ولما تحقق قطز مجيء التتار إلى البلاد الشامية، وعلم أنه لا بد من خروجه من الديار المصرية بالعساكر للذب عن المسلمين، فرأى أنه لا يقع له ذلك، فإن الآراء مشلولة لصغر السلطان ولاختلاف الكلمة، فجمع الأعيان والعلماء والأمراء، وعرفهم أن الملك المنصور هذا صبي لا يحسن التدبير في مثل هذا الوقت الصعب، فوافقوا على خلع المنصور ومبايعة قطز، وخرج بجيوشه وقد بلغت غارات التتار مدينة الخليل وغزة، قال أحد المؤرخين: وألقى الله تعالى في قلب قطز الخروج لقتالهم، بعد أن كانت القلوب قد أيست من النصرة على التتار، وأجمعوا فقط على حفظ مصر لا غير؛ لكثرة عددهم واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، وأنهم ما قصدوا إقليما إلا فتحوه، ولا عسكرا إلا هزموه، ولم يبق خارج حكمهم في الجانب الشرقي إلا الديار المصرية والحجاز واليمن.
وجرت المعركة في عين جالوت، وقاد المغول أميرهم كتبغا النسطوري، فإن هولاكو كان قد اضطر للعودة للشرق لشقاق بين أفراد بيت جنكيز خان، وفي الموقعة تجلت بطولة المحاربين وبطولة قطز بالذات، فعندما اضطرب جناح عسكر السلطان ألقى خوذته عن رأسه إلى الأرض، وصرخ بأعلى صوته: واإسلاماه، وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، فأيده الله بنصره، وقتل كتبغا، وانهزم باقيهم، ومنح الله ظهورهم للمسلمين يقتلون ويأسرون، ثم رجع التتار فتجمعوا من جديد قرب بيسان، وكانت معركة ثانية، وتزلزل المسلمون زلزالا شديدا، وصرخ السلطان صرخة عظيمة سمعها معظم العسكر وهو يقول: «وا إسلاماه ثلاث مرات، يا الله انصر عبدك قطز على التتار» فلما انكسر التتار الكسرة الثانية، نزل السلطان عن فرسه، ومرغ وجهه على الأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكرا لله، ثم ركب فأقبلت العسكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم، وانتهى بذلك أمر التتار من الديار الشامية.
وعين جالوت هذه من معارك التاريخ الحاسمة، لا لأنها أنقذت الحضارة الإسلامية، فإن التتار بعد أن استقر ملوكهم في فارس وما يتبعها، تحضروا بتلك الحضارة الإسلامية، وإنما كانت عين جالوت من المعارك الحاسمة لأسباب أخرى؛ أولا: لأنها أنقذت الشام ومصر من الخراب الذي حل بالعراق، وثانيا: لأنها أنقذت مصر والشام وحفظت لهما موضعهما من العروبة، وثالثا: لأن المعركة أدت إلى تصفية أمر التفرقة السائدة في الشام والجزيرة، فانتهى بها ما كان من أيام الأيوبيين، وما كان باقيا من ملك الصليبيين، وقامت بتلك الوحدة المصرية السورية، وابتدأ فصل رائع من فصول ازدهار الحضارة العربية.
صفحه نامشخص