ولكنها لم تأت في الحقيقة للمجاملة، أو لم تكن المجاملة إلا وسيلة فحسب، لقد جاءت أصلا للاعتراف، أو لتحقيق الذات عن طريق شفوي. هكذا تطوعت برواية تاريخ حياتها، نشأتها الناعمة المنعمة، حبها وزواجها الأول من كابتن إنجليزي، زواجها الثاني من ملك البطارخ وقصر الإبراهيمية، ثم فترة الانحدار، ولكن أي انحدار؟! كان بنسيون السادة، الباشوات والبيكوات، أيام الحرب.
ودعتني إلى البوح بأسرار حياتي، طوفان من الأسئلة، امرأة غريبة ومسلية ومرهقة، امرأة عند الزوال، لم أشهدها وهي عروس الصالونات، ولكن يمكن تخيلها، على ضوء الفاتنات والطغاة يمكن تخيلها، ولكني لم أعرفها إلا وهي خرابة أثرية تتعلق عبثا بأذيال الحياة.
وعلى مائدة الإفطار تعرفت بالنزلاء. أسرة متنافرة غريبة. وإني لفي حاجة إلى تسلية. إذا تغلبت على ما يشدني إلى الداخل فقد أنعم بصاحب أو بصديق. لم لا؟ لنطرح جانبا عامر وجدي وطلبة مرزوق فهما من جيل راحل. ولكن ماذا عن سرحان البحيري وحسني علام؟ في عيني سرحان جاذبية فطرية وهو ودود فيما يبدو رغم صوته المزعج ولكن ماذا عن اهتماماته؟ أما الآخر .. حسني علام .. فهو مثير للأعصاب، هكذا يبدو لأول وهلة على الأقل، متغطرس الصمت والتحفظ، غاظني بنيانه المحكم ورأسه الكبير المرتفع وتربعه على كرسيه كأنه حاكم، أجل حاكم ولكن بلا ولاية وبلا محتوى، ولعله لا يتبسط في الحديث مع أحد إلا إذا وثق من أنه أتفه منه. وقلت لنفسي: على الذي يرضى بهجر الدير أن يوطن النفس على معاشرة الأرذال. وكالعادة تملكني الانطواء حيال الغرباء. وقلت سيقولون .. سيظنون. وقديما خسرت بذلك الفرض حياتي. •••
دهشت عندما رأيت سرحان البحيري داخلا علي في حجرة مكتبي بالإذاعة. تألق وجهه ببشاشة صديق قديم، ثم صافحني بحرارة وهو يقول: كنت مارا تحت الإذاعة فقلت أسلم وأشرب القهوة.
رحبت به، وطلبت القهوة، فقال: سأطالبك يوما بإطلاعي على أسرار الإذاعة!
بكل سرور يا رجل المصطبة العتيدة التي لم أنعم بالجلوس عليها .. وبإيجاز حدثني عن عمله بشركة الإسكندرية وعضوية مجلس الإدارة وعضوية الوحدة الأساسية. وقلت له: يا له من حماس جميل يعد درسا للمتواكلين.
فنظر إلي بإمعان، ثم قال: إنه طريقنا للمشاركة في بناء عالمنا الجديد. - آمنت بالاشتراكية من قبل الثورة؟ - الحق أني آمنت بها مع الثورة.
ودغدغني ميل إلى مناقشة إيمانه ولكني كبحته. وجرى الحديث إلى البنسيون فقال: إنه أسرة طريفة لا يشبع الإنسان منها.
فسألته بعد تردد: وحسني علام؟ - شاب ظريف هو الآخر. - يبدو كأنه أبو الهول. - في الظاهر فقط، ولكنه ظريف، وذو استعداد أصيل للعربدة.
ضحكنا معا. لم يدر أنه يعرفني بنفسه أكثر مما يعرفني بالآخر. وعاد يقول محذرا: إنه من الأعيان، بلا وظيفة، فيمكن القول إنه بلا شهادة، خذ بالك من هذه النقطة.
صفحه نامشخص