ولقد يخيل إلينا أن تمييز الإنسان بالعقل أمر هو من البداهة بمكان، لكن أقل ما يقال في هذا الصدد، هو أن كلمة «عقل» في ذاتها لا تهم، إنما المهم هو تحليلها، فماذا تعني؟ هاهنا تجد مواضع الاختلاف بين الفلاسفة قد ظهرت؛ فها هو ذا هيوم الفيلسوف الإنجليزي في القرن الثامن عشر - جريا على سنة الفكر الإنجليزي في نزعته الحسية التجريبية - يحلل العقل تحليلا آخر إذ يستل منه كيانه الذاتي، ويجعله حصيلة انطباعات حسية تجيء متفرقة فرادي، ثم ترتبط عندنا بالقوانين نفسها التي تتكون منها العادات البدنية؛ فليس هنالك فرق جوهري بين أن أكون فكرة العدالة - مثلا - وأن أكون عادة السباحة، فكلتا الحالتين ربط بين مقومات بسيطة حتى يتكون منها بناء مركب، وإن تكن الحالة الأولى ربطا بين انطباعات حسية، والثانية ربطا بين حركات سلوكية، ولو كان الأمر كذلك لاستحال علينا أن نصف أية فكرة كائنة ما كانت بأنها ضرورة عقلية محتومة؛ إذ لا ضرورة هناك، ما دام الأمر كله يرتد إلى بسائط تجتمع معا وكان يمكن لها ألا تجتمع.
وهنا نهض عمانوئيل كانت - عملاق الفلسفة الحديثة، كما كان أرسطو عملاق الفلسفة القديمة - نهض ليرد إلى العقل كيانه ووجوده من جديد على صورة تشبه ما كان عليه أمره عند أرسطو، وهو أن يجعل قوامه مبادئ أولية ومقولات فطرية. فإذا قلنا عن الإنسان إنه كائن ذو عقل، أردنا بذلك أن إدراكه للعالم من حوله لا يقتصر على مجرد انطباع حواسه بألوان وأصوات وما إليها، بل هو إدراك لا بد له من شيء آخر وراء هذه المحسوسات لينظمها ويرتبها ويصل بينها بحيث تصبح معرفة علمية معقولة. •••
هكذا كان المسرح الفلسفي موزعا طوال العصور بين مدرستين أساسيتين اختلفتا في تشخيص الطابع الذي يميز الإنسان؛ فمدرسة تقول: إن ذلك الطابع هو العقل بمعنى المبادئ والمقولات الفطرية الأولية، وأخرى تقول إنه هو العقل على شرط أن تفهم الكلمة بمعنى التجربة الحسية.
وكانت المدرسة الأولى على وجه الإجمال تسمى بالمدرسة المثالية، وتسمى الثانية على وجه الإجمال كذلك بالمدرسة التجريبية، حتى جاء إرنست كاسيرر (1874-1945م) وغيره من فلاسفة هذا العصر القائم، فلفتوا الأمر لفتة جديدة لسنا ندري إلى أي مدى تمتد وتنتهي؛ وذلك حين جعلوا مميز الإنسان لا يقتصر على العقل وحده مهما تعددت وظائفه المنطقية وتنوعت، بل إن العقل النظري المنطقي نفسه إن هو إلا فرع واحد من فروع كثيرة تندرج كلها تحت طابع آخر هو عند أصحابنا هؤلاء ما يميز الإنسان، ألا وهو القدرة على الرمز، أي أن يجعل من شيء رمزا دالا على شيء آخر.
فما من نشاط إنساني ذي بال إلا والرمزية لبه وصميمه، كما سنفصل القول فيما بعد؛ فالنشاط العلمي يرتد آخر الأمر إلى رموز، والفن والأدب قائمان على الرمز، وكذلك الدين والأخلاق، وكذلك الحياة الاجتماعية في ترابط أفرادها، بل كذلك الفرد الواحد في صحوه وفي نعاسه على السواء.
وإذا كانت هذه العملية الرمزية بهذا الخطر الخطير في حياة الإنسان، فهي جديرة بأن يتناولها المفكرون بالبحث والتأمل والتحليل.
وسواء كانت الرموز في مجال الفن والدين، أو كانت في مجال العلم، فهي على كلتا الحالتين ضرورة لا بد منها للتفاهم بين أفراد المجتمع الواحد؛ ولولا هذا التفاهم، أي لولا توصيل الأفراد بعضهم لبعض ما يدور في أنفسهم من أفكار ومشاعر لما كان هنالك مجتمع بأي معنى من معانيه، وهذا التوصيل محال بغير رموز متفق على مدلالوتها؛ ولئن كانت اللغة بطبيعة الحال هي أهم هذه الوسائل الرمزية على الإطلاق، حتى لقد اتخذت طابعا مميزا للإنسان، إلا أنها ليست هي الرموز الوحيدة المستخدمة في عملية التفاهم، فهناك إلى جانبها رسوم وصور وإشارات وتماثيل واحتفالات ذات مراسم معينة، وشعائر وما إلى هذه الأمور الرمزية كلها.
أقول: إنه بغير العملية الرمزية يصبح الاجتماع والاتصال بشتى أشكاله ضربا من المحال، وذلك لأن الحالات الإدراكية والوجدانية التي تطرأ على الفرد الذي يريد أن يعبر عنها للآخرين، هي على كل حال حالات تكمن في كيانه الداخلي، هي حالات كائنة خلف جداره الخارجي الظاهر، إذا صح هذا التعبير، هي صور ذهنية أو نبضات قلبية، ويريد صاحبها أن يخرجها في صورة مرئية أو مسموعة لتعرض أمام الآخرين، فكيف يكون ذلك بغير اختيار رمز، كائنا ما كان؛ ليدل على ما قد كمن في الداخل من حالات؟ •••
وهاهنا يفرقون بين ما يسمونه «علامات» وما يسمونه رموزا، ولا يزال الأساس الذي عليه تتم التفرقة بين العلامات والرموز مختلفا عليه. وأبسط أساس للتفرقة بينهما هو أن نقول إن «العلامة» هي الشيء الذي نتخذه مشيرا يدل على وجود شيء سواه، إما لأن الشيئين قد وجدناهما دائما مرتبطين، كالدخان الذي يكون علامة على وجود النار، والبرق الذي هو علامة على أن صوت الرعد وشيك الوصول، وانطباع قدم آدمية على الرمل ودلالته على أن إنسانا قد وطئ المكان وهكذا، وإما لأن الناس قد اتفقوا اتفاقا على أن يكون أحد الشيئين دالا على الآخر، كالنور الأحمر ودلالته في حركة المرور، وكثير جدا من كلمات اللغة علامات متفق على مدلولاتها. وكذلك رموز الرياضة وبعض الإشارات البدنية ندل بها على القبول أو الرفض وغير ذلك.
وأما الرموز بالمعنى الدقيق فهي تلك التي لا يكتفي فيها على مجرد الدلالة، بحيث يكون هنالك الطرفان فقط: طرف العلامة الدالة من جهة، وطرف الشيء المدلول عليه من جهة أخرى، بل يضاف إلى مجرد الدلالة شحنة عاطفية من نوع معين مقصود يراد لها أن تنزوي في نفس الرائي أو السامع كلما وقع على رمز معين، فعلم الجمهورية العربية المتحدة - مثلا - له ما لهذا الاسم من دلالة على البلد المراد الدلالة عليه، لكنه يضيف إلى مجرد دلالة الاسم على مسماه ضربا من الشعور يراد له أن ينشأ في النفوس كلما وقعت العين على ذلك العلم، وهذا يصدق على كثير جدا من تقاليد المجتمع وأوضاعه وشعائره التي يراد بها أن تؤدي وظيفة رمزية، أعني أن تثير في أعضاء المجتمع ضربا معينا من المشاعر، مقصود به صيانة المجتمع وتماسكه، كمشاعر التوقير أو القداسة أو الرهبة أو الخوف أو المرح وغيرها؛ فالهلال رمز للإسلام والصليب رمز للمسيحية، فكأنهما كلمتان، لكنهما يزيدان على كونهما مجرد كلمتين لكل منهما مدلولها المعين، إذ هما تضيفان إلى عملية الدلالة موقفا شعوريا خاصا؛ والسواد والبياض في الحزن والفرح وكذلك البكاء والضحك، وإن يكن الأولان رمزين اتفاقيين، والآخران رمزين طبيعيين، إلا أنها كلها رموز لها دلالة العلامات الدالة أولا، ثم لها فوق ذلك بطانة من شعور ووجدان، الأصل فيها أن تربط الأفراد في مجتمع متماسك بتنظيم السلوك تنظيما يزيل منه التضارب والتنافر؛ وإلا فلماذا اصطلح منذ أقدم العصور أن يكون للقبيلة رمز خاص، كالطوطم والعلم. ولماذا اصطلح على أن يكون للحاكم مظاهر خاصة، وأن يكون للقاضي رداؤه الخاص، وللخطيب منبره وسيفه، ولرجال الدين شاراتهم ومسوحهم، وهكذا مما يعد بالألوف؟ إنها كلها رموز مقصود بها أن تثير في الناس مشاعر ملائمة للمواقف المختلفة مما عساه أن ينتهي آخر الأمر إلى مجتمع متحد متسق متفاهم. •••
صفحه نامشخص