5
على أنه إذا كانت حركتا نشر التراث والترجمة تدلان على أن الفكر الفلسفي عندنا يريد أن يقيم بناءه على أسس علمية سليمة، فإن حركة التأليف الفلسفي تضيف إلى ذلك دلالة جديدة، لأنها تكشف عن مذاهب الدارسين واتجاهاتهم، كشفا صريحا أحيانا، أو متضمنا في طريقة الاختيار والعرض أحيانا أخرى. ولسنا نخطئ إذا زعمنا أنه ما من مذهب رئيسي من المذاهب المعاصرة، أو من المذاهب التقليدية إلا وقد وجد له من بين فلاسفتنا نصيرا؛ مما يدل أوضح الدلالة على أننا نتميز بما تميز به الفلاسفة المسلمون قديما، من الاستماع إلى جملة الأفكار ليتخذ كل ما يتشيع له بعد أن يصوغه صياغة يعبر بها عن فكره المستقل. لكننا على اختلافنا في وجهة النظر نلتقي جميعا عند الطابع العام، وهو - كما أسلفنا - الجمع بين الدعوة إلى الحرية والاحتكام إلى العقل. وسترى من بيننا من يبرز فكرة المذهب العقلي أكثر مما يبرز فكرة الحرية الإنسانية، ومن يبرز فكرة الحرية الإنسانية أكثر مما يبرز فكرة المذهب العقلي. سترى منا من يناصر المثالية ومن يناصر التجريبية، لكننا جميعا نعبر عن جوانب مختلفة من موقف واحد، ومع ذلك فلا بد من الاعتراف هنا بأن هذه العناصر الكثيرة ما زالت تحتاج إلى مزيد من صهر حتى تكون أفصح تعبيرا عن وجهة نظر عربية خالصة.
ولعل يوسف كرم (1886-1959م) أن يكون في مقدمة أنصار المذهب العقلي من زمرة المحترفين، وقد بسط وجهة نظره الفلسفية في كتابين هما «العقل والوجود» و«الطبيعة وما بعد الطبيعة» (1959م). غير أنه لم يكن متطرفا في الأخذ بهذا المذهب، ولقد وصف هو نفسه مذهبه الفلسفي بأنه عقلي معتدل؛ وذلك لأنه لم يرد من العقل سوى أن يكون أداة صالحة للوصول إلى النتائج الصحيحة التي لا تتعارض مع مبادئ المنطق السليم، والتي تؤدي في الوقت نفسه إلى الإيمان؛ لأن الإنسان - في رأيه - حيوان عاقل متدين، فلا هو بالكائن الذي يتميز بالعقل وحده دون الإيمان، ولا بالإيمان وحده دون العقل، ولا تصلح حياته إلا إذا اجتمع عنده يقين العقل من جهة وطمأنينة القلب من جهة أخرى.
لقد أخطأ المذهب التجريبي - في رأي يوسف كرم - حين جعل الحواس مصدرا وحيدا للمعرفة، وذلك لأن «للإنسان قوة داركة متمايزة من الحواس، تدعى العقل، شأنها أن تدرك معاني المحسوسات مجردة عن مادتها، ومعاني أخر مجردة بذاتها، وأن تؤلف هذه المعاني في قضايا وأقيسة واستقراءات، فتنفذ في إدراك الأشياء إلى ما وراء المحسوس، محاولة استكناه ماهيته، وتعيين علاقاته مع سائر الموجودات. ولما كانت موضوعات العقل مجردة، كانت أفعاله التي ذكرناها مجردة كذلك، وبذلك يبطل المذهب الحسي الذي يقصر المعرفة الإنسانية على الحواس، ويرمي إلى أن يرد إليها ويفسر بها سائر المدركات» (من تصدير كتاب «الطبيعة وما بعد الطبيعة»).
وقد أخذ فيلسوفنا على نفسه خلال كتابه «العقل والوجود» أن يتقصى أنواع المدركات التي كان يستحيل على الإنسان تحصيلها إذا هو اعتمد على تحصيل الحواس وحدها، فلئن كان في مقدور الحواس أن تلم بظواهر الأشياء، فالعقل وحده هو المدرك لماهياتها، وإدراك الماهية إنما يكون بتجريد المعاني عن مادتها، وذلك فضلا عن المجردات الأخرى التي يدركها العقل عن غير طريق المادة، كأفكارنا عن الوجود والجوهر والعرض، والعلية، والخير والشر، والحق والباطل، كما يدرك العقل أيضا نسبا وعلاقات كثيرة، كالعلاقة الكائنة بين أجزاء الشيء الواحد، والعلاقات الكائنة بين الأشياء بعضها مع بعض، وكالعدد والترتيب، فإدراك علاقات كهذه لا يكون بالحواس، لأن الحواس تدرك الأطراف المتعلقة بتلك العلاقات نفسها، أضف إلى ذلك كله إدراك العقل - دون الحواس - للمبادئ العامة التي تنبني عليها العلوم، وإدراكه للموجودات غير المادية كالنفس والله.
هذه كلها ضروب من الإدراك العقلي، تثبت وجود العقل متميزا من الحواس وإدراكاتها، لكن إثبات وجوده لا يكفي وحده دليلا على قيمة ما يدركه، وإذن فلا بد للفيلسوف من خطوة أخرى يدحض بها مذهب الشك الذي يتشكك في صدق المدركات العقلية، حتى إذا ما فرغ من إثبات الصدق لتلك المدركات، خطا خطوة أخرى ليثبت بها أن ذلك الصدق ليس تصوريا بحتا، كما يقول أنصار المذهب التصوري الذين إن آمنوا بوجود العقل وبمدركاته العقلية، فهم يقصرون ذلك الوجود وتلك المدركات على داخل العقل، وبذلك ينكرون على الإنسان حق الخروج من عالم التصورات الداخلية إلى الوجود الخارجي.
هكذا عارض يوسف كرم المذهب التجريبي الذي يحصر نفسه في الإدراكات الحسية وحدها، كما عارض المذهب التصوري الذي يحصر نفسه في الإدراكات العقلية دون حق الخروج منها إلى ما يقابلها من موجودات خارجية، ومن ثم فهو «عقلي» يثبت وجود العقل ووجود مدركاته وصدق أحكامه، وهو أيضا «واقعي» يثبت وجود العالم الخارجي؛ ولذلك جاز له في كتابه «الطبيعة وما بعد الطبيعة» أن يبحث في كائنات الطبيعة من جماد وحيوان وإنسان، حتى إذا ما فرغ من ذلك انتقل إلى ما بعد الطبيعة ليقول إن العلم به يشتمل على ثلاثة موضوعات كبرى؛ أولها: مبادئ المعرفة، وثانيها: المبادئ العامة للوجود، وثالثها: موضوع الألوهية. ثم يفصل القول في هذه الموضوعات تفصيلا يعرض فيه لما قيل عند غيره من أقدمين ومحدثين، وما يحب هو أن يطرحه من رأي جديد.
4 •••
كان يوسف كرم قد اعتزم إصدار مؤلف في «الأخلاق» يكمل به معالم مذهبه «العقلي المعتدل» الذي يجمع بين المثالية والواقعية ، بل يقال إنه كان قد فرغ من كتابة فصول من ذلك المؤلف، لكن المنية عاجلته دون إتمام ما قد بدأ فيه، وكأنما أراد الله لحركة التفكير الفلسفي في بلادنا أن تكتمل بناء، بحيث يكمل واحد منا واحدا، فأخرج لنا الدكتور توفيق الطويل كتابا في «الفلسفة الخلقية: نشأتها وتطورها» (1960م) استعرض فيه مذاهب الأخلاق على اختلافها منذ اليونان الأقدمين إلى يومنا الراهن، لينتهي من هذا كله إلى اتجاه يختاره لنفسه، هو أقرب ما يكون إلى الاتجاه «العقلي المعتدل» الذي اتجه إليه يوسف كرم في الجوانب الفلسفية الأخرى. ويطلق الدكتور الطويل على اتجاهه هذا في الأخلاق اسم «المثالية المعدلة»، وفي تحديد مراده منها يقول (ص355 وما بعدها): «يشارك الإنسان النبات في النمو والحيوان في الحس وينفرد دون جميع الكائنات بالعقل، ومن أجل هذا كانت مزاولة التأمل العقلي أكمل حالات الوجود الإنساني فيما قال أرسطو قديما ... والإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يقنع بالواقع، ويتطلع إلى ما ينبغي أن يكون، يضيق بالسلوك الذي تسوق إليه الشهوات والعواطف، ويكبر السلوك الذي يجري بمقتضى الواجب؛ فإننا لا نقول للحجر الهابط بفعل الجاذبية إلى أسفل: ينبغي أن تتدحرج صاعدا إلى أعلى، ولا للوحش الذي يمزق فريسته: ينبغي أن ترأف بها وترحم ضعفها، من أجل هذا كان صعودنا سلم الإنسانية، أو هبوطنا مدارج الحيوانية، إنما يكون بمقدار حظنا من المثالية التي تعبر عندنا عما ينبغي أن نكونه.» «وتقوم المثالية المعدلة في تحقيق الذات بكل قواها الحيوانية، وهذا التحقيق يتطلب الإلمام بحقيقة الطبيعة البشرية ومعرفة إمكانياتها، ووضع مثل إنساني رفيع يكفل وحدتها ويضمن تكاملها، وفي ظله يشبع الإنسان قواه جميعها؛ الحسي منها والروحي، بهداية العقل وإرشاده، وتتآخى الأنانية والغيرية، فيزول العداء التقليدي بين توكيد الذات ونكرانها ...»
من هذا نرى كيف وقف الدكتور الطويل موقفا يجمع فيه بين طرفين لم يكونا ليتلاقيا لولا قدرته على التوفيق بين الضدين؛ فقد كان المتطرفون من الحسيين - من جهة - ينشدون أسس الأخلاق فيما يحقق للإنسان سعادته، وكان المتطرفون من العقليين - من جهة أخرى - يلتمسون أداء الواجب الذي يأمرنا منطق العقل أو يأمرنا صوت الضمير بفعله، سواء حقق هذا الأداء للواجب سعادة للفرد القائم به، أم لم يحقق، لكن لماذا لا يكون أداء الواجب محققا للسعادة في آن معا؟ لماذا نفترض أن تحقيق القيم الروحية العليا يتعارض مع الرغبات البدنية؟ ألا إن هذا الفصل بين ما هو روح وما هو بدن لمن شأنه أن يفكك الطبيعة البشرية التي هي روح وبدن ، وأن يحدث من الأمراض النفسية ما هو معروف، ومن ثم وقف باحثنا موقفه الوسط في الأخلاق، والتمس السعادة في الفضيلة والمتعة في الواجب، فكان للحواس عنده دورها وللعقل دوره، فتلك تشتهي وهذا ينظم لها طريقة الإشباع، بحيث لا تطغى سعادة الفرد على سعادة المجموع.
صفحه نامشخص