زرت بحنان أثنيوس وباستوريدس وأنطونيادس. جلست وقتا في بهو وندسور وسيسل، ملتقى الباشوات والساسة الأجانب في الزمن القديم، وخير مجال لالتقاط الأخبار ومتابعة الأحداث، فلم أر إلا قلة من الأجانب شرقيين وغربيين. رجعت ولي عند الله دعاءان: دعاء بأن يمن علي بحل مشكلة الإيمان، ودعاء بألا يصيبني بمرض يقعدني عن الحركة فلا أجد من يأخذ بيدي. •••
ما أجمل هذه الصورة النابضة بالشباب! قد وضعت على المقعد ركبة الساق اليمنى وأراحت الأخرى على الأرض، ومالت بجذعها نحو مسند المقعد ملقية معصميها عليه، واستدار وجهها ليواجه الكاميرا باسما معتزا بملاحته، وقد انحسر ديكولتيه الفستان الكلاسيكي الفضفاض عن قاعدة العنق الطويل ونحر منبسط كالمرمر.
كانت قد ارتدت معطفها الأسود والإشارب الكحلي تأهبا لزيارة الطبيب، وجلست تنتظر الوقت المناسب للذهاب. سألتها: أقلت إن الثورة جردتك من مالك؟
فرفعت حاجبيها المزججين وقالت: ألم تسمع بكارثة الأسهم؟
لعلها قرأت في عيني تساؤلا ففطنت إلى ما يدور بخلدي فقالت: ضاع ما ربحته أيام الحرب الثانية. صدقني، لقد ربحته بشجاعتي إذ أصررت على البقاء في الإسكندرية عندما هاجر الكثيرون إلى القاهرة والأرياف خوفا من غارات الألمان، طليت النوافذ باللون الأزرق وأسدلت الستائر، ودار الرقص على ضوء الشموع، ولن تجد من يضاهي ضباط الإمبراطورية في البذل والكرم.
وجدتني وحيدا بعد ذهابها أنظر إلى عيني زوجها الأول وينظر إلي. ترى من قتلك وبأي سلاح؟ وكم من جيلنا قتلت قبل أن تقتل؟ جيلنا العتيد الذي فاق الأجيال جميعا في غزارة ضحاياه. •••
الغناء الإفرنجي لا ينقطع. أقسى ما حكم الزمان به علي في عزلتي. ماريانا أخذت حماما ساخنا عقب عودتها من عند الطبيب، ها هي تجلس ملفوفة في برنس أبيض وقد عقصت شعرها المصبوغ غارسة فيه عشرات المشابك المعدنية البيضاء. خفضت صوت الراديو إلى حد الهمس لتبدأ هي إذاعتها وقالت: مسيو عامر .. لا شك أن لديك مالا وفيرا.
فسألتها بشيء من الحذر: هل عندك مشروعات؟ - كلا، ولكن في مثل عمرك - وعمري أيضا مع الفارق الكبير - لا يتهددنا شيء مثل الفقر والمرض.
قلت والحذر لم يفارقني بعد: لقد عشت مستورا وأرجو أن أموت مستورا. - لا أذكر أنك كنت مسرفا قط.
ترددت قليلا ثم قلت: أرجو أن يكون عمر المدخر من نقودي أطول من عمري.
صفحه نامشخص