وما يعرفون من الزراعة أو العبادة ليس أصيلا عندهم وإنما هو منقول عن المصريين، وليس هناك معنى لأن تدرس عادات المتوحشين في أنحاء مختلفة في العالم لكي تستخرج منها منطق الإنسان الأول؛ لأن الإنسان الأول ليس متوحشا وإنما هو بدائي، رجل بسيط لا يعرف القتال ولا الزراعة ولا الرق، ولا يفهم معنى الأمة أو الجيش أو العبادة، بل يعيش في الغابة كما تعيش الآن القردة العليا، ولكي نفهم عادات المتوحشين وعقائدهم يجب أن نرجع إلى مصر، أما الطريقة التي اتبعها فريزر في كتابه «الغصن الذهبي» - وهو جمع العادات والعقائد من الأمم المتوحشة المختلفة لكي يستخلص منها المنطق القديم للذهن البشري - فقد ثبت خطأها لأن هذه الأمم لم تخترع هذه العادات والعقائد بل تسلمتها من مصر وأبقتها على أصلها أو شوهتها. •••
ولذوي المزاج الفلسفي أن يتساءلوا: هل أفادت مصر العالم بنشر الحضارة؟
والحق أن هذه مسألة تقبل الشك أو على الأقل تقبل المناقشة وخاصة في هذه السنين التي يحرق فيها المتحضرون القمح والبن واللحم، في حين يعاني الجوع عدد كبير منهم!
وليس بيننا روسو لكي يتغنى بالبداوة وجمال السذاجة، ولكن هل من يشك في أن الإنسان البدائي كان ينعم بحياة قليلة الخيرات ولكنها كانت مع ذلك هانئة قانعة ليس فيها قتل أو اعتداء أو حرب أو رق أو عناء؟
ولكن المصريين قضوا على هذا الهناء، على هذه الجنة التي تذكرها الأساطير القديمة، وعلموا الناس الحضارة فعلموهم القسوة والرق والحرب، وهذا الذهب الذي لا تزال أمم كثيرة تتعامل على قاعدته لم يكتسب قيمته إلا من أساطيرهم الدينية، وأزمة العالم الحاضرة تعزى في معظمها إلى التعامل بالذهب.
أنشأ المصريون الحضارة فعرفوا بذلك مبدأ التضحية البشرية لتوفير المحصولات الزراعية والصحة، وقتلوا ملوكهم الأولين من أجل هاتين الغايتين؛ فكان هذا القتل تدريبا لهم على القسوة.
ثم خرجوا من مصر في البحث عن المعادن فجلبوا الرقيق وأنشأوا في العالم أسوأ عادة عرفها الإنسان وهي استعباد أخيه، ثم أدمنوا التفكير في العالم الآخر وفي إطالة العمر حتى ألفوا للعالم كشكولا من الأساطير والجن والعفاريت والسحر والرقى والتعاويذ، وقد كانت هذه الأشياء ذريعة حسنة للاكتشاف العلمي فعرفت منها مبادئ الكيمياء والفلك والجغرافيا والحساب، ولكنها كانت أيضا سببا لخلافات مذهبية بعثت الحروب والدمار بين الأمم.
كل هذا يجب أن يقال عن الحضارة عندما نقابلها بالبداوة الأولى، ولكن هذا الطور من الحضارة طور القسوة والقتل والأساطير والرق قد مضى أو أوشك.
ونحن مقبلون على طور آخر يقول بالسلم والعلم والحرية والمساواة، ولولا الطور الأول لما كان هذا الطور الثاني، فإذا كان المصريون قد أساءوا إلى العالم بإخراجه من البداوة في زعم روسو وأمثال روسو فإنهم هم السلم الذي ارتقى عليه الإنسان إلى هذا الطور الجديد أي الحضارة الحديثة. •••
وكذلك الأساطير التي فشت في العالم وما تعرفه العامة عن الجن والعفاريت والسحر قد نشأ كله في مصر، وأعظم المردة التي عرفها الأوروبيون هذا المارد القديم هركوليس الذي نسبت إليه مآثر الجبابرة، وقد تعدد الأصل الذي ينسب إليه هذا المارد، إذ وصف بأنه ابن الرب زفس اليوناني، ولكن شيشرون الكاتب الروماني وصفه بأنه ابن النيل؛ فدل بذلك على أصله المصري، ويرى المستر ماسنجهام أن هركوليس هو نفسه «مولوك» الذي كان يعبد في بيبلوس المدينة المصرية في فينيقيا وأنه كان ملكا مدة حياته على الأرض ثم صار إلها بعد وفاته، وقد وصف هركوليس في إسبانيا بأنه ابن الشمس، وهذا هو وصف الفراعنة.
وكان المصريون يمزجون بين أجسام الحيوان والإنسان على ما نرى في الإسفنكس «أبي الهول» ومن هذا الخلط بين الأعضاء نشأت فكرة العفاريت التي لها وجوه إنسانية وحوافر بهيمية وأذناب ومخالب، وتسمى الصين بلاد «التنانين» وليس التنين عندها سوى جسم مؤلف من وجه إنسان وأعضاء إنسان له قدمين في أصابعهما مخالب سبع، وفي يده اليمنى طبرزين وفي اليسرى خنجر وعلى ظهره جناحان، ويرى المستر ماسنجهام أن التنين الصيني يمثل لنا فكرة العفاريت قبل أن يتم نشوءها في الخيال البشري، وهذا التنين الصيني هو إسفنكس مصري قد ناله بعض التنقيح.
بل يمكن أن نزيد على ذلك بأن فكرة الإسفنكس هذه وهي فكرة مصرية بحتة هي الأصل في رسم الملائكة التي تعطى وجوه الناس مع أجنحة الطير على نحو ما كان يتخيل أبناء القرون الوسطى في أوروبا. •••
المصريون هم الذين أكسبوا الذهب قيمته التي تعد أساسا أو أكبر حجر في أساس الأزمة الحاضرة، وهم الذين أوجدوا الحرب والرق والقوانين القاسية، وهم أخيرا الذين اخترعوا هذه الأساطير التي لا يزال يعانيها الإنسان في صور مختلفة.
هذا كله صحيح، ولكن لولاه لما عرف الإنسان الحضارة ولما خرج من الغابة وتعلم الزراعة؛ لأن هذه المساوئ كلها جاءت في غضون حضارة تتألف وتنمو وتتفرع، وهي إلى الآن لم تبلغ آخر حدودها الطبيعية للنمو، وليس شك أنها كلما تقدمت ستتخلص رويدا رويدا من هذه الأشواك.
ويمكن أن تعد الحضارة بوجه ما مرضا من الناحية السيكلوجية ففي كل متحضر «مركب حضارة» يجعله يكسب الأشياء والاعتبارات قيمة بعيدة أو غريبة عن القيم الطبيعية، ويكلف نفسه عناء كبيرا من أجل غايات تعد في نظر الدعاة إلى الطبيعة سخيفة أو عقيمة، ولا بد أن روسو وكاربنتر وتولستوي وغاندي قد داخل أذهانهم شيء من هذه الأفكار عندما جحدوا الحضارة، ولكن غاية الإنسان بل غاية كل حيوان لم تكن قط السعادة التي تتوهمها في البداوة، وإنما كانت التسلط على الطبيعة، والحضارة من هذه الناحية تؤدي إلى هذا التسلط، وإن لم تؤد إلى السعادة، فإذا شئنا أن نقدر خدمة مصر للإنسانية فإنما يكون ذلك بمقدار ما سلطت الإنسان على الطبيعة وزادت قدرته وسيطرته عليها.
كتاب الغصن الذهبي
أصبح كتاب «الغصن الذهبي» من الكتب التي يجب أن تقتنى وتدرس كما تقتنى الكتب القديمة؛ فإنه يعالج موضوعا توشك مادته أن تزول من الدنيا فلا يبقى لها أثر يستطيع الإنسان أن يرجع إليه ويحقق أصوله وفروعه، وذلك أن موضوعه يتناول عادات المتوحشين في أنحاء العالم وعقائدهم وما يمارسونه من السحر والرقى والعبادات، وما يلتزمونه من عادات في الزواج أو الولادة أو الوفاة أو الزرع أو غير ذلك، وهؤلاء المتوحشون تغيرهم الحضارة الحديثة وتنسيهم توحشهم؛ فإن حكومة السودان مثلا قد منعت ملكا من أن تقتله رعيته مع أن الرجل كان راضيا بالقتل يطلبه لأنه شاخ وخشي أن تزول عن رعيته البركات بشيخوخته، والحكومة البريطانية قد منعت في الهند إحراق الأرملة، والنهضة الصينية الحديثة تمحو عادات الجدود وتحطم الأصنام، والحكومة الأمريكية في فيليبين تحارب زعماء القبائل الذين يخرجون في قتل الناس لجمع الجماجم، ثم هناك هذا الانقراض الذي يصيب القبائل المتوحشة أو البدائية إذا احتكت بالمتمدنين.
وقد كان هذا التطور في حياة المتوحشين أو هذا الانقراض على أقصاه في السنين الماضية، ولكن شاء الحظ الحسن لجميع من يحبون الثقافة أن يرصد رجل إنجليزي حياته منذ الشباب لجمع هذه العادات والعقائد لكي يستضيء بها الباحث في نشأة الذهن البشري وأصول العقائد الأولى، وهذا الرجل هو السر فريزر الذي بلغ الثمانين من عمره هذا العام والذي ألف كتاب «الغصن الذهبي» في نحو 12 مجلدا ثم اختصرها في مجلد يبلغ 756 صفحة، وهو المجلد الذي قرأته وأعتقد أنه يجب ألا تخلو منه مكتبة رجل مثقف.
وأقول هذا وأنا مع ذلك لا أومن بأن النظرية التي يدافع عنها السر فريزر صحيحة؛ فإنه يقول بأن الأذهان البشرية تسير على منطق متشابه، فإذا تساوت الظروف من حيث البيئة والحاجة الإقليمية فإن الذهن يستجيب لها بعقائد أو آراء في مصر كما في إنجلترا أو الصين أو أفريقيا الجنوبية، وإننا لهذا السبب نجد مبادئ السحر التي يمارسها الزنجي في أفريقيا هي نفسها المبادئ التي يمارسها المتوحش في جاوة أو سومطرة أو أمريكا الجنوبية؛ ذلك لأن الإنسان المتوحش في هذه الأقاليم المختلفة قد اصطدم ببيئة متشابهة فاستجاب لها بآراء وعقائد متشابهة.
السر فريرز.
هذا ما يقوله فريزر، وهو بكلمة أخرى يتلخص في أن الثقافات البشرية الأولى قد تولدت في أماكنها المختلفة مستقلة، ولكن الرأي السائد الآن بين معظم الأنثروبولوجيين - أي الذين يبحثون عادات الإنسان البدائي أو المتوحش - يقول بأن هذه الثقافات لم تكن مستقلة، وإنما هي نشأت في مصر حيث ظهرت الحضارة الأولى، وخرج فيها الإنسان البدائي من سذاجته فانتشرت حتى وصلت جميع أنحاء العالم تقريبا، ومن هنا التعليل الصادق لهذه المشابهة بل أحيانا المطابقة بين عادات المتوحشين؛ فإنهم تناولوا الثقافة المصرية وهي على درجات معينة من التطور فوقفوا بها لأن البيئة لم تواتهم على الرقي بها، وزعيم هذا الرأي هو السر إليوت سمث، ولكن مهما كانت حماستنا لهذا الرأي فيجب ألا تعمينا عن هذا الحشد العظيم من المعارف التي جمعها السر فريزر في كتاب «الغصن الذهبي».
وعندي أن هذا الكتاب هو أعظم حجة للقائلين بالأصل المصري للحضارة القديمة؛ فإن فريزر عقد فيه أربعة فصول وافية عن الرب أوزوريس وفصلا عن أسيس أخته وزوجته، وهذا الرب هو أقدم الأرباب المصرية أي أقدم الأرباب في الأمم القديمة، والذي يقرأ هذه الفصول يجد فيها البذور الأولى للثقافة الدينية القديمة وللعبادات التي شاعت بعد ذلك بين المتوحشين.
وكتاب «الغصن الذهبي» يحتاج الى وصف موجز لكي يقف القارئ منه على المنحى الذي ينحوه المؤلف في تفكيره؛ فإن أول فصوله هو ملك الغابة الذي كان يعيش في الغابة عند قدماء الرومان، فإذا أسن تقدم إليه شاب وقتله وأخذ مكانه، ثم يبحث المؤلف بعد ذلك في الملوك القسيسين، وقتل الملك عند المتوحشين هو أساس الكتاب، وهو الباعث الذي جعل فريزر يرصد حياته لبحث الموضوعات المختلفة التي يعالجها فيه، وهي مختلفة لأنها تتناول أشياء كثيرة حتى يصح أن يسمى الكتاب كشكولا أنثروبولوجيا كما ترى من عناوين بعض الفصول وهي: السحر بالعدوى، السحر والدين، ضبط الجو بالسحر، السحرة والملوك، الآلهة المتجسدة في الإنسان، بقايا عبادة الشجر في أوروبا، الزواج المقدس، الطبو أي المحرمات في الأعمال والأشخاص والأشياء والكلمات، التضحية بابن الملك، الملك يؤكل، قتل الملك في مكسيكا، أعياد النار في أوروبا، إحراق الناس ... إلخ إلخ.
وثقافة فريزر رائعة فإن القارئ تغمره أبحاثه، وهو إلى هذا كاتب دقيق العبارة جلي الفكرة يسحر بإيجازه وجلائه، وإني أنصح لجميع الذين آمنوا بالأصل المصري للثقافة أن يقرءوا هذا الكتاب لأن النظرية الصادقة يؤيدها الخصم كما يؤيدها الصديق، وهذه الشواهد التي تعد بالمئات والتي يعبئها فريزر في لباقة وترتيب هي البرهان على أن الثقافة فشت في مكان واحد ثم انتشرت منه.
أما الكتب التي تؤيد رأي إليوت سمث فكثيرة، أهمها بالطبع مؤلفات إليوت سمث نفسه، وأهم هذه المؤلفات كتابه الضخم «التاريخ الإنساني» ثم كتاب بيري «أبناء الشمس» الذي يستقصي فيه الرحلة من أجل الذهب والجواهر، ومن أحسن ما يمتاز به بيري هذا البحث الذي تناوله عن «الازدواج» المصري الذي فشا في العالم ثم انقرض؛ فإن انضمام الوجه البحري إلى الوجه القبلي في حكم واحد جعل مهمة فرعون مزدوجة فكان له تاجان ولبيته بابان إلخ.
وفشا هذا النظام بين الشعوب في أنحاء العالم وليس له أي سبب معقول بينهم ما لم يرجع إلى الأصل المصري، وانقرض بينهم لأن الظرف الذي بعث عليه كان محليا في مصر، ومن أحسن الكتب أيضا كتاب برستد «فجر الضمير» الذي يثبت فيه أن المصريين هم الذين علموا العالم مبادئ الأخلاق وأشعروه بأن له ضميرا يحاسب به نفسه قبل أن يحاسب غيره.
صفحه نامشخص