٢- والترعرع بين الفصحاء الألسنة المستعملين للأناشيد المقيمين للأوزان.
وكان المهيء الأول موجها طبع الناشئ إلى الكمال في صحة اعتبار الكلام محسن الروية في تفصيله وتقديره ومطابقة ما خارج الذهن به إيقاع كل جزء منه في كل نحو ينحى به أحسن مواقعه وأعدلها حتى يكون حسن نشء الكلام مشبها حسن نشء المتكلم به. وقد تكون النشأة حسنة على غير هذا النحو. وذلك بأن تستجد الأهوية للناشئ وترتاد له مواقع المزن ومواضع الكلإ والنبات الغض، ولا يخيم به في الموضع إلا ريثما يصوح كلأه ويغيض ماؤه، فإن الطباع الناشئة أيضًا على هذه الحال، وإن لم تكن في الأقاليم المعتدلة، جارية مجرى تلك في سداد الخاطر والتنبه لما يحسن هيآته اللفظية والمعنوي' إلى ما تهدوا. ولو اتفق النشء على هذه الحال من استجداد الأهوية وارتياد الأماكن أزمنة شبابها لأمة تكون أرضهم التي يترددون فيها أحسن الأرض بقعة وأمتعها وأعد لها هواء وكانت دواعيهم تتوفر على جعل الكلام عدة لما يراد من استثارة الأفعال الجمهورية أو كفكفتها بالإقناعات والتخييل المستعملة فيه نحو توفر دواعي العرب إلى ذلك لكانت هذه الأمة أجدر أمة أن تحوز قصبات السبق في الفصاحة وأن تستولي على الأمر الأقصى في ذلك. وأفصح قبائل العرب من شارف هذه الحال التي وصفنا أو قاربها.
والمهيئ الثاني موجه إياه لحفظ الكلام الفصيح وتحصيل المواد اللفظية والمعرفة بإقامة الأوزان.
وكانت الأدوات تنقسم إلى العلوم المتعلقة بالألفاظ والعلوم المتعلقة بالمعاني.
وكانت البواعث تنقسم إلى أطراب وإلى آمال. وكان كثير من الأطراب إنما يعتري أهل الرحل بالحنين إلى ما عهدوه ومن فارقوه، والآمال إنما تعلق بخدام الدول النافعة وجب ألا تكمل تلك المهيآت للشاعر إلا بطيب البقعة وفصاحة الأمة وكرم الدول ومعاهدة التنقل والرحلة. فقلما برع في المعاني من لم تنشئه بقعة فاضلة، ولا في الألفاظ من لم ينشأ بين أمة فصيحة، ولا في جودة النظم من لم يحمله على مصابرة الخواطر في إعمال الروية الثقة بما يرجوه من تلقاء الدولة، ولا في رقة أسلوب النسيب من لم تشط به عن أحبابه رحلة ولا شاهد موقف فرقة.
١- إضاءة: ولما كان القول في الشعر لا يخلو من أن يكون وصفا أو تشبيها أو حكمة أو تاريخا احتاج الشاعر أن تكون له معرفة بنعوت الأشياء التي من شأن الشعر أن يتعرض لوصفها، ولمعرفة مجاري أمور الدنيا وأنحاء تصرف الأزمنة والأحوال، وأن تكون له قوة ملاحظة لما يناسب الأشياء والقضايا الواقعة من أشياء أخر تشبهها، وقضايا متقدمة تشبه التي في الحال.
٢- تنوير: ولا يكمل لشاعر قول على الوجه المختار إلا بأن تكون له قوة حافظة وقوة مائزة وقوة صانعة.
فأما القوة الحافظة فهي أن تكون خيالات الفكر منتظمة، ممتازا بعضها عن بعض، محفوظا كلها في نصابه. فإذا أراد مثلا أن يقول غرضا ما في نسيب أو مديح أو غير ذلك وجد خياله اللائق به قد أهبته له القوة الحافظة بكون صور الأشياء مترتبة فيها على حد ما وقعت عليه في الوجود، فإذا أجال خاطره في تصورها فكأنه اجتلى حقائقها. وكثير من خواطر الشعراء تكون معتكرة الخيالات، غير منتظمة التصور، فإذا أجال خاطره في أوصاف الأشياء وخيالاتها اشتبهت عليه واختلطت وأخذ منها غير ما يليق بمقصده وبالموضع الذي يحتاج فيه إلى ذلك.
وكان المنتظم الخيالات كالناظم الذي تكون عنده أنماط الجواهر مجزأة محفوظة المواضع عنده. فإذا أراد أي حجر شاء على أي مقدار شاء عمد إلى الموضع الذي يعلم أنه فيه فأخذه منه ونظمه. وكذلك من كانت خيالاته وتصوراته منتظمة متميزة فإنه يقصد بملاحظة الخاطر منها إلى ما شاء فلا يعدوه.
والمعتكر الخيالات كناظم تكون جواهره مختلطة، فإذا أراد حجرا على صفة ما تعب فيه تفتيشه، وربما لم يقع على البغية، فنظم في الموضع غير ما يليق به. والمعتكر الخيالات في هذه الحال أجدر بطول السدر لكون الأشياء التي في الحس أوضح من التي في التصور والذهن.
٣- إضاءة: والقوة المائزة هي التي بها يميز الإنسان ما يلائم الموضع والنظم والأسلوب والغرض مما لا يلائم ذلك، وما يصح مما لا يصح.
1 / 13