والصنف الآخر وهو الذي سميناه بالدخيل لا يأتلف منه كلام عال في البلاغة أصلا إذ من شروط البلاغة والفصاحة حسن الموقع من نفوس الجمهور، وذلك غير موجود في هذا الصنف من المعاني. وأيضا فإنه لا يقع في أغراض الشعر المألوفة إلا (ثانيا وتابعا) . ومن تتبع المعاني الواقعة في الشعر التي مرادها ما ذكرت، وكان له أدنى حظ من البلاغة، واعتبر كلا منها بالقوانين الموضوعة في أصول البلاغة، علم صحة ما قلته. وأنا أقرب على من لم يشد شيئا من علم البلاغة مرام التوصل إلى صحة ما ذكرته، بأن يتتبع في كتب الآداب والبلاغة مذاهب العلماء بالشعر في أي بيت -قالته الشعراء من المتقدمين والمحدثين- أو شعر في كل طريق من طرق الشعر التي منها النسيب والمديح والرثاء والهجاء. فإنه لا يجد مواد ما نص على فضله إلا من المعاني التي ذكرت أنها تقع أولا وثواني، ولا يجد فيها من المواد التي ذكرت أنها لا تقع إلا ثواني شيئا البتة. ولو لم يكن في ذلك إلا أن البصراء بهذه الصناعة، كأبي الفرج قدامة وأضرابه قد نص جميعهم على قبح إيراد المعاني العلمية والصناعية والعبارات المصطلح عليها في جميع ذلك، ونهوا عن إيراد جميع ذلك في الشعر.
وسيأتي في ما أذكره بعد، في هذا القسم إن شاء الله، ما يؤكد صدق القول وصحة المذهب في قبيح تلك المعاني بالنسبة إلى الأغراض المألوفة في الشعر.
١١- إضاءة: وإنما احتجت إلى هذا لأن الطباع منذ اختلت، والأفكار منذ قصرت، والعناية بهذه الصناعة منذ قلت، وتحسين كل من المدعين صناعة الشعر ظنه بطبعه، وظنه أنه لا يحتاج في الشعر إلى أكثر من الطبع، وبنيته على أن كل كلام مقفى موزون شعر، جهالة منه: أن الطباع قد تداخلها من الاختلال والفساد أضعاف ما تداخل الألسنة من اللحن، فهي تستجيد الغث وتستغث الجيد من الكلام ما لم تقمع بردها إلى اعتبار الكلام بالقوانين البلاغية، فيعلم بذلك ما يحسن وما لا يحسن.
ولا شك أن الطباع أحوج إلى التقويم في تصحيح المعاني والعبارات عنها من الألسنة إلى ذلك في تصحيح مجاري أواخر الكلم، إذ لم تكن العرب تستغني بصحة طباعها وجودة أفكارها عن تسديد طباعها وتقويمها باعتبار معاني الكلام بالقوانين المصححة لها، وجعلها ذلك علما تتدارسه في أنديتها ويستدرك به بعضهم على بعض وتبصير بعضهم بعضا في ذلك. وقد نقل الرواة من ذلك الشيء الكثير لكنه مفرق في الكتب، لو تتبعه متتبع متمكن من الكتب الواقع فيها ذلك لاستخرج منه علما كثيرا موافقا للقوانين التي وضعها البلغاء في هذه الصناعة.
١٢- تنوير: وكيف يظن ظان أن العرب، على ما اختصت به من جودة الطباع لنشئهم على الرياضة واستجداد المواضع وانتجاع الرياض العوازب فضلا عن هذه الطباع التي داخلها الفساد منذ زمان واستولى عليها الخلل، كانت تستغني في قولها الشعر الذي هو بالحقيقة شعر ونظمها القصائد التي كانت تسميها أسماط الدهور عن التعليم والإرشاد إلى كيفيات المباني التي يجب أن يوضع عليها الكلام، والتعريف بأنحاء التصرف المستحسن في جميع ذلك، والتنبيه على الجهات التي منها يداخل الخلل المعاني ويقع الفساد في تأليف الألفاظ والمعاني.
وأنت لا تجد شاعرا مجيدا منهم إلا وقد لزم شاعرا آخر المدة الطويلة، وتعلم منه قوانين النظم، واستفاد عنه الدربة في أنحاء التصاريف البلاغية. فقد كان كثير أخذ الشعر عن جميل، وأخذه جميل عن هدبة ابن خشرم، وأخذه هدبة عن بشر بن أبي خازم، وكان الحطيئة قد أخذ علم الشعر عن زهير، وأخذه زهير عن أوس بن حجر، وكذلك جميع شعراء العرب المجيدين المشهورين. فإذا كان أهل ذلك الزمان قد احتاجوا إلى التعلم الطويل فما ظنك بأهل هذا الزمان، بل أية نسبة بين الفريقين في ذلك؟!
1 / 7