مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
من الحسين بن الحسن الحليمي إلى من بلغه كتابه هذا من أهل القبلة، المشاركين له في الملة، الراغبين في العلم والحكمة، الطالبين علم المنهاج والشرعة، المجعولين لنبي الرحمة، المبعوث بالحنيفية السمحة، محمد خاتم الرسالة، وصاحب الشفاعة، والمؤتمن الشهيد على الجماعة، ﷺ، وخصه بالفضيلة والزلفة والوسيلة.
سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله. أما بعد، أحسن الله توفيقكم، وسهل إلى ما يرضاه طريقكم، وقوانا وإياكم على طاعته ما أحيانا، وأجزل حظنا وحظكم من رحمته إذا توفانا، ونزع من صدورنا كل غل، وجعل الحق أحب إلينا وإليكم من كل خل.
فالحمد لله الواحد القديم الماجد العظيم، الواسع العليم الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وعلمه أفضل تعليم، وكرمه على كثير ممن خلق أبين تكريم.
أحمده وأستعينه وأعوذ به من الزلل، وأستهديه لصالح القول والعمل، وأسأله أن يصلي على النبي المصطفى الرسول الكريم المجتبى محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وسلم كثيرا، ثم إن هذا كتاب جمعت فيه من الكلام في حقيقة الإيمان، وبيان ما يشتمل هذا الاسم عليه ويشار به عند الاطلاق إليه. وشرح ما جاء عن النبي ﷺ أنه قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وتفصيل هذه الشعب واحدة واحدة، والكلام عليها بما يكشف عن حقيقتها، ويقف الناظر فيه على جليتها. ما أملت أن يعظم نفعه،
1 / 3
ويكثر فائدته، ويحسن على متأمليه عائدته. وسميته المنهاج إذا كان إبانة لما نهجه الله- تعالى جده- لنا من الدين، وهدانا له من الصراط المستقيم، وقال تعالى جده في كتابه: ﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا﴾. وقسمته عشرة أقسام في عشرة أبواب: أولها باب في البيان عن حقيقة الإيمان. وثانيها باب في زيادة الإيمان ونقصانه. وثالثها باب في الاستثناء في الإيمان وما يصح منه أو لا يصح. ورابعها باب في ألفاظ الإيمان وما يصح أو لا يصح. وخامسها باب في إيمان المقلد والمرتاب والتمييز بين المقلد وغيره. وسادسها باب فيمن يكون مؤمنا بإيمان غيره أو لا يكون. وسابعها باب فيمن يصح إيمانه أو لا يصح. وثامنها باب فيمن لم تبلغه الدعوة. وتاسعها باب فيمن مات مستدلا. وعاشرها باب في شعب الإيمان وهذا الباب ينقسم سبعة وسبعين بابا:
أولها باب في الإيمان بالله ﷿ بآياته وبيناته. والثاني باب في الإيمان بالنبي ومن تقدمه من النبيين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين بدلائله وحججه. والثالث باب في الإيمان بالملائكة. والرابع باب في الإيمان بالقرآن وسائر كتب الله تعالى المنزلة. والخامس باب في الإيمان بالقدر وأن خيره وشره من الله. والسادس باب في الإيمان باليوم الآخر وتفسيره. والسابع باب في الإيمان بالبعث وكثير من حججه. والثامن باب في الإيمان بالحساب والميزان. والتاسع باب في الإيمان بالجنة والنار وفيه ذكر الصراط. والعاشر باب القول في محبة الله تعالى جده. والحادي عشر باب القول في مخافته والتفكر في وعيده. والثاني عشر باب في رجائه والثقة بوعده، ودخل في هذا الباب القول في الدعاء وشروطه وآدابه وأوقاته وأحواله. والثالث عشر باب القول في التوكل عليه والاعتصام به، دخل فيه القول في التداوي من الأمراض والاسترقاء وما جاء فيهما وفي سائر الاحترازات. والرابع عشر باب حب النبي ﷺ وآله وأصحابه. والخامس عشر باب في تعظيم النبي ﷺ وإجلاله وتوقيره. والسادس عشر باب في الشح بالدين.
1 / 4
والسابع عشر باب في طلب العلم والثامن عشر باب في نشر العلم. والتاسع عشر باب في تلاوة القرآن وآدابها وغيره من فضولها. والعشرون باب في الطهارات. والحادي والعشرون باب في الصلوات. والثاني والعشرون باب في الصدقات. والثالث والعشرون باب في الصيام. والرابع والعشرون باب في الاعتكاف. والخامس والعشرون باب في المناسك. والسادس والعشرون باب في الجهاد. والسابع والعشرون باب في المرابطة في سبيل الله. والثامن والعشرون باب في الثبات للعدو عند الالتقاء. والتاسع والعشرون باب في أداء خمس المغنم. والثلاثون باب في العتق ووجه التقرب به إلى الله ﷿. والحادي والثلاثون باب في الكفارات. والثاني والثلاثون باب في الإيفاء بالعهود. والثالث والثلاثون باب في تعديد نعم الله وما يجب من شكرها. والرابع والثلاثون باب في حفظ اللسان. والخامس والثلاثون باب في الأمانات وما يجب من أدائها إلى أهلها. والسادس والثلاثون باب في تحريم النفوس والجنايات عليها. والسابع والثلاثون باب في تحريم الفروج وما يجب من التعفف عنها. والثامن والثلاثون باب في تحريم أموال الناس وما يجب من التعفف عنها ودخل فيه القول في السرقة وقطع الطريق. والتاسع والثلاثون باب في المطاعم والمشارب وما يجب من التورع عنه منها. والأربعون باب في الملابس والزين والأواني وما يكره منها. والحادي والأربعون باب في تحريم الملاعب والملاهي. والثاني والأربعون باب في الاقتصاد في النفقة وتحريم أكل المال بالباطل. والثالث والأربعون باب في الحث على ترك الغل والحسد. والرابع والأربعون باب في تحريم أعراض الناس وما يلزم من ترك الرتع فيها. والخامس والأربعون باب في إخلاص العمل لله وتحريم الرياء. والسادس والأربعون باب في السرور بالحسنة والاغتمام بالسيئة. والسابع والأربعون باب في معالجة كل ذنب بالتوبة منه. والثامن والأربعون باب في القرابين والابانة عن معناها وغرضها والتاسع والأربعون باب في طاعة أولي الأمر بفضولها. والخمسون باب في التمسك بما عليه الجماعة. والحادي والخمسون باب في الحكم بين الناس وما يتشعب فيه من الكلام. والثاني والخمسون باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والثالث والخمسون باب في التعاون على البر والتقوى، ونصرة المظلوم وإغاثة اللهفان.
1 / 5
والرابع والخمسون باب في الحياء بفضوله. والخامس والخمسون باب في بر الوالدين. والسادس والخمسون باب في صلة الأرحام. والسابع والخمسون باب في كظم الغيظ وحسن الخلق ولين الجانب والتواضع. والثامن والخمسون باب في الإحسان إلى المماليك. والتاسع والخمسون باب في حق السادة على المماليك. والستون باب في حقوق الأولاد والأهلين على الناس. والحادي والستون باب في مقاربة أهل الدين وموادتهم وإفشاء السلام فيهم. والثاني والستون باب في رد السلام. والثالث والستون باب في عيادة المريض. والرابع والستون باب في الصلاة على من مات من أهل القبلة. والخامس والستون باب في تشميت العاطس. والسادس والستون باب في مباعدة الكفار والمفسدين والغلظة عليهم. والسابع والستون باب في إكرام الجار. والثامن والستون باب في إكرام الضيف. والتاسع والستون باب في الستر على أصحاب القروف. والسبعون باب في الصبر على المصائب. والحادي والسبعون باب في الزهد وقصر الأمل. والثاني والسبعون باب في الغيرة والمذاء. والثالث والسبعون باب في الإعراض عن اللغو. والرابع والسبعون باب في الجود والسخاء. والخامس والسبعون باب في رحم الصغير وتوقير الكبير. والسادس والسبعون باب في الإصلاح بين الناس. والسابع والسبعون باب في أن يحب الرجل لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، ويكره ما يكره لنفسه، ويدخل فيه إماطة الأذى عن الطريق.
ووجدت في القرآن عدة آيات تشمل كل واحدة منها على من هذه الشعب التي تقدم ذكرها، وفي الأخبار عن النبي ﷺ مثلها، وجعلت لها بابا مفردا أفردتها فيه، وتكلمت على ما يحتاج منها إلى فضل إيضاح وشرح حتى ظهر وجهه، واستبان المراد منه بإذن الله تعالى. وقد كان بعض من ألف شعب الإيمان خرجها على تسعة وسبعين بابا، ووجدته عمد إلى شيء واحد اختلف العبارة عنه في الروايات، فأورده في بابين وعده شعبتين، وربما عمد إلى شيئين لا يتميزان ويجمعهما أصل واحد، فجعله شعبتين. وأخل مع ذلك ببعض ما أوردناه فلم يذكر أصلا، فكتبت بابا مفردا ذكرت فيه السبب الذي دعاني إلى تخريج هذه الشعب على سبعة وسبعين بابا. وبينت أن كل ما يظن
1 / 6
غيري أنه خارج من هذه الأبواب فهو ملتحق بها وداخل بالحقيقة في جملتها، واشتملت إلى وجه ذلك وأوضحته، فصارت جملة أبواب الكتاب اثني عشر، كل باب منها يجمع ما قصدته ووضع له إلا باب الشعب فإنه ينقسم إلى سبع وسبعين بابا كما تقدم بيانه.
وكان مما حدا بي على تأليف هذا الكتاب، ورغبتي في جمع ما جمعته فيه، خوفي على كثير بما ضمنته إياه من دقائق العلم وخباياه ولطائف الشرع وقضاياه بين أن يدثر ويعفو رسمه فلا يذكر لزوال الهم به عن الصدور، ووقوع الإعراض عنه من الجمهور، والاشتغال عن العلوم بالجملة بالتبقر في الأهل والمال، والتهافت في الحرام والحلال، والتنافس في رتب الدنيا والتغافل عن درج الأخرى، والانقياد لدواعي الهوى وإن قادتهم عناتا إلى الردى وتزحزح هيبة الله ﷿ عن القلوب لما ران عليها من ظلم المعاصي والذنوب، والميل في عامة الأمور إلى الحفظ والدعة، وانشراح الصدر بالجهل الذي هو أدرك منازل الضعة. وفساد النيات والدخل وفتور العزائم والهمم. فإن الحال لما آل إلى ما ذكرت، وتراجعت للتراجع الذي وصفت، صارت طاعة الله- تعالى جده- تقام فيما تدعو إليه الضرورات الحاصلة، وتترك فيما تحرك عليه المتوقعات الآجلة. وكان الهم بالعلم بقدر الهم بالعمل، فطلب منه ما يضطر إلى العمل به سبب عاجل، وهجر منه ما لا يحمل على استعماله في الوقت حامل. ولذلك وقع الاقتصار بعد تقادم العهد وتطاول الأيام من امتثال الشريعة على أبواب معدودة منها: استباحة المباحات كالتبسط في المكاسب والتوسع في المطاعم والمشارب، وإنالة النفس هواها من المناكح والملابس، إذ كانت الإباحة للهوى موافقة، وللشهوات والمني مطابقة. ومنها لزوم ما يجري من شرائع الدين مجرى الأعلام حتى لا يكاد المسلمون يتميزون عن غيرهم إلا بها كإقام الصلاة الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت، فإنهم لو أهملوها لالتحقوا في ظواهر ما يبدو للناس من أفعالهم بالذين لا يدينون دينهم ولا يعتقدون ملتهم، فكان القائم في نفس كل ذي دين، وراجع من معتقده إلى يقين من الميل إلى إظهار ما عنده، والكراهة من أن يظن به
1 / 7
ما يخالف عقده هو الحامل لهم على إقامة هذه الطاعات، والتمسك بها من بين أصناف العبادات.
ومنها القيام بما إن أهملوه لم يحتملوا ولاة الأمور عليه، نحو الزكاة التي تلزمهم في مواشيهم وزرعهم وكرومهم وما يظهر من أموالهم، فإنهم لو منعوها لأخذت منهم قهرا، أو انتزعت من أيديهم جبرا، ونحو اجتناب الكبائر التي بها الحدود. فإن السلطان قائم بأمر الله تعالى جده على كل نفس بما كسبت تردعها عن السيئات وتحول بينهما وبين الموبقات، فمن واحد يقتله، وآخر يقطعه، وثالث يجلده، ورابع يجبسه، وخامس ينفيه ويعذبه، ولولا ذلك لانهمكوا في هذه الجنايات انهماكهم فيما لا حد له فيه من أصناف الخطيات، ولهذا قال بعض السلف: "ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن "، وقيل: لابد للناس من وزعه، وهم الولاة وعمالهم لأنه لولا مكانهم لأكل الناس بعضهم بعضا، وعطلت الحقوق وانتهكت الحرمات، فعم الصلاح بمكانهم واعتدل النظام بحسن قيامهم.
ومنها إعراضهم عن الحرمات التي لا يشتهونها ولا تميل إليها قلوبهم، وتنكرها نفوسهم كلحم الخنزير والميتة والدم ونكاح الأم والبنت والأخت فإن كل غرض يكون لأكل لحم الخنزير في أكله فهو حاصل له في غيره ولا فائدة في لذة أو منفعة تكون فيه إلا ومثلها أو أكثر منها موجود في اللحوم المحللة، ثم إنها على كثرتها واختلاف طعومها تزيح علة القرم، وتقضي شهوة المطعم، فلا يبقى معها إلى لحم الخنزير حاجة، ولا نفع إليه ضرورة، وأما الميتة والدم فإنهما لخبثهما ورجاستهما لا يشتهيان، ولو كانا محللين لكانا يتركان، فكيف وهما محظوران ومحرمان! وأما نكاح المحارم فإن في القلوب النفار منه والكراهة له لما فيه من هتك الحرمة ومجانبة الحياء والشبه بالبهائم.
1 / 8
فصارت الشريعة في هذه الأبواب لموافقتها الأهواء مستعملة، كما صارت في المباحثات لمثل هذا السبب ممثلة، ولولا أن ذلك كذلك، لترك من شرب الخمور ما ترك من لحم الخنزير، ومن الزنا بالأجنبيات ما هجر من نكاح المحارم والقرابات. فعلمنا أن ما اتبع من هذه الشرائع قلما حمل على اتباعها من الدواعي التي بيناها.
ومنها التعامل بالعقود والمحافظة فيها على الحدود، وذلك أن أحدهم لا يقضي عن صاحبه فيما يجب له من حق عليه، ومن اعتدى على آخر في نفس أو مال لم يمسك الآخر عنه، حتى يرافعه إلى سلطانه أو قاضي بلده، فأخذ على يده، وأنصف المظلوم من ظالمه، فصاروا لذلك يتبايعون ويتواهبون ويتكارون ويتعاقدون العقود المشروعة ويذرون الغصب والاختلاس والنهب في الأمر الأكثر، والأعم الأغلب، لمعرفتهم بما يلحقهم فيها من التبعات، ويؤيدهم إليه عقباها من المثلات، ثم قد يتفق خلال ذلك من ذوي الجهالة والسفالة هنات وزلات يئتون فيها من الاعتزاز بأنهم عسى لا يلحقون، ولا يقدر عليهم فيؤاخذون، فتجترئ على ذلك قلوبهم، وتقوى في الشر عزائمهم، وأما من غلب الخوف على قلبه وصار الاحتراز من همه، فما أقل ما تقع منه هذه الأمور، ولهذا صار الطريق المخوف إذا نقص بعضه، أمن الناس فيه مدة، ولم يعرض المكروه فيه إلا ندره. فلولا الردع من الفساد هو ما يخشى من الإنكار الوحي لاستوت الأحوال، وما ارتدع في كل وقت الجهال، ولولا أن ما وصفنا استعمال الناس له من الشرائع بعد انقراض عصري النبوة والخلافة، جاز في الأصل الذي ذكرت لهم استعمالهم أبواب الشريعة كلها دقيقها وجليلها، ولم يشذ عنهم منها إلا ما لم يبلغهم عنه خبر، ولم يأتهم ببيانه أثر، لأن من عمل من أمرين خوطب بهما أحدهما وترك الأخر مع تمكنه منه، واقتداره عليه، فقد أشعر أن عمله لم يكن لمجرد الأمر لكن لداعية (سوء) دعته إليها، ولولا ذلك لما كان فعله ما فعل أولى به من فعل ما ترك، ولا تركه ما ترك أولى به من ترك ما فعل، وما ينبغي أن يكون هذا بكذا مع تجلي آيات الله تعالى جده
1 / 9
لبصائر العقلاء ووجوب حقوقه في معارف العلماء، بل الأمر اللازم والفرض الواجب أن يجعل المؤمن أمانة الله أمامه، وطاعة الله منهاجه، فلا يفعل الخير إلا إعظاما لأمره، ولا يدع الشر إلا إذعانا لنهيه. ولقد استقصر كثير من العلماء من يفعل الخير رغبة في الثواب، ويدع الشر خيفة من العقاب، وشبهوه بعبد السوء الذي لا يخدم مولاه إلا طمعا في نعمته وتحرزا وتخوفا من سطوته، وبالحمار البليد الذي لا ينساق حيث يساق إلا بالضرب والإرهاق، وإن كانوا لا يختلفون في أن الرجاء والخوف قدما صدق ومنزلتا حق عند الله جل ثناؤه. وإنما ذهبوا في ذلك إلى أن الله تعالى جده وإن كان أطمع وحذر ووعد وأوعد بأنه ﵎ لو أمر ونهى ولم يضمم إلى الأمر وعدا ولا إلى النهي وعيدا، لكانت الطاعة له واجبة، والمعصية محذورة، كما قال عمر ﵁ لصهيب: "نعم المرء صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه". فثبت أن الثواب والعقاب زيادتان واقعتان بعد لزوم الفرض، العبد بعبودته، وارتهان حقوق الله تعالى جده لرقبته، فالأليق به إذا والألزم له أن يؤدي ما عليه من طاعة، وينتهي عما ليس إليه عبودة، ثم يكون رجاؤه الثواب إذا أطاع، وخوفه العقاب إن عصى للبقية بوعد الله ووعيده، لا لمعنى سواهما فيتباديا منه إيمانا ويكتبا له برا وإحسانا، لا سببا حاصلا على أداء اللوازم، والانتهاء عن المعاصي والمحارم، وإذا كان هذا فيمن وصفنا كما بيناه، فكيف بمن لا يخطر بقلبه من وعد الله ووعيده خاطر، ولا يزجره عن سوئهم به من هيبة الله زاجر، وإنما أمامه الهوى أو الضرورة أو خوف الاقران أو نهب السلطان أو حذر القيل والقال، فإذا انتهى إلى ما خلاه الله تعالى فيه وأمانته، ولم ينصب عليه قيما، ولم يقيض له به مطالبا، ولم يجعل له فيه مخاصما، ولم يخش أن يرفع فيه إلى وال أو قاض، نبذه وراء ظهره، وأعرض عنه إعراض من لا يحفل به، ونسب من يأخذ نفسه به إلى التصنع أو سخر منه كما يسخر من الهازل المتلعب، أما يستحق أن يكون مثله مثل العبد السيئ والحمار السيئ، كلا أنه أسوأ حالا منهما، لأن العبد إنما يدري طاعة مثله، والحمار جاهل بصاحبه لا علم له به وحقه. فأما من تقدم وصفه فإنما يدع طاعة ربه ويضيع حق
1 / 10
خالقه، ولعل بعض المنهمكين في المعاصي خير منه في بعض المعاصي، لأنه إن لم يخف الله تعالى جده لم يخف من دونه، ومن كانت طاعته من أحد الوجوه التي تقدم ذكرها لا يخاف الله ويخاف من دونه، ومن لا يقدم أحدا على الله في حذره أمثل حالا ممن يقدم خلق الله على الله في بره. فأما حال هؤلاء المذكورين في الشغل بعلم الدين فسوف يقرب من حالهم في العمل بشرائعه، لأنهم إذا خصوا بالعمل أياما بأعيانها خصوها كذلك بطلب علمها، وأما ما خرج من جملتها مما يدخل في جملة الأبواب التي كتبناها في شعب الإيمان وتوخينا شرح ما فيها مما تيسر من البيان ومما يرجع إلى علم القرآن تفسيره وتأويله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه، وعلم السنن مستفيضها وشاذها، وموصولها ومقطوعها، ومسندها وموقوفها، ومختلفها ومتفقها، وعلم الاجماع والاختلاف، واللسان الذي نزل به القرآن، وجاءت به السنن والآثار، فإن الأكثرين عنه معرضون، ولم قد يستغنى عنه في أغلب الأحوال عليه مؤثرون. قد رضوا في التوحيد لأنفسهم بمحض التقليد وعابوا الذين جاهدوا أعداء الله تعالى جده فيه، بالكلام الذي يقصر عنه نوافد الهام، والجدال الذي لا يبلغ شأوه شديد القتال، حتى أقاموا قناة الدين، وهدموا بنيان الملحدين، وبلغوا في نصرة الإسلام وأمانة ما نصب الله عليه من الأعلام ما لم تقارب ملي ولا معطل في نصرة قوله مقداره، ولم يبلغ في تأييده والدفع عنه معشاره، وما تركوا لمخالفيهم حجة إلا أدحضوها، ولا علة إلا نقضوها، ولا شبهة إلا جلوها، فليس لهم اليوم بحمد الله كلام يروع مؤمنا، أو يشكل موقنا، وما يخلفهم عن الدخول في دين الله إلا العناد وحب الفساد. ثم إن هؤلاء الموفقين لنصرة الله، القائمين بحق هذه الدعوة ما خصموا أضدادهم إلا بالقرآن وبما أودعه الله تعالى من البيان إلا أنهم لم يقنعوا بعلم ما ظهر منه وتجلى دون الإحاطة بما يظن منه واختفى، ولا بالوقوف على ما يتلى من تنزيله، دون الوصول إلى ما يدل من تأويله، فصرفوا عظم همهم إليه، وقصروا جل شغلهم عليه. حتى أدركوا حقائق ما جاءهم به الرسول، واستبان لهم من قبلها الصحيح والمعلول، وجدوا بعد ذلك واجتهدوا وقرروا مما عرفوا لكل شبهة مدفعا ومن كل معضلة مخرجا، فمن فارقهم في علن ما نزل من القرآن، في هذا العظيم من الشأن، كان لمعظم القرآن هاجرا،
1 / 11
وإن كان بما عداه يصير خابرا، لأن آيات الأعلام في كتاب الله أكثر من آيات الأحكام. وقد ذم الله تعالى وجل ثناؤه ﴿الذين جعلوا القرآن عضين، وأقسم ليسألنهم أجمعين: عما كانوا يعملون﴾، فكيف يسع عاقلا أن يحتذي حذو مسئول في القيامة ملوم، أو موبخ فيها مذموم. وكما نزل القرآن بالأعلام والأحكام، فكذلك قد نزل بالآداب ومكارم الأخلاق، والإنابة عن حقائق العبودة التي تلزم المكلفين أن يأخذوا بها أنفسهم فيكونوا لله داخرين. وفصلت السنة، ولخصت منها ما فصلت من حمل الأحكام، ولخصت مع جوامع الحلال والحرام، ونهجت للناس من الآداب المحمودة والسنن المرضية، في إقامة العبادات ووجه المعاشرات والمعاملات. وما يحق لكل امرئ أن يحافظ عليه في نفسه ومع غيره مثل ما نهجت لهم من أحكام المعاقدات والجنايات والمظالم والخصومات وما شيء من ذلك إلا وإلى القرآن مرجعه، وإلى بعض معانيه منزعه. فمن ألحق هذه الأبواب بالزوائد والفصول، وميزها عن سائر الأركان والفصول، لم يحصل من علم الدين إلا على القليل، وتلك منزلة لا يحمدها أهل الحصافة والتحصيل. وإذا كان هذا حال من لا ينظر في هذه الأبواب غفلة واشتغالا عنها بغيرها، فكيف بمن يسمي الحديث حشوا، والتفسير قصصا؟ وإذا سمع شيئا من محاسن الشريعة قال: هذا متاع المدكرين. فإن نبأ عنه فهمه قال: إنه كلام المبتدعين. وإن جرى عنده علم اللسان قال: هذا علم المؤدبين. فإن من كان هذا رأيه في هذه الأبواب لم يطلب علمها ولم يحم حولها، لأنه إنما يطلب علم الشيء من عرف قدره ومال إليه قلبه. والعلم لا يتعرض لكارهيه. ولا يتصدى للزاهدين فيه، وما الناس وإن تمنوه بنائليه، حتى يطلبوه أجد الطلب، ويرغبوا فيه أشد الرغب، وما هو بمعطيهم بعضه حتى يعطوه كلهم، وإذا أعطوه كلهم كانوا من إعطائه إياهم البعض على خطر، فكانت عاقبة هؤلاء الراصنين من علم الدين بأيسره والظانين إنهم قد حصلوا على جمهوره أو أكثره، وإن خسروا منه ووزروا من عظيم الإثم وما وزروا بنبزهم إخوانهم الذين جدوا في طلب الآثار وجمع
1 / 12
السنن والأخبار لقب الحشو، وإطلاقهم ألسنتهم فيهم بالهجر واللغو. وإنما أتى القوم من حيث ظنوا أن تعظيم علم الأحكام الذي يعرف بالفقه لا يتم إلا بالوضع من غيره والازراء بمن يتعاطاه ويشتغل به. وكانوا في ذلك كمن يضع من قدر سورة ليرفع به من قدر سورة، أو يزري بسنة ليعلي به قدر سنة. والإنصاف في ذلك أولى بالمسلمين من التشدد في الخلاف، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. ومن نظر وتبين علم: أن الفقه إن كان يستوجب الثناء ويستحق المدح والإطراء لأنه علم أصله وحي. فما وصفناه من إضراب علم الشريعة، وحي أصله، تنزيل كله، وإن كان ذلك لما يحتاج إليه فيه من الفهم والفطنة، فما علم من العلوم إلا ومنه جلي ومنه خفي، ولا وجه لإدراك الخفي إلا الاستدلال بالجلي عليه، ولا سبيل إلى الاستدلال بالجلي على الخفي إلا بعد إدراك المعاني وتبينها، وفي ذلك ما يبين أن اسم الفقه علم العلوم، الشريعة كلها، أعلاها الذي يتوصل بها إلى معرفة الله تعالى وجده ووحدانيته وقدسه وعامة صفاته ومعرفة أنبياء الله ورسله، والفرق بينهم وبين من يدعي مثل ما ادعوا، ولا يأتي من البينات بمثل ما أتوا، وما بعد ذلك من علم العبادات وأحكام الاكتساب والمعاملات، والحدود والجنايات، والفصل بين المتنازعين، وإيصال الحقوق إلى المستحقين، ومن علم الأحوال والأخلاق والآداب والسيرة الحميدة والعشرة الجميلة، والمروءة التي هي قرينة العدالة، وإبقاء معاني العبودة على تصرف الأحوال في الجملة. وعلم مع ذلك، إن التذكير مما أمر الله تعالى جده في كتابه، والله لا يأمر بالهزل ولا بما يهزأ به، ولا بما يصنع امتثاله من تمثيله ويحط استعماله من قدر مستعمله، قال الله ﷿: ﴿وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾، وقال: ﴿فذكر فما أنت بنعمة ربك بكافر ولا مجنون﴾. فيسمي الله تعالى جده، نبيه- ﷺ مذكرا، وسمى تبليغه وتعليمه تذكيرا، وأمره به إرشادا وتبصيرا. فكيف يعرض لأسباب الضعة ما جعله الله تعالى من أسباب الرفعة؟ وكيف يجري في إعداد أهل النقص طائفة: قائدها نبيها وإمامها رسولها؟ أو كيف يخرج علم
1 / 13
التذكير من جملة الفقه وهو لا يقع إلا من أولي الفطنة والتمييز والخبرة بما يوجبه الحال ويرجى أن ينجع فيمن يذكره المقدار الذي لا يستكثر، فيمل منه، أو يتضجر، وبالوقت الذي يكون التذكير فيه أنفع، ومن قلوب السامعين أوقع، وينبوع الذكر الذي يكون إلى القبول أسرع، وفي القلوب أنجع. وإذا تؤمل هذا المقام وما جرى فيه من الكلام، وجد اشبه المقامات بالقضاء بين المتخاصمين، والحكم بين المتنازعين التذكير، لأن المذكر يفصل بين دواعي النفس، فيميز المردية منها عن المنجية، ويلخص الموبقة من المعتقة، ويرجح دواعي العقل على دواعي الهوى والطبع، ويلزم السامعين أن يقفوا عند الحدود المحدودة لهم ولا يعتدوها، ويلزموا المثل الممثلة لهم ولا يتخطوها، كما أن القاضي يفصل بين المحق في دعواه والمبطل الراكب هواه. ويميز البينات عن دواحض الشبهات. ويرجح من أصنافها ما يجب ترجيحه، ويقدم منها ما يحق تقديمه، ويلزم المتحاكمين إليه أن ينتهوا إلى ما يوجبه الحكم لهم، ولا يرضى ببغي أن ظهر له منهم. فإن كان علم القضاء فقها كما يحتاج القاضي إليه من الفهم والفطنة والذكاء والخبرة، فعلم التذكير مثله، لأنه في هذا المعنى شكله. وبعد هذا فكيف ينفر الناس عن علم القصص وهو من براهين النبوة وأعلام الرسالة، إذ يقول الله ﷿: ﴿تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر إن العاقبة للمتقين﴾. هذا وقد سمى الله ﷿ القرآن قصصا، فقال: ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين﴾. وقال: ﴿إن هذا لهم القصص الحق﴾. وإنما الاقتصاص إذا الخبر على وجهه، فسواء كان المخبر عنه أنباء الأولين أو الحكام أو أحكام ما شرع للآخرين، فكل ذلك قصص. والفقه محتاج فيهما إليه لأن به يدرك مقاصد الاقتصاص، وبإدراكها يتميز العام عن الخاص، وليست بنا من تعظيم اسم الفقه والتنويه باسم الرأي وحسه، ولا ذاك بالذي يلحقنا منه مساءة، فإنا بحمد الله من أهل ذلك كله، وإنا لنحن أحكمنا معاقد الرأي والنظر، بعد أن أوضحنا معالم النقل والخبر، فأبينا على من خالفنا القياس، وأوثقنا منه القواعد والأساس، وفصلنا أقسامه
1 / 14
ولخصنا شروطه وإعلامه، وإنما يسوءنا أن يخرج من جملة الفقه ما ليس بخارج منها لنتذرع بذلك إلى نبذه وهجره، والبخس بحقه والإزراء بقدره، ولا ذلك بالذي يتصور به إلا من يراه، ويركب في استحسانه له هواه. ولكنا من أهل عصر من الأعصار إذا نشأوا عليه، وحدث قبل انقراضهم من يحتاج إلى الأخذ عنهم، احتذى حذوهم ولزم نهجهم، وظن أن لا علم إلا ما حصلوه، وإنهم لو علموا في غيرهم لأحكموه، ولو أبصروا فيه نفعا لم يضيعوه. فلا تزال الأشياء على هذا تتلاحق، والآراء منهم تتوافق وتتطابق، حتى لا يوجد في الناس من يحسن من تفسير القرآن ووجوه الأخيار. وحكم التذكير الذي هو فصل بين السامع وبين هواه، كما القضاء فصل بين المدعي وبين من أنكر دعواه.
وعلم القصص الذي عظم الله تعالى شأنه، وأظهر به النبي ﷺ برهانه، إلا قليلا فتذهب من علم الشريعة أصوله، وتعفو منه أعلامه ورسومه، فذاك الذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب، وتقسيمه على ما بينت من الأبواب. وقد أثبت فيه بتوفيق الله وعونه جملا من العلوم المهجورة المجفوة، بمقدار ما حملته من الأبواب التي كتبتها في شعب الإيمان، وضمنت كل باب منها من الكلام فيما يلتحق بسمته، ويدخل في جملته ما يكتفي به ويوصل منه إلى غيره. فمن بلغه كتابي هذا فلا يحرمن نفسه جزيل الحظ من الخير الذي سهلته له وسقته إليه بالإعراض عن تدبره، وترك الوقوف عليه إلى أن يحظى بما جمعته وينعم النظر فيما ألفته، فإن ذلك أن تيسر له ولم يخنه فهمه، وحسنت في سعيه نيته، رجوت أن يبتهج بإذن الله تعالى أجمعه، ولا يرى في شيء منه أن يدفعه، وبالله التوفيق والتسديد، والإرشاد والقصد والتأييد، وهو حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.
***
1 / 15
القسم الأول
باب البيان عن حقيقة الإيمان
الإيمان اسم مشتق من الأمن الذي هو ضد الخوف، كما قال ﵎: ﴿فإن خفتم فرجالا أو ركبانا، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون﴾، ومعناه والغرض الذي يراد به عند إطلاقه هو التصديق والتحقيق لأن الخبر هو القول الذي يدخله الصدق والكذب والأمر والنهي كل واحد منهما قول يتردد بين أن يطاع قائله وبين أن يعصى، فمن سمع خبرا فلم يستشعر في نفسه جواز أن يكون واعتقد أنه حق وصدق، فإنما أمن نفسه باعتقاد ما اعتقد فيما سمع من أن يكون مكذوبا له ملبسا عليه، ومن سمع أمرا ونهيا واعتقد الطاعة له، فكأنما أمن نفسه باعتقاد ما اعتقد فيما سمع من أن يكون مظلوما أو مستسخرا، أو محمولا على ما لا يلزمه قبوله والإنقياد له، فمن ذهب إلى هذا المعنى أنزل قول القائل: أمنت بكذا، والمراد نفسي منزلة قولهم ووطنت نفسي على كذا، أو حملت نفسي على كذا، أو رصنت نفسي أو ذللتها، وصنت نفسي عن كذا بمعنى أمنت، أي بدا لي صدق وما سمعت بأذني، وحق ما أدركته بعقلي، وما اعتقدته أمنا من الخطأ فيه، ويكون تركهم ذكر النفس في قولهم: أمنت، إختصارا لما قد كثر استعماله كما يقال بسم الله بمعنى بدأت، أو ابدأ باسم الله، وحذف ذكر الابتداء لكثرة الاستعمال. والله أعلم.
وفيه وجه آخر وهو أن يكون معنى أمنت، أي أمنت مخبري أو الداعي لي من التكذيب، والخلاف بما صرحت له به من التصديق والوفاق، فإذا قيل: آمنت بالله، فالمعنى أمنت الداعي إلى الله من الخلاف والتكذيب بما أظهرت له من الوفاق والتصديق
1 / 19
والإيمان بالرسول، إيمانه في نفسه من الشقاق عليه بإظهار التصديق له، والإيمان بالملائكة والكتب إيمان المخبر عنها من الخلاف بإظهار الوفاق.
وقد يجوز أن يكون إيمان من آمن بالله من الملائكة لا عن رسول كان إليه إيمانه بنفسه يحسن الإعتقاد لما أوجبه استدلاله من أن يكون الذي وقع له وسوسة أو ظنا، ويدخل في هذا إيمان المستدلين من الناس أيضا، وذهب بعض الناس إلى أن معنى آمنت بالله، أمنت نفسي من عذاب الله بالاعتراف به والتوحيد له، وهذا لا يصح لأنه لا سبيل لأحد من المؤمنين إلى القطع بأنه قد أمن عذاب الله، وقد قال الله تعالى ﷿: ﴿فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون﴾، ولأن الأمور بعواقبها ولا يدري أحد بماذا يختم له، ولأن لقطة الإيمان ليست تستعمل فيما يعقب الذهاب عنه عذابا فقط، ولكنه مستعمل حيث لا يتوهم فيه عذاب، لأن معنى الإيمان التصديق، فقد يجوز أن يقول القائل لصاحبه فيما يحدثه: لا أؤمن بما تقول، كما يقول: لا أصدق: ثم لا يكون المعنى لا أؤمن نفسي من العذاب بتصديقك. فبان أن ليس تأويل الآية ما قاله هذا القائل والله أعلم.
فصل
ثم إن الإيمان الذي يراد به التصديق لا يعدو إلى من يضاف إليه ويلصق به إلا بصلة وتلك الصلة قد تكون باء وقد تكون لاما. أما ما جاء بحرف الباء فمنه قول الله تعالى: ﴿والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك﴾، وقوله: ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله﴾، وقوله جل وعز: ﴿آمنوا بالله ورسوله﴾، وأما ما جاء باللام فمنه قوله تعالى في قصة إبراهيم صلوات الله عليه: ﴿فآمن له لوط﴾، وقوله حكاية عن نوح صلوات الله عليه: ﴿أنؤمن لك واتبعك الأرذلون﴾، وعن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى وهارون
1 / 20
صلوات الله عليهما: ﴿أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون﴾، وعن أبناء يعقوب صلوات الله عليهم أنهم قالوا لأبيهم: ﴿وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين﴾، وعن كفار العرب أنهم قالوا فيما بينهم: ﴿ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم﴾. فمن الناس من قال: إن قولهم "آمنت به"، و"آمنت له" لغتان يعبر بهما عن معنى واحد. والصحيح ما خالف هذا، وهو أن قولهم: "آمنت به" إنما يراد إثباته وتحقيقه والتصديق بكونه ووجوده. وقوله: "آمنت له" إنما يراد إتباعه وموافقته،.فالإيمان بالله تعالى جده إثباته والاعتراف بوجوده، والإيمان له القبول عنه والطاعة له. والإيمان بالنبي إثباته والإعتراف بثبوته، والإيمان بالنبي موافقته والطاعة له. ويدل على افتراق الصلتين أن إحداهما تصلح حيث لا تصلح الأخرى، فإن بني يعقوب ﵇ لو قالوا لأبيهم: "وما أنت بمؤمن بنا" لما صلح لذلك. ولو قال كفار العرب: "ولا تؤمنوا إلا بمن اتبع دينكم" لما أدى ذلك لما أرادوه من المعنى. وأمر الله نبيه محمدا ﷺ أن يقول للمنافقين: ﴿لن نؤمن لكم﴾، أي لن نقبل منكم عذركم، ولو كان مكانه: "لن نؤمن بكم"، ما جاز ولا حسن. وقال جل ثناؤه: ﴿قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين﴾، ولو كان مكان ذلك: "ويؤمن بالمؤمنين" لما جاز ولا صلح. فثبت بما اقتصصنا أن الصلتين موضوعان لمعنيين متغايرين لا لمعنى واحد. ويدل على صحة ما ذكرت أن اسم التصديق الذي هو حقيقة الإيمان قد يحتمل صلتين: إحداهما الباء والأخرى الهاء. فأما الباء فإنه يليق بالتصديق وبما يتصرف عنه من فعل ونعت. وأما الهاء فإنه يلزم ما ينصرف عنه من فعل، فإذا جاء النعت جازت اللام مكان الهاء، فيقال: "صدقت فلانا وصدقت به"، فمعنى صدقته أثبت قوله وخبره ووثقت بصحته ومعنى صدقت به: أثبت وجوده وكونه. ثم يقال: صدقت به وأنا مصدق. وإذا قيل صدقته، جاز أن يقال: "وأنا مصدقه ومصدق له، قال الله تعالى: ﴿مصدقا لما بين يديه من الكتاب﴾، ولا يصلح مكانه ومصدقا بما بين يديه لأن الغرض، أن هذا الكتاب
1 / 21
مثبت من وحدانية الله تعالى وقدسه ووجوب طاعته وتحسين العدل، وتقبيح الظلم والشهادة للذين جاؤوا بالكتب المقدمة، بأنهم جاؤوا بها من عند الله تعالى ما أثبتته تلك الكتب أنفسها. ولو قيل: "مصدقا لما بين يديه من الكتاب"، لصلح، فعلم أن اللام قائمة مقام الهاء في صدقته. ولو قيل: "ومصدقا بما يديه"، لم يدلك على أكثر من أنه أثبت أن كتبا كانت قبله، فثبت بهذا افتراق الصلتين، وتغاير ما يراد بهما، والله أعلم.
وما ينبغي لأحد أن يستنكر هذا الفرق، فإن الوجود منه هو الموافق للصواب والحكمة إذ كان الاعتراف بالله ﷻ، لابد من أن يسبق حتى يصح القبول عنه وطاعته وعبادته من بعد، والاعتراف بالنبي كذلك لأنه يسبق، ثم تكون متابعته والقبول عنه، ولو تجردت المتابعة بفعل ما يأمر به، والانتهاء عما ينهي عنه عن الاعتراف بالنبوة لما سلمت، ولا سلمت نفعت، فكان حقا أن يعود الأصل من هاتين الخصلتين بإحدى هاتين اللفظتين والتابع منهما بالأخرى. فيكون التصديق بالله إثباته والاعتراف بوجوده، والتصديق له قبول شرائعه، وإتباع فرائضه على أنها صواب وحكمة وعدل، والطاعة فيها لازمة، والمحافظة على حدوده، والثقة بوعده ووعيده.
وكذلك التصديق بالنبي، غير التصديق له. فالتصديق به: هو الاعتراف بوجوده وكونه وإثباته نبيا في الجملة. والتصديق له: إتباعه وطاعته وقبول ما جاء عنه، وكذلك الإيمان بالله: هو الاعتراف به وإثباته: والإيمان له: طاعته وإتباع أمره. وعلى هذا الإيمان بالله أو النبي، إيمان بالدلائل التي دلت عليه، لأنه قبول لدلالتها عنها، وانقياد لموجبها. والإيمان بالكتاب إيمان للدلائل التي دلت على أنه من عند الله.
1 / 22
فأما إذا قلت: "آمنت بالكتاب"، لم تكن دللت على أكثر من أنك أثبته كتابا لله تعالى، والإيمان بالنبي إيمان لله لأنه قبول لدلالته التي أيده بها، وطاعة له فيما أتى به من عنده، والإيمان بالله إيمان بالنبي لأنه إجابة لدعوته ومتابعة له على مقالته. وقد يجوز أن يقول: آمنت للكتاب والتزمت العمل بأمره ووعيده. فإن قال قائل: فما يمنع أن يكون الإيمان بالله إيمانا لله؟ لأن الإيمان بالله من فرائض الله، وطاعته فيه إيمان له، والإيمان بالنبي إيمان للنبي لأنه مؤمن بنفسه كما هو مؤمن بالله، والإقرار له بذلك متابعة له على ما هو عنده، فرجع الأمر: إلى أن الإيمان بمن يضاف الإيمان إليه والإيمان له سواء، فالفرق بينهما ساقط!
فالجواب: إنا لا ننكر أن يكون هذا هكذا إذا كان أحد هذين المعنيين مضافا إلى صيغة اللفظ الآخر وإلى تأويله! وإنما ينكر أن يكون جميعا مضافين إلى صيغة اللفظ إذا كانت الشواهد التي تقدم ذكرها تشهد بأن كل واحدة من اللفظتين موضوعة لغير ما وضعت له الأخرى. فكانت نفس الصيغة تدل على ذلك، لأنه إذا قيل: آمنت بكذا، أوجب ذلك إلصاق الإيمان بذلك الكذا، إذ الباء عندهم حرف إلصاق، فلا يكاد هذا اللفظ يدل على أكثر من التصديق بذات من أضيف الإيمان بالله. فإذا قيل: آمنت لكذا، أوجب ذلك إيمانا غير ملصق بذلك الكذا لكن واقعا لأجله. فكان قولهم: "آمنت بالله"، كقولهم "أثبت الله واعترفت به". وقولهم: "آمنت لله"، كقولهم: "خضعت لله، والخضوع له عز اسمه معنى غير إثباته، فلو جاز أن يقال: أن أحدهما هو الآخر. مع افتراقهما من حيث ذكرت، لجاز أن يقال: أن اسم الصلاة لصيغته موضوع لطاعته، إذ كانت الصلاة لله طاعة له، والصيام وكل عبادة مثلها، فتكون الصلاة صياما لأنها طاعة مثله، أو الصيام صلاة لأنه طاعة مثلها، وكل واحد منهما مستعملا حيث تستعمل الطاعة، إذ كان كل واحد منهما طاعة. فإذا لم يجز أن يقال ذلك لافتراق الاسمين فيما صيغ كل واحد من اللفظين له من المعنى، فكذلك الإيمان بالله والإيمان لله، هذه منزلتهما.
ويدل على صحة ذلك اسم الإسلام يصلح مكان اسم الإيمان عند وصله باللام، ولا
1 / 23
يصلح مكانه عند وصله بالباء. إذ قد يجوز أن يقال: "آمنت لله وأسلمت لله"، ولا يجوز أن يقال: "أسلمت بالله" كما يقال: "آمنت بالله". فثبت بهذا ثبوتا ظاهرا إن الإيمان لله غير الإيمان بالله، وأن الإيمان بالله إثباته والاعتراف به. فلما لم يكن من قولهم أسلمت بالله، هذا المعنى، لم يجز استعماله وأن الإيمان لله هو الطواعية له بإتباع أوامره بعد الاعتراف به، إذ كان إتباع الأمر مع الجحود لا يتحقق، فلما كان ذلك إسلاما للنفس وتسليما لأمر الله، صح أن يقال: "أسلمت لله"، فبان عما قلنا أن من قال: "آمنت بالله"، كان الإثبات والاعتراف به هو المعنى المضاف إلى صيغة اللفظ، وأما ما فيه من معنى الطاعة فهو من تأويل اللفظ لا من حكم صيغته. وأما من قال: "آمنت الله"، كان الإذعان والطواعية له بقبول أوامره وسائر ما جاء من عنده، هو المعنى المضاف إلى صيغة اللفظ. فأما ما فيه من معنى الإثبات له والاعتراف به، من حيث أن إتباع الأمر والنهي لا يكون إلا مع الاعتراف، فهو من تأويل اللفظ لا من حكم صيغته، والله أعلم.
فصل
ومن هذا الوجه الذي بيناه أوجبنا أن تكون الطاعات كلها: فرائضها ونوافلها إيمانا، ولم نوجب أن تكون المعاصي الواقعة من المؤمنين كفرا. وذلك أن الكفر بالله أو برسوله مقابل الإيمان به. فإذا كان الإيمان بالله أو برسوله الاعتراف به والإثبات له، كان الكفر به جحوده والنفي له والتكذيب به. فأما الأعمال فإنها إيمان لله ولرسوله بعد وجود الإيمان به. والمراد به إقام الطاعة على شرط الاعتراف المتقدم، فكان الذي يقابله هو الشقاق والعصيان دون الكفر، فلذلك قلنا أن تارك الإتباع مع الثبات على التصديق فاسق وليس بكافر. وكان هذا هو الذي يوجبه اللسان إلى أن يحقق المعاني وينظر فيما يوجبه، والله أعلم.
1 / 24
فصل
ثم أن التصديق الذي هو معنى الإيمان بالله وبرسوله ينقسم: فيكون منه ما يخفى وينكتم، ويكون منه ما يتجلى ويظهر، وأما الذي يخفى فهو الواقع منه بالقلب ويسمى اعتقادا، وأما الذي يظهر فهو الواقع باللسان ويسمى إقرارا ويسمى شهادة. وكذلك الإيمان لله ولرسوله ينقسم: إلى جلي وخفي. فالخفي منه هو النيات والعزائم التي لا تجوز العبادات إلا بها. واعتقاد الواجب واجبا والمباح مباحا والرخصة رخصة والمحظور محظورا والعبادة عبادة والحد حدا ونحو ذلك. والجلي ما يقام بالجوارح إقامة ظاهرة وهو عدة أمور: منها الطهارة ومنها الصلاة ومنها الحج ومنها العمرة ومنها الزكاة ومنها الصيام ومنها الجهاد في سبيل الله، وأمور سواها ستذكر في مواضعها. وكل ذلك إيمان وإسلام وطاعة لله ﷿ ولرسوله ﷺ إلا أنه إيمان لله بمعنى أنه عبادة له، وإيمان للرسول بمعنى أنه قبول عنه دون أن يكون عبادة له، إذ العبادة لا تحق لأحد ﷿.
فصل
ونقول: الخلاف في هذا الأصل الذي تقدم من قبل اللسان تمهيده كثير، ولكن القصد في هذا الكتاب، الكلام على الفريقين:
أحدهما: الذين يقولون أن التصديق بالقلب كان لإثبات الإيمان ومزايلة الكفر، وأن الإقرار باللسان وإن كان فرضا، فليس أن الكفر لا ينتفي إلا به، وإنما هو كالصلاة والزكاة وغيرهما من أركان الإسلام. وهي وإن كانت فرضا، فالكفر ينتفي من دونها، فكذلك الإقرار.
والآخر: الذين يقولون أن التصديق بالقلب واللسان معا هما الإيمان، فمن اعتقد بقلبه وأقر بلسانه فقد استكمل الإيمان، وأما سائر الطاعات والعبادات فاسم الإيمان لا يلحقها، وإنما يقال أنها حقوق الإيمان أو شرائع الإيمان، فأما الإيمان نفسه الاعتقاد والإقرار. وأما نحن فنقول: أن اسم الطاعات كلها فرائضها ونوافلها. فالاعتقاد
1 / 25