منهاج الصالحين وجيزة في عقائد الشيعة فتاوى مرجع المسلمين زعيم الحوزة العلمية السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي PageV0MP001
شناسنامه PageV0MP002
... منهاج الصالحين / 1 مقدمه...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله الأئمة الهداة الميامين.
وبعد: يقول العبد المفتقر إلى رحمة ربه، الراجي توفيقه وتسديده " أبو القاسم " خلف العلامة الجليل المغفور له " السيد علي أكبر الموسوي الخوئي " أن رسالة " منهاج الصالحين " لاية الله العظمى المغفور له " السيد محسن الطباطبائي الحكيم " قدس سره لما كانت حاوية لمعظم المسائل الشرعية المبتلى بها في: " العبادات والمعاملات " فقد طلب مني جماعة من أهل الفضل وغيرهم من المؤمنين أن أعلق عليها، وأبين موارد اختلاف النظر فيها فأجبتهم إلى ذلك.
ثم رأيت أن ادراج " التعليقة " في الأصل يجعل هذه الرسالة أسهل تناولا، وأيسر استفادة، فأدرجتها فيه.
وقد زدت فيه فروعا كثيرة أكثرها في المعاملات لكثرة الابتلاء بها، مع بعض التصرف في العبارات من الايضاح والتيسير، وتقديم بعض المسائل أو تأخيرها، فأصبحت هذه الرسالة الشريفة مطابقة لفتاوانا.
وأسأل الله تعالى مضاعفة التوفيق، والله ولي الرشاد والسداد.
أبو القاسم الموسوي الخوئي PageV0MP004
بسم الله الرحمن الرحيم العمل بهذه الرسالة الشريفة مجز ومبرئ للذمة ان شاء الله تعالى أبو القاسم الموسوي الخوئي PageV0MP005
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين لا سيما بقية الله في الأرضين.
وبعد، فلما كانت رسالة منهاج الصالحين مع تكملتها لسماحة آية الله العظمى السيد الخوئي (قدس سره) جامعة للمسائل المبتلى بها في العبادات والعقود والإيقاعات والأحكام طلب جماعة مني التعليق عليها فعلقت على موارد اختلاف نظري فيها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. PageV0MP006
التقليد (مسألة 1): يجب على كل مكلف لم يبلغ رتبة الاجتهاد، أن يكون في جميع عباداته، ومعاملاته، وسائر أفعاله، وتروكه (1) مقلدا، أو محتاطا، (2) إلا أن يحصل له العلم بالحكم، (3) لضرورة أو غيرها، كما في بعض الواجبات، وكثير من المستحبات والمباحات.
(مسألة 2): عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل، لا يجوز له الاجتزاء به إلا أن يعلم بمطابقته للواقع، أو لفتوى من يجب عليه تقليده فعلا. (4) (مسألة 3): الأقوى جواز ترك التقليد، والعمل بالاحتياط، سواء اقتضى التكرار، كما إذا ترددت الصلاة بين القصر والتمام أم لا، كما إذا احتمل وجوب الإقامة في الصلاة، لكن معرفة موارد الاحتياط متعذرة غالبا، أو متعسرة على العوام.
PageV0MP007
التقليد...
(مسألة 4): التقليد هو العمل اعتمادا على فتوى المجتهد ولا يتحقق بمجرد تعلم فتوى المجتهد ولا بالالتزام بها من دون عمل.
(مسألة 5): يصح التقليد من الصبي المميز، فإذا مات المجتهد الذي قلده الصبي قبل بلوغه، جاز له البقاء على تقليده، (1) ولا يجوز له أن يعدل عنه إلى غيره، إلا إذا كان الثاني أعلم.
(مسألة 6): يشترط في مرجع التقليد البلوغ، (2) والعقل، والايمان، والذكورة، والاجتهاد، والعدالة، وطهارة المولد، وأن لا يقل ضبطه عن المتعارف، (3) والحياة، فلا يجوز تقليد الميت ابتداء.
(مسألة 7): إذا قلد مجتهدا فمات، فإن كان أعلم من الحي وجب البقاء على تقليده، فيما إذا كان ذاكرا (4) لما تعلمه من المسائل، وإن كان الحي أعلم وجب العدول إليه، مع العلم بالمخالفة بينهما ولو إجمالا، وإن تساويا في العلم، أو لم يحرز الأعلم منهما جاز له البقاء في المسائل التي (5) تعلمها ولم ينسها، ما لم يعلم بمخالفة فتوى الحي لفتوى الميت، وإلا وجب الاخذ بأحوط القولين، وأما المسائل التي
PageV0MP008
لم يتعلمها، أو تعلمها ثم نسيها فإنه يجب أن يرجع فيها إلى الحي.
(مسألة 8): إذا اختلف المجتهدون في الفتوى وجب الرجوع إلى الأعلم، ومع التساوي وجب الاخذ بأحوط الأقوال، ولا عبرة بكون أحدهم أعدل.
(مسألة 9): إذا علم أن أحد الشخصين أعلم من الاخر، فان لم يعلم الاختلاف في الفتوى بينهما تخير بينهما، وإن علم الاختلاف وجب الفحص عن الأعلم، ويحتاط - وجوبا - (1) في مدة الفحص، فإن عجز عن معرفة الأعلم فالأحوط - وجوبا - الاخذ بأحوط القولين مع الامكان، ومع عدمه يختار من كان احتمال الأعلمية فيه أقوى منه في الاخر، فإن لم يكن احتمال الأعلمية في أحدهما أقوى منه في الآخر تخير بينهما، (2) وإن علم أنهما إما متساويان، أو أحدهما المعين أعلم وجب الاحتياط، فإن لم يمكن وجب تقليد المعين.
(مسألة 10): إذا قلد من ليس أهلا للفتوى وجب العدول عنه إلى من هو أهل لها، وكذا إذا قلد غير الأعلم وجب العدول إلى الأعلم مع العلم بالمخالفة بينهما، وكذا لو قلد الأعلم ثم صار غيره أعلم.
(مسألة 11): إذا قلد مجتهدا، ثم شك في أنه كان جامعا للشرائط أم لا، وجب عليه الفحص، فإن تبين له أنه جامع للشرائط بقي على تقليده، وإن تبين أنه فاقد لها، أو لم يتبين له شئ عدل إلى غيره، وأما أعماله السابقة فإن عرف كيفيتها رجع في الاجتزاء بها إلى المجتهد الجامع للشرائط، وإن لم يعرف كيفيتها، قيل: بنى
PageV0MP009
على الصحة ولكن فيه إشكال بل منع، (1) نعم إذا كان الشك في خارج الوقت لم يجب (2) القضاء.
(مسألة 12): إذا بقي على تقليد الميت - غفلة أو مسامحة - من دون أن يقلد الحي في ذلك كان كمن عمل من غير تقليد، وعليه الرجوع إلى الحي في ذلك.
(مسألة 13): إذا قلد من لم يكن جامعا للشرائط، والتفت إليه - بعد مدة - كان كمن عمل من غير تقليد.
(مسألة 14): لا يجوز العدول من الحي إلى الميت الذي قلده أولا، كما لا يجوز العدول من الحي إلى الحي، إلا إذا صار الثاني أعلم.
(مسألة 15): إذا تردد المجتهد في الفتوى، أو عدل من الفتوى إلى التردد، تخير المقلد بين الرجوع إلى غيره والاحتياط إن أمكن.
(مسألة 16): إذا قلد مجتهدا يجوز البقاء على تقليد الميت، فمات ذلك المجتهد لا يجوز البقاء على تقليده في هذه المسألة، بل يجب الرجوع فيها إلى الأعلم من الأحياء، وإذا قلد مجتهدا فمات فقلد الحي القائل بجواز العدول إلى الحي، أو بوجوبه، فعدل إليه ثم مات فقلد من يقول بوجوب البقاء، وجب عليه البقاء على تقليد الأول في ما تذكره من فتاواه فعلا. (3) (مسألة 17): إذا قلد المجتهد وعمل على رأيه، ثم مات ذلك المجتهد فعدل إلى
PageV0MP010
المجتهد الحي لم يجب عليه إعادة الأعمال الماضية وإن كانت على خلاف رأي الحي في ما إذا لم يكن الخلل فيها موجبا لبطلانها مع الجهل، كمن ترك السورة في صلاته اعتمادا على رأي مقلده ثم قلد من يقول بوجوبها فلا تجب عليه إعادة ما صلاها بغير سورة.
(مسألة 18): يجب تعلم أجزاء العبادات الواجبة وشرائطها، ويكفي أن يعلم إجمالا أن عباداته جامعة لما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط ولا يلزم العلم تفصيلا بذلك، وإذا عرضت له في أثناء العبادة مسألة لا يعرف حكمها جاز له العمل على بعض الاحتمالات، ثم يسأل عنها بعد الفراغ، فإن تبينت له الصحة اجتزأ بالعمل، وإن تبين البطلان أعاده.
(مسألة 19): يجب تعلم مسائل الشك والسهو التي هي في معرض الابتلاء، لئلا يقع في مخالفة الواقع.
(مسألة 20): تثبت عدالة المرجع في التقليد بأمور:
الأول: العلم الحاصل بالاختبار أو بغيره.
الثاني: شهادة عادلين (1) بها، ولا يبعد ثبوتها بشهادة العدل الواحد بل بشهادة مطلق الثقة أيضا. (2) الثالث: حسن الظاهر، والمراد به حسن المعاشرة والسلوك الديني بحيث لو سئل غيره عن حاله لقال لم نر منه إلا خيرا.
PageV0MP011
ويثبت اجتهاده - وأعلميته أيضا - بالعلم، وبالشياع المفيد للاطمئنان، وبالبينة، وبخبر الثقة في وجه، (1) ويعتبر في البينة وفي خبر الثقة - هنا - أن يكون المخبر من أهل الخبرة.
(مسألة 21): من ليس أهلا للمرجعية في التقليد يحرم عليه الفتوى بقصد عمل غيره بها، (2) كما أن من ليس أهلا للقضاء يحرم عليه القضاء، ولا يجوز الترافع إليه ولا الشهادة عنده، والمال المأخوذ بحكمه حرام وإن كان الآخذ محقا، إلا إذا انحصر استنقاذ الحق المعلوم بالترافع إليه، هذا إذا كان المدعى به كليا، (3) وأما إذا كان شخصيا فحرمة المال المأخوذ بحكمه، لا تخلو من اشكال. (4) (مسألة 22): الظاهر أن المتجزي في الاجتهاد يجوز له العمل بفتوى نفسه، بل إذا عرف مقدارا معتدا به من الاحكام جاز لغيره العمل بفتواه إلا مع العلم بمخالفة فتواه لفتوى الأفضل، أو فتوى من يساويه في العلم وينفذ قضاؤه ولو مع وجود الأعلم.
PageV0MP012
(مسألة 23): إذا شك في موت المجتهد، أو في تبدل رأيه ، أو عروض ما يوجب عدم جواز تقليده، جاز البقاء على تقليده إلى أن يتبين الحال.
(مسألة 24): الوكيل في عمل يعمل بمقتضى تقليد موكله، (1) لا تقليد نفسه، وكذلك الحكم في الوصي. (2) (مسألة 25): المأذون، والوكيل عن المجتهد في التصرف في الأوقاف أو في أموال القاصرين ينعزل بموت المجتهد، وكذلك المنصوب من قبله وليا وقيما فإنه ينعزل بموته على الأظهر.
(مسألة 26): حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه حتى لمجتهد آخر، إلا إذا علم مخالفته للواقع، (3) أو كان صادرا عن تقصير في مقدماته.
(مسألة 27): إذا نقل ناقل ما يخالف فتوى المجتهد، وجب عليه إعلام من سمع منه ذلك، (4) ولكنه إذا تبدل رأي المجتهد، لم يجب عليه إعلام مقلديه فيما إذا كانت فتواه السابقة مطابقة لموازين الاجتهاد.
(مسألة 28): إذا تعارض الناقلان في الفتوى، فمع اختلاف التاريخ واحتمال
PageV0MP013
عدول المجتهد عن رأيه الأول يعمل بمتأخر التأريخ، وفي غير ذلك عمل بالاحتياط - على الأحوط وجوبا (1) - حتى يتبين الحكم.
(مسألة 29): العدالة المعتبرة في مرجع التقليد عبارة عن الاستقامة في جادة الشريعة المقدسة، وعدم الانحراف عنها يمينا وشمالا، بأن لا يرتكب معصية بترك واجب، أو فعل حرام، من دون عذر شرعي، ولا فرق في المعاصي في هذه الجهة بين الصغيرة والكبيرة، وفي عدد الكبائر خلاف.
التقليد - الكبائر...
وقد عد من الكبائر الشرك بالله تعالى، واليأس من روح الله تعالى، والأمن من مكر الله تعالى، وعقوق الوالدين - وهو الإساءة إليهما - وقتل النفس المحترمة، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم ظلما، والفرار من الزحف، وأكل الربا، والزنا، واللواط، والسحر، واليمين الغموس الفاجرة، وهي الحلف بالله تعالى كذبا على وقوع أمر، أو على حق امرئ أو منع حقه خاصة - كما قد يظهر من بعض النصوص - ومنع الزكاة المفروضة، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، وشرب الخمر، ومنها ترك الصلاة أو غيرها مما فرضه الله متعمدا، ونقض العهد، وقطيعة الرحم - بمعنى ترك الاحسان إليه من كل وجه في مقام يتعارف فيه ذلك - والتعرب بعد الهجرة إلى البلاد التي ينقص بها الدين، والسرقة، وانكار ما أنزل الله تعالى، والكذب على الله، أو على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو على الأوصياء (عليهم السلام)، بل مطلق الكذب، وأكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، والقمار، وأكل السحت، كثمن الميتة والخمر، والمسكر، وأجر الزانية، وثمن الكلب الذي لا يصطاد، والرشوة على الحكم ولو بالحق، وأجر الكاهن، وما أصيب من أعمال الولاة الظلمة، وثمن الجارية المغنية،
PageV0MP014
وثمن الشطرنج، فإن جميع ذلك من السحت.
ومن الكبائر: البخس في المكيال والميزان، ومعونة الظالمين، والركون إليهم، والولاية لهم، وحبس الحقوق من غير عسر، والكبر، والاسراف والتبذير، والاستخفاف بالحج، والمحاربة لأولياء الله تعالى، والاشتغال بالملاهي، كالغناء بقصد التلهي - وهو الصوت المشتمل على الترجيع على ما يتعارف أهل الفسوق - وضرب الأوتار، ونحوها مما يتعاطاه أهل الفسوق، والاصرار على الذنوب الصغائر.
والغيبة، وهي: أن يذكر المؤمن بعيب في غيبته، سواء أكان بقصد الانتقاص، أم لم يكن، وسواء أكان العيب في بدنه، أم في نسبه، أم في خلقه، أم في فعله، أم في قوله، أم في دينه، أم في دنياه، أم في غير ذلك مما يكون عيبا مستورا عن الناس، كما لا فرق في الذكر بين أن يكون بالقول، أم بالفعل الحاكي عن وجود العيب، والظاهر اختصاصها بصورة وجود سامع يقصد إفهامه وإعلامه، كما أن الظاهر أنه لا بد من تعيين المغتاب، فلو قال: واحد من أهل البلد جبان لا يكون غيبة، وكذا لو قال:
أحد أولاد زيد جبان، نعم قد يحرم ذلك من جهة لزوم الإهانة والانتقاص، لا من جهة الغيبة، ويجب عند وقوع الغيبة التوبة والندم والأحوط - استحبابا (1) - الاستحلال من الشخص المغتاب - إذا لم تترتب على ذلك مفسدة - أو الاستغفار له. (2) وقد تجوز الغيبة في موارد:
منها: المتجاهر بالفسق، فيجوز اغتيابه في غير العيب المتستر به.
PageV0MP015
ومنها: الظالم لغيره، فيجوز للمظلوم غيبته، (1) والأحوط - استحبابا - الاقتصار على ما لو كانت الغيبة بقصد الانتصار لا مطلقا.
ومنها: نصح المؤمن، فتجوز الغيبة بقصد النصح، (2) كما لو استشار شخص في تزويج امرأة فيجوز نصحه ولو استلزم إظهار عيبها، بل لا يبعد جواز ذلك ابتداء بدون استشارة، إذا علم بترتب مفسدة عظيمة على ترك النصيحة.
ومنها: ما لو قصد بالغيبة ردع المغتاب عن المنكر، فيما إذا لم يمكن الردع بغيرها.
ومنها: ما لو خيف على الدين من الشخص المغتاب، فتجوز غيبته، لئلا يترتب الضرر الديني.
ومنها: جرح الشهود.
ومنها: ما لو خيف على المغتاب الوقوع في الضرر اللازم حفظه عن الوقوع فيه، فتجوز غيبته لدفع ذلك عنه.
ومنها: القدح في المقالات الباطلة، وإن أدى ذلك إلى نقص في قائلها، وقد صدر من جماعة كثيرة من العلماء القدح في القائل بقلة التدبر والتأمل، وسوء الفهم ونحو ذلك، وكأن صدور ذلك منهم لئلا يحصل التهاون في تحقيق الحقائق، عصمنا الله تعالى من الزلل، ووفقنا للعلم والعمل، إنه حسبنا ونعم الوكيل.
وقد يظهر من الروايات عن النبي والأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام: أنه يجب على سامع الغيبة أن ينصر المغتاب، ويرد عنه، وأنه إذا لم يرد خذله الله تعالى في الدنيا والآخرة، وأنه كان عليه كوزر من اغتاب.
PageV0MP016
ومن الكبائر: البهتان على المؤمن وهو ذكره بما يعيبه وليس هو فيه.
ومنها: سب المؤمن وإهانته وإذلاله.
ومنها: النميمة بين المؤمنين بما يوجب الفرقة بينهم.
ومنها: القيادة وهي السعي بين اثنين لجمعهما على الوطء ء المحرم.
ومنها: الغش للمسلمين.
ومنها: استحقار الذنب فإن أشد الذنوب ما استهان به صاحبه.
ومنها: الرياء وغير ذلك مما يضيق الوقت عن بيانه.
(مسألة 30): ترتفع العدالة بمجرد وقوع المعصية، وتعود بالتوبة والندم، وقد مر أنه لا يفرق في ذلك بين الصغيرة والكبيرة.
(مسألة 31): الاحتياط المذكور في مسائل هذه الرسالة - إن كان مسبوقا بالفتوى أو ملحوقا بها - فهو استحبابي يجوز تركه، وإلا تخير العامي بين العمل بالاحتياط والرجوع إلى مجتهد آخر الأعلم فالأعلم وكذلك موارد الاشكال والتأمل، فإذا قلنا: يجوز على إشكال أو على تأمل فالاحتياط في مثله استحبابي، وإن قلنا: يجب على إشكال، أو على تأمل فإنه فتوى بالوجوب، وإن قلنا: المشهور كذا، أو قيل كذا وفيه تأمل، أو فيه إشكال، فاللازم العمل بالاحتياط، أو الرجوع إلى مجتهد آخر.
(مسألة 32): إن كثيرا من المستحبات المذكورة في أبواب هذه الرسالة يبتني استحبابها على قاعدة التسامح في أدلة السنن، ولما لم تثبت عندنا فيتعين الاتيان بها برجاء المطلوبية، وكذا الحال في المكروهات فتترك برجاء المطلوبية، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
* * * PageV0MP017
مقدمة في أصول الدين
صفحه ۱
منهاج الصالحين لسماحة آية الله العظمى السيد أبي القاسم الخوئي (قدس سره) مع الفتاوى سماحة آية الله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني دام ظله الوارف الناشر: مدرسة الإمام باقر العلوم (عليه السلام) المطبعة نگارش المطبعة: نگارش مركز التوزيع: إيران، قم، شارع معلم، زقاق 29، رقم الدار 448 هاتف: 7733413، 7744988
صفحه ۲
الملاحظة لقد سعينا أن يكون المصدر الأول المذكور في الحاشية مطابقا لما في أصل الكتاب، وأما ما يليه من المصادر فقد تكون مع تفاوت يسير.
الناشر
صفحه ۴
... مقدمة في أصول الدين ...
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين لا سيما بقية الله في الأرضين هذا الكتاب في فروع الدين، إلا أنه لغرض التعرف على أصول الدين وضعت له هذه المقدمة، وكما أن للنور مراتب، ونور الشمس ونور الشمع مرتبتان من حقيقة النور، فكذلك معرفة أصول الدين الإسلامي المبين لها مراتب.
وهذه المقدمة شمعة للسالكين في هذا الطريق، لغرض المعرفة الإجمالية، لا المعرفة التفصيلية بمستوى التعمق والتحقيق.
وقد راعينا فيها أن يكون الاستدلال العقلي بالوجوه المبنية على مقدمات أسهل تناولا، واستندنا في النقليات إلى كتب حديث العامة والخاصة، وكتب التاريخ المعروفة.
وإخبارنا بما نقلنا عنها مستند إلى تلك المصادر، وإن كان الناقل ثقة أو المنقول موثوقا به.
والإستضاءة بأنوار الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في مباني الدين المبين من جهة أن الكتاب والسنة يوقظان الفطرة، ويشتملان على أدق قواعد الحكمة.
وقد تركنا إيراد بعض النكات الفنية الدقيقة مراعاة للأذهان العامة، ولم يتيسر لنا في هذه الوجيزة استقصاء البحث كما هو حقه تتبعا وتحقيقا مراعاة للاختصار، ولكن الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله.
وقبل الشروع في بيان أصول الدين لا بد من ذكر مقدمات:
صفحه ۵
مقدمات تمهيدية 1 - لزوم تحصيل المعرفة إن احتمال وجود المبدأ والمعاد يوجب البحث والسعي لتحصيل المعرفة الدينية، فما دام الانسان يحتمل أن لهذا العالم خالقا عليما حكيما، وأن الموت ليس نهاية لحياة الانسان، وأن لخالقه هدفا من خلقه إياه، وأنه قد وضع له قانونا إن هو لم يطبقه وقع في الشقاء الأبدي، فإن فطرته توجب عليه أن يهتم بهذا الاحتمال مهما كان ضعيفا، لكون المحتمل أمرا عظيما وخطيرا جدا، وتدفعه لأن يبحث عن حقيقة الأمر ولا يهدأ ولا يستقر حتى يصل إلى نتيجة قطعية حاسمة، نفيا أو إثباتا.
وهذا كمن احتمل وجود مواد متفجرة في بيته، أو احتمل وجود تماس كهربائي يسبب احتراق بيته بمن فيه وما فيه، فإنه لا يستقر لحظة، بل يفحص ويبحث حتى يتيقن بعدم وجود الخطر.
2 - حاجة الانسان إلى الدين الحق الانسان موجود مركب من بدن وروح، وعقل وهوى، وبسبب هذا التركيب تراه يفحص بفطرته عن سعادته المادية والمعنوية، ويسعى للوصول إلى الكمال المقصود من وجوده.
ومن ناحية أخرى، فإن حياة كل فرد من أفراد الانسان لها بعدان: فردي
صفحه ۷
واجتماعي، نظير أي عضو من أعضاء البدن الواحد، الذي له - مضافا إلى حياته الخاصة - تأثير وتأثر متقابل مع سائر الأعضاء.
ولأجل هذا احتاج الانسان إلى نظام وقوانين تحقق له الحياة الطيبة، الفردية والاجتماعية، وتحقق له السعادة المادية والمعنوية.
وهذا النظام والقوانين هو الدين الحق الذي يكون الاحتياج إليه ضرورة فطرة الانسان {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها} (1).
ثم إن لكل موجود كمالا لا يمكن الوصول إليه إلا باتباع السنة المعينة لتكامله وتربيته، وهذه قاعدة عامة لا يستثنى منها الانسان {قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى} (2).
3 - أثر الدين في الحياة الشخصية لحياة الانسان أصل وفروع، ومتن وهوامش، فالأصل ذات الانسان نفسها، والفروع والهوامش متعلقاتها من المال والمقام والزوج والأولاد والأقارب.
وبسبب حب الانسان لذاته ومتعلقاتها صارت حياته مقترنة بآفتين: الغم والحزن، والخوف والقلق، الغم والحزن لما يفقده، والخوف والقلق على ما يجده خشية أن يفقده.
والإيمان بالله يزيل هاتين الآفتين من جذورهما، لأن الإيمان بالله العالم القادر الحكيم الرحيم يدفع الانسان إلى القيام بوظائفه المقررة له، وعندما يؤدي وظائف
صفحه ۸
عبوديته لربه، يعلم أن الله تعالى بعناية حكمته ورحمته سيوصله إلى ما هو خير وسعادة له، ويقيه من موجبات شره وشقائه.
بل إن الانسان إذا وجد الحقيقة التي كل حقيقة دونها مجاز، وكل ما سواها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، لم يبق له ضالة، وبإيمانه ب {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} (1) لا يبقى في نفسه أية جاذبية للحطام الدنيوي ليغتم من فقده، أو يستوحش من زواله {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} (2).
إن الذي يوجب انهيار أعصاب الانسان في الحياة الدنيا هو الإضطرابات الحاصلة من الفرح بالظفر بالعلائق المادية، والحزن والقلق من عدم الوصول إليها.
والشئ الوحيد الذي يوفر للإنسان الأمن من طوفان الأمواج العاتية في حياته، ويرسي سفينته في مرسى الأمان، هو الإيمان بالله عز وجل {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} (3)، {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (4).
4 - أثر الدين في الحياة الاجتماعية إن الانسان له قوتا شهوة وغضب، فإن غلبت عليه شهوة المال، فإن كنوز
صفحه ۹
الأرض لا تقنعه، وإن غلبت عليه شهوة المقام والرئاسة فإن ملك الأرض لا يكفيه، بل يطمح أن يمد سلطانه إلى الكواكب الأخرى {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب * أسباب السماوات} (1).
إن هوى الانسان الطاغي مع شهوة البطن والفرج والمال والمقام، واستخدامه قوة الغضب لإشباع هواه غير المحدود، لا يخضع لأي شئ، ولا يقف عند أي حد، ولا يصرف النظر عن تضييع أي حق.
وليست نتيجة الحياة بهذه الشهوة إلا الفساد، ولا بهذا الغضب إلا سفك الدماء وإهلاك الحرث والنسل، بل إن استخدام الانسان ما يكتشفه من أسرار الكون بقدراته الفكرية في سبيل الوصول إلى مآرب أهوائه غير المحدودة سوف يجر الحياة البشرية على الكرة الأرضية إلى الدمار والخراب {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} (2).
والقدرة الوحيدة التي تكبح جماح النفس الانسانية، وتسيطر على غلواء غضبها وشهوتها، وتروضهما حتى يعتدلا، وتحقق حقوق الفرد والمجتمع وتضمنهما، ليست إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد، والثواب والعقاب، فإن الاعتقاد بالله الذي {وهو معكم أين ما كنتم} (3) وبالمجازاة التي {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (4) هو الذي يبعث الانسان إلى كل خير ويصرفه عن كل شر، ويحقق مجتمعه على أساس التصالح في البقاء، بعيدا عن التنازع على البقاء.
صفحه ۱۰
5 - شرف علم أصول الدين الانسان يعشق العلم بفطرته، لأن ما به يكون الانسان إنسانا هو العقل، وثمرة العقل هو العلم، ولهذا إذا قلت للجاهل: يا جاهل، يحزن، مع أنه يعلم بكونه جاهلا، بينما إذا نسبته إلى العلم يفرح، وهو يعلم أنه ليس بعالم.
وحيث إن الاسلام دين الفطرة، فقد جعل نسبة العلم إلى الجهل نسبة النور إلى الظلمة، ونسبة الحياة إلى الموت (إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه) (1)، (العالم بين الجهال كالحي بين الأموات) (2).
وكل علم وإن كان بذاته شريفا إلا أن مراتب العلوم متفاوتة بسبب عدة أمور كموضوع العلم، ونتيجته، ونوع الاستدلال فيه، فالعلم الباحث عن الانسان أشرف من العلم الباحث عن النبات، بنسبة فضل الانسان على النبات، والعلم الباحث عن ضمان سلامة الانسان أشرف من العلم الباحث عن ضمان أمواله، بنسبة شرف حياة الانسان على ماله، والعلم الذي يقدم نتائجه من البرهانيات أشرف من العلم الذي يستند إلى الفرضيات، بنسبة شرف اليقين على الظن.
وعلى هذا، فإن أشرف العلوم هو العلم الذي موضوعه (الله) تبارك وتعالى، مع ملاحظة أن نسبة شرف الله تعالى على غيره ليست كنسبة البحار إلى القطرة، ولا كنسبة الشمس إلى الذرة، بل هي نسبة غير المتناهي إلى المتناهي، وبالنظرة الدقيقة فإن الفقير بالذات لا يمكن أن يكون طرفا في النسبة مع الغني بالذات
صفحه ۱۱
{وعنت الوجوه للحي القيوم} (1).
وثمرة هذا العلم هي الإيمان والعمل الصالح، اللذان هما الوسيلة الوحيدة لسعادة الانسان في الدنيا والآخرة، ولتأمين حقوق الفرد والمجتمع {من عمل صلحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيوة طيبة} (2).
وطريقة الاستدلال فيه هي الدليل والبرهان المفيد لليقين، ولا يتبع فيه الظن {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة} (3)، {ولا تقف ما ليس لك به علم} (4)، {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} (5).
وبذلك يتضح مدلول الحديث الشريف: (إن أفضل الفرائض وأوجبها على الانسان معرفة الرب والإقرار له بالعبودية) (6).
6 - شرط الوصول إلى المعرفة والإيمان بالله تعالى عندما يواجه الانسان أية ظاهرة في الوجود فإنه يفحص ويبحث عن الموجد لها، والفطرة الانسانية متعطشة إلى معرفة مبدأ الوجود ومنتهاه.
لكن جوهرة الإيمان بالله ومعرفته، التي هي أغلى جواهر خزانة العلم والمعرفة، لا ينالها - بمقتضى قاعدة العدل والإنصاف - من تلبس بالظلم للإيمان والمعرفة بالله، لأن إعطاء الحكمة لمن ليس بأهلها ظلم لها، وإمساكها عن أهلها ظلم لأهلها.
صفحه ۱۲
كما أن الانسان لا يمكنه بحال أن يعتقد بعدم المبدأ والمعاد، إلا إذا أحاط بكل الوجود، وأحاط بسلسلة العلل والمعلولات، ولم يجد المبدأ والمعاد، فما لم تتحقق هذه المعرفة المحيطة، فإن يقينه بعدم المبدأ والمعاد محال، بل غاية ما يمكنه هو الجهل بهما.
وعلى هذا، فإن مقتضى العدل والإنصاف للشاك في وجود الله تعالى أن لا يتجاوز مقتضى الشك قولا وعملا، فعليه أن يعترف بعدم العلم، وليس له أن يدعي العلم بالعدم، مثلا من احتمل وجودا تترتب على وجدانه السعادة الأبدية، وعلى فقدانه الشقاء الأبدي، فإن وظيفته العقلية أن لا ينكر وجوده بلسانه ولا بقلبه، وأن يواصل - في مقام العمل - البحث عنه بكل استطاعته، ويراعي الاحتياط في سلوكه حتى لا يخسر السعادة الأبدية، ولا يقع في الشقاء الأبدي على فرض وجوده، وذلك كما يحكم العقل عليه بأن يمسك عن الطعام اللذيذ الذي يحتمل أن فيه سما يوجب هلاكه.
وكل شاك في وجود الله، إذا عمل بمقتضى العدل، الذي هو واجبه العقلي يصل بلا شك إلى المعرفة والايمان {والذين جهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (1)، وإلا فمع التلوث بالظلم لهذه الحقيقة يستحيل حصول معرفة ذلك القدوس المتعال {يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} (2)، {ويضل الله الظلمين ويفعل الله ما يشاء} (3).
وبعد الالتفات إلى هذه المقدمات نشرع في بيان أصول الدين:
صفحه ۱۳
طرق الوصول إلى الإيمان بالله تعالى الطرق للوصول إلى الإيمان بالله تعالى متعددة:
أما لأهل الله تعالى فالدليل عليه والوسيلة إلى معرفته هو سبحانه {أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد} (1)، (يا من دل على ذاته بذاته) (2)، (بك عرفتك وأنت دللتني عليك) (3).
وأما لغيرهم فنشير إلى عدة طرق رعاية للاختصار:
الطريق الأول:
إذا نظر الانسان إلى نفسه وما يصل إليه إدراكه، ولاحظ أجزاءه وذراته، وجد أن عدم أي جزء منه ليس بمحال، وأنه بذاته ليس بضروري الوجود ولا بضروري العدم، وكل ما أمكن وجوده وعدمه فهو محتاج إلى سبب يوجده، نظير كفتي الميزان المتساويتين، لا يمكن أن ترجح إحداهما على الأخرى إلا بعامل من الخارج، نعم الممكن إنما يحتاج إلى السبب في وجوده، وأما عدمه فبعدم ذلك السبب.
وبما أن كل جزء من أجزاء العالم محتاج في وجوده إلى سبب يعطيه الوجود،
صفحه ۱۵
فمعطي الوجود له، إما هو نفسه، أو مثله من سائر الموجودات، أما نفسه فالمفروض أنه فاقد للوجود، فكيف يكون معطيا لما يفقده، وأما مثله فكذلك، لا يمكنه أن يعطي الوجود لنفسه، فكيف يعطيه لغيره، وهذا الحكم الجاري على كل جزء من أجزاء العالم، يجري على كل العالم أيضا.
وكما أن ضياء الفضاء الذي ليس له نور في ذاته دليل على وجود مبدأ لذلك الضياء يكون الضوء ذاتيا له، وإلا لما أضاء ذلك الفضاء، لأن ما كان مظلما في ذاته يستحيل أن يضئ نفسه، فضلا عن غيره.
ومن هنا كان وجود الكائنات وكمالات الوجود - كالحياة والعلم والقدرة - دليلا على وجود مبدأ يكون وجوده وحياته وعلمه وقدرته ذاتيا له غير مستند إلى غيره {أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون} (1).
عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه دخل عليه رجل فقال له: يا ابن رسول الله ما الدليل على حدوث العالم؟ فقال: " أنت لم تكن ثم كنت وقد علمت أنك لم تكون نفسك، ولا كونك من هو مثلك " (2).
وسأل أبو شاكر الديصاني الإمام الصادق (عليه السلام)، ما الدليل على أن لك صانعا؟
فقال: " وجدت نفسي لا تخلو من إحدى الجهتين، إما أن أكون صنعتها وكانت موجودة، أو صنعتها وكانت معدومة، فإن كنت صنعتها وكانت موجودة فقد استغنيت بوجودها عن صنعتها، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئا، فقد ثبت المعنى الثالث أن لي صانعا وهو الله رب العالمين " (3).
إن الشئ الذي لم يكن ثم كان، إما أن يكون قد أوجد نفسه، أو أوجده غيره،
صفحه ۱۶
فإن كان هو أوجد نفسه، فلا يخلو إما أن أوجد نفسه عندما كان موجودا أو أوجد نفسه عندما كان معدوما، فإن كان الأول يلزم إيجاد الموجود، وهو محال، وإن كان الثاني يلزم علية المعدوم للوجود، وهو محال أيضا.
وإن كان الموجد له غيره، فإن كان ذلك الغير مثله غير موجود ثم وجد، فحكمه حكم ذلك الشئ بلا فرق.
لذلك، تقضي ضرورة العقل بأن كل شئ لم يكن موجودا ثم كان، لابد أن يكون له موجد ليس للعدم إلى ذاته سبيل.
وبهذا يظهر أن كل موجودات العالم وتطوراتها دليل على وجود موجد لها ليس له موجد، وأن كل المصنوعات والمخلوقات دليل على وجود خالق وصانع غير مخلوق ولا مصنوع.
الطريق الثاني:
لو عثر على ورقة مطروحة في صحراء مكتوب عليها حروف المعجم من الألف إلى الياء بالترتيب، فإن ضمير كل انسان يشهد بأن كتابة تلك الحروف وترتيبها ناتجة عن فهم وإدراك.
وإذا رأى على الورقة كلمة مؤلفة من الحروف المذكورة وكلاما منسقا من الكلمات، فإنه سيؤمن بعلم الكاتب وفكره، بنسبة ذلك التأليف والتنسيق، ويستدل به على علمه وحكمته.
فهل تكوين نبتة من عناصرها الأولية أقل دلالة على علم صانعها وحكمته من تركيب جملة من الكلام الدال بوضوح على علم كاتبه؟!
فما بال الانسان يستدل بالسطر على علم كاتبه وحكمته، ولا يستدل بالنبتة
صفحه ۱۷
على علم خالقها وصانعها وحكمته؟!
ما هذه الحكمة والعلم الذي جعل من الماء والتراب ما يبلي قشر الحبة ويحيي لبها بالحياة النباتية!
وأعطى لجذر النبتة قدرة يشق بها الأرض، ويجذب قوت النبتة وغذاءها من ظلمة التراب!
وهيأ في كل قطعة من مائدة التراب أقواتا لأنواع النباتات والأشجار المختلفة، فصارت كل نبتة وشجرة تجد فيها غذاءها الخاص!
وجعل جذور كل شجرة لا تجذب إلا الغذاء الخاص الذي ينتج ثمرتها الخاصة!
وجعل الجذور تكافح جاذبية الأرض، فترسل الماء والغذاء إلى فروع الشجرة وغصونها!
وفي نفس الوقت الذي تعمل فيه الجذور في الأعماق، جعل الفروع والغصون والأوراق تنشط في الفضاء للحصول على النور والهواء! (فكل ميسر لما خلق له) (1).
ومهما حاول الانسان تغيير هذه السنة الحكيمة، ليجعل الجذور - التي خلقت لتضرب في أعماق التراب - تذهب نحو السماء، والغصون - التي خلقت لتنشط في الفضاء - تذهب إلى أعماق الأرض، يجد أنهما تكافحان نقض هذه السنة، وتذهبان في مسيرهما الطبيعي {ولن تجد لسنة الله تبديلا} (2).
إن التأمل في خلق شجرة واحدة من عروقها إلى آلاف أوراقها، وما فيها من أنظمة مدهشة محيرة للعقول، وما أعطي لكل خلية من خلايا أوراقها من القدرة
صفحه ۱۸
على جذب الماء والغذاء من أعماق الأرض بواسطة الجذور، وارتباطها بما في السماء والأرض وما بينهما، والنواميس المؤثرة في حياتها، من اختلاف الليل والنهار وتضامن القوى الأرضية والسماوية على إنباتها، بإفناء بذرها في أصلها وفرعها، وإبقاء نوعها بتكوين بذورها في ثمارها، يكفي للإنسان أن يؤمن بالعلم والحكمة اللامتناهية وراء ذلك {أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون} (1)، {أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون} (2)، {وأنبتنا فيها من كل شئ موزون} (3).
إن أية نبتة وشجرة تنظر إليها، تجدها من جذورها إلى ثمارها آية لعلم الخالق وقدرته وحكمته، خاضعة للسنة التي جعلت لأجل تربيتها ورشدها {والنجم و الشجر يسجدان} (4).
* وكذلك التأمل في حياة كل حيوان، فإنه يهدي إلى الله تعالى.
جاء أبو شاكر الديصاني إلى الإمام الصادق (عليه السلام) فقال له: يا جعفر بن محمد دلني على معبودي.
فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): إجلس، فإذا غلام صغير في كفه بيضة يلعب بها، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ناولني يا غلام البيضة، فناوله إياها، فقال أبو عبد الله (عليه السلام):
صفحه ۱۹
يا ديصاني هذا حصن مكنون، له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها، لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها، ولم يدخل فيها داخل مفسد فيخبر عن فسادها، لا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى لها مدبرا؟!
قال: فأطرق مليا، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأنك إمام وحجة من الله على خلقه، وأنا تائب مما كنت فيه (1).
فأي تدبير صنع هذا الحصن المحكم من مادة الكلس المصفى، وأودع فيه الأسرار العجيبة؟!
أي تدبير نسج هذا الحصن من مواد الحب الذي تأكله الدجاجة والطير، ثم وضعه في بيت المبيض، وجعله مقرا آمنا لنمو الفرخ فيه، وأسكن فيه النطفة كاللؤلؤة في الصدفة؟!
وحيث إن الجنين منفصل عن أمه، وليس هناك رحم يوفر له الغذاء، فقد هيأ له الغذاء في داخل الحصن، وجعل بين جدار الحصن الغليظ وبين الفرخ وغذائه غشاء لطيفا يمنع من وصول الأذى إليه، ثم خلق في ذلك الجو المظلم جميع أعضاء الحيوان وقواه من عظام وعضلات وعروق وأعصاب وحواس، ووضع كل واحدة منها في موضعها .
إن التأمل في تركيب العين من تلك الأعضاء فقط وما أودع فيها من لطائف الصنع، ووضعها في موضعها الذي يليق بها يحير العقول، فضلا عن جميعها.
صفحه ۲۰
ولأجل أن يتمكن من الإرتزاق - إذا خرج - بالتقاط الحب من بين التراب والأحجار، جهزه بمنقار صلب من جنس قرون الحيوانات، لئلا يتأذى بالنقر في الأرض.
ولأجل أن لا يفوته رزقه، جعل له حويصلة يجمع فيها كل ما وجد من الحب ويدخره في تلك المحفظة، ثم يعالجه بعد ذلك ويرسله إلى هاضمته.
ثم كسا جلده الرقيق بريش وجناحين تقيه الحر والبرد، والضر والعدو.
ثم لم يكتف له بضرورات حياته وواجباتها، حتى أنعم عليه بنوافلها المتعلقة بمظهره، فلون ريشه وجناحيه بألوان تسر الناظرين، قال (عليه السلام): " تنفلق عن مثل ألوان الطواويس ".
وبما أن تكامل هذا الحيوان يحتاج إلى الحرارة الموزونة في صدر الدجاجة، فإذا بالحيوان الذي لا يهدأ عن السعي والحركة إلا في ظلام الليل، يخمد في مكانه، ويرقد على بيضه هادئا ساكنا طوال المدة التي يحتاج الجنين في البيض إلى تلك الحرارة.
فأية حكمة سلطت هذا الخمود والسكون على طائر دائم الحركة، لتتحقق حركة الحياة في فرخ جديد؟!
بل أي أستاذ علم الطائر أن يقلب البيض في الليل والنهار حتى لا تفقد أعضاء الجنين تعادلها؟! وعلم الفرخ عندما يتم خلقه أن يكسر جدار الحصن بمنقاره، ويدخل في عالم حياة جديدة أعدت لها أعضاؤه وقواه؟!
أية عناية ورحمة أحدثت حركة قسرية في طبيعة أم الفراخ، تلك التي لم يكن يؤثر فيها إلا عامل المحافظة على حياتها والدفاع عن نفسها، فإذا بانقلاب يحدث فيها، فتجيش بالعاطفة على فراخها، تحافظ عليها وتحميها، وتجعل صدرها درعا يقيها، وتبقى هذه الحالة العاطفية طوال المدة التي تحتاج إليها حتى تستعد لإدامة
صفحه ۲۱
الحياة بنفسها.
ألا يكفينا التأمل في بيضة واحدة لأن يهدينا إلى الذي {خلق فسوى * والذي قدر فهدى} (1)، ومن هنا قال الإمام (عليه السلام): (أترى لها مدبرا؟ قال: فأطرق مليا، ثم قال:
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأنك إمام وحجة على خلقه، وأنا تائب مما كنت فيه).
* إن العالم القدير الحكيم، الذي ربى الحبة في ظلمة التربة، وربى الفرخ في ظلمة البيضة، كل واحد لأجل هدف وغرض معين، هو الذي ربى نطفة الانسان في ظلمات البطن والرحم، من أجل هدف وغرض معين، تلك النطفة التي كانت في أولها ذرة لا يدركها الطرف، فاقدة لجميع الأعضاء والقوى الانسانية، فجهزها بأنواع الأجهزة للحياة بعد الولادة، فقد جهزها - على سبيل المثال - بعظام على مختلف أشكالها ومقاديرها تتناسب مع وظائفها، وأضاء مشعل الإدراك فيه بواسطة دماغه بعجائب صنعة تتحير فيها العقول، وأبقى على حرارة الحياة فيه بنبضات القلب التي لا يفتر عنها ليلا ونهارا ويفوق عددها الملايين في كل سنة.
إن التأمل في تركيب أبسط عضو من بدن الانسان يكفي للإيمان بتقدير الخالق العزيز العليم، فالأسنان - مثلا - خلقت في ثلاثة أقسام: الثنايا في المقدمة، ثم الأنياب، ثم الطواحن الصغار والكبار، فماذا كان سيحدث لو خلقت الطواحن مقدمة على الثنايا والأنياب، وكانت هذه في موضع الطواحن، من جهة تقطيع الطعام ومضغه، ومن جهة المنظر من حيث القبح والجمال؟!
ماذا كان يحدث لو كان حاجباه تحت عينيه، أو كانت فتحة أنفه إلى الأعلى
صفحه ۲۲
بدل الأسفل؟!
إن جميع فعاليات الانسان لإعمار الأرض، من عمله في الزراعة إلى تشييده أضخم العمارات وأقواها، وإلى إتقانه أدق الصنائع وأكثرها ظرافة، متوقف على بنانه ونمو أظافره.
فأية قدرة وحكمة جعلت مادة الظفر متوفرة في غذاء الانسان، وجعلتها تمر في العمليات المحيرة للعقول من الهضم والمضغ والجذب في أنابيب العروق، حتى تصل إلى رؤوس الأصابع، فتنسج أظافر صلبة، ثم لكي يتحقق الغرض من خلقها توثق التلاحم بينها وبين لحم الأصابع بحيث لا يتحمل الانسان فصلهما، لكن عندما يتحقق الغرض منها ينفصل أحدهما عن الآخر، فيمكن للإنسان تقليم أظافره بسهولة؟!
والعجب أن ذلك الغذاء الذي يحمل مادة العظام والأظافر الصلبة المعدة للفعاليات الصعبة، نفسه يحمل مادة في نهاية الشفافية واللطافة لجهاز العين الحساس الدقيق ، تصل إليها عبر العروق؟!
فماذا يحدث في نظام حياة البشر، لو انعكس الأمر في مسار الرزق المقسوم المعلوم، فوصل غذاء الأظافر إلى العيون فنبتت فيها أظافر! ووصل غذاء العيون إلى رؤوس الأصابع فنسجت عليها أجزاء من العيون؟!
* إنما هذه نماذج من أبسط آثار العلم والحكمة، غير المحتاجة إلى دقة النظر {وفى أنفسكم أفلا تبصرون} (1)، فكيف إذا وصلنا إلى أعماق أسرار الخلقة، التي تحتاج إلى تخصص في علم وظائف الأعضاء وتشريحها، واستعمال الأجهزة الدقيقة والتفكير
صفحه ۲۳