ولو وجد هذا الحكيم أرسطو في شعر اليونانيين ما يوجد في شعر العرب من كثرة الحكم والأمثال، والاستدلالات واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام لفظا ومعنى، وتبحرهم في أصناف المعاني وحسن تصرفهم في وضعها ووضع الألفاظ بإزائها، وفي إحكام مبانيها واقتراناتها ولطف التفاتاتهم وتتميماتهم واستطراداتهم، وحسن مآخذهم ومنازعهم وتلاعبهم بالأقاويل المخيلة كيف شاؤا، لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية.
فإن أبا علي بن سينا قد قال عند فراغه من تلخيص كتابه في الشعر: "هذا هو تلخيص القدر وجد في هذه البلاد من كتاب الشعر للمعلم الأول. وقد بقي منه شطر صالح ولا يبعد أن نجتهد نحن فنبتدع في علم الشعر المطلق وفي علم الشعر، بحسب عادة هذا الزمان، كلاما شديد التحصيل والتفصيل. وأما ها هنا فلنقتصر على هذا المبلغ". انتهى كلام ابن سينا.
وفي كلامه إشارة إلى تفخيم علم الشعر، وما أبدت فيه العرب من العجائب، وإلى كثرة تفاصيل الكلام في ألفاظه ومعانيه ونظمه وأسالبيه، واتساع مجال القول في ذلك.
١٥- إضاءة: وقد ذكرت في هذا الكتاب من تفاصيل هذه الصنعة ما أرجو أنه من جملة ما أشار إليه أبو علي ابن سينا.
وقد تركت من ذلك أشياء لم يمكني الكلام فيها لكون بعض أغراض النفس تحث على الانحفار في التأليف وتعجيل الإتمام له، ولأن استقصاء القول في هذه الصناعة محوج إلى إطالة تتخون أزمنة الناظر وتعوقه عما يجب أن يترقى إليه من هذه الصناعة من العلوم النافعة. فإن النظر في أسرار هذه الصناعة مفتاح للنظر في تلك ومرقاة لها. وإنما يجب أن يقتصر في التأليف من هذه الصناعة على ظواهرها ومتوسطاتها، ويمسك عن كثير من خفاياها ودقائقها لأن مرام استقصائها عسير جدا، مضطر إلى الإطالة الكثيرة، ولأن هذه القوانين الظاهرة والمتوسطة أيضًا من فهمها وأحكم تصورها وعرفها حق معرفتها أمكنه أن يصير منها إلى خفايا هذه الصنعة ودقائقها، ويعلم كيف الحكم فيما تشعب من فروعها، فيحصل له جميع الصنعة أو أكثرها بطريق مختصر. والله ولي الإرشاد لمن استرشده.
١٦- تنوير: وإنما صح أن تقع الأقاويل الصادقة في الشعر، ولم تصح أن تقع في الخطابة ما لم يعدل بها عن الإقناع إلى التصديق، لأن ما تتقوم به صنعة الخطابة، وهو الإقناع، مناقض للأقاويل الصادقة، إذ الإقناع بعيد من التصديق في الرتبة. والشعر لا يناقض اليقين ما يتقوم به وهو التخييل، فقد يخيل الشيء ويمثل على حقيقته. فلذلك وجب أن يكون في الكلام المخيل صدق وغير صدق. ولا يكون في الكلام المقنع ما لم يعدل به إلى التصديق إلا الظن الغالب خاصة، والظن مناف لليقين.
فالشعر إذن قد تكون مقدماته يقينية ومشهورة ومظنونة. ويفارق البرهان والجدل والخطابة بما فيه من التخييل والمحاكاة، ويختص بالمقدمات المموهة الكذب. فيكون شعرا أيضًا ما هذه صفته باعتبار ما فيه من المحاكاة والتخييل، لا من جهة ما هو كاذب، كما لم يكن شعرا من جهة ما هو صدق، بل بما كان فيه أيضًا من التخييل. فلاختصاص الشعر باستعمال المحاكاة في المقدمات الكاذبة ما يقصر على النسبة إليه كل كلام مخيل مقدماته كاذبة، فيقال: كلام شعري إذ هو المختص باستعمال المقدمات الكاذبة من حيث يخيل فيها أو بها لا من حيث هي كاذبة. وإن شارك جميع الصنائع في ما اختصت به، وكان له أن يخيل في جميع ذلك، فالتخييل هو المعتبر في صناعته، لا كون الأقاويل صادقة أو كاذبة.
ب- معرف دال على المعرفة بماهية الشعر وحقيقته
الشعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب على النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيأة تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة شهرته، أو بمجوع ذلك. وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب. فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها الخيالية قوي انفعالها وتأثرها.
1 / 21