نحن وقضايا الفكر في عصرنا
1
إنني لأقول قولا مكرورا معادا، إذا أخذت أتتبع الملامح الرئيسية التي تجعل من هذا العصر عصرا فكريا متميزا من سواه، فمن ذا يريدني لأنبئه أن من ملامح عصرنا، هذه القوة النووية الجبارة، التي فكت من عقالها، ولا يعلم إلا الله، والعلماء، أين عساها أن تتجه بنا في طريق سيرها؟ ومن ذا يريدني لأنبئه أن قد كتبت السيادة في عصرنا للعلم، وما يتفرع عن العلم من آلات وتقنيات؟ أو لأنبئه بأن التفجر السكاني الرهيب قد أصبح علامة مميزة، ففي الوقت الذي تهددنا فيه القوة الذرية بأن تمحو البشر محوا، يجيء هذا التفجر البشري ليكون لها أبلغ جواب؛ أو من ذا يريدني لأنبئه عما يميز عصرنا من ثورات تلاحقت فأيقظت قارتين جبارتين: آسيا وأفريقيا؟ لقد أوشكت الثورات في يومنا أن تحل محل الحروب بالأمس، وبين البديلين فارق فسيح؛ فالثورات تنهض بها شعوب، وأما الحروب فيغلب أن يشنها ساسة وحكام؛ الثورات لا تكون إلا من أجل حرية، أو مزيد منها، وأما الحروب فما أكثر ما نشبت لتطمس حرية أو لتحد منها. فلئن كان عصرنا هذا ما ينفك جاهدا في مقاومة الحروب، فهو كذلك عصر لا يدخر وسعا في إثارة الشعوب المظلومة على ظالميها؛ إنه عصر ثورات؛ نعم، لقد سبقتها في التاريخ ثورات مشهودة، كالثورة الأمريكية والثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، لكن الثورة إذا قيست بعدد من يتأثرون بها، وبعمق ذلك الأثر ومداه، فإن ثورات الأمس لا تقاس بثورات اليوم عمقا واتساعا.
2
لكنني لا أتحدث هذا الحديث، لأتقصى به ملامح العصر وسماته، فليس ذلك موضوعنا؛ إذ السؤال هو عن الفكر وقضاياه، التي قد تكون تلك الملامح والسمات مصدرها. وإنه ليجمل بنا أن نحاول عرض هذه القضايا الفكرية، كما نعيشها نحن ونحياها، لا كما نقرؤها في الكتب نقلا عن سوانا، وإن يكن بيننا وبين سوانا - ونحن أبناء عصر واحد - من وشائج الصلة، ما يوحدنا جميعا في مشكلات بعينها، تتفق مع سحنتها، ثم تختلف في لون بشرتها من إقليم لإقليم.
وما قضايا الفكر هذه، إلا أسئلة ملقاة علينا، تتطلب منا جوابا، ولم نستقر لها بعد على جواب؛ أما ما قد استقر عليه الجواب فليس هو بالقضية المثارة، فمثلا، قد استقر الجواب على أن حقيقة الإنسان، وحقيقة العالم كله، تطورية لا سكونية، فهي في صيرورة دائمة، فلم يعد أحد يسأل، بل لم يعد يجوز لأحد أن يسأل إذا كان التطور حقيقة قائمة أو لم يكن، إنما الأسئلة المشروعة في هذا المجال، هي أسئلة عن صورة ذلك التطور وخصائصه ماذا عساها أن تكون؟ أهي تسلسل في منطق الفكر كما يقول هيجل؟ أم هي تسلسل في الطبيعة كما يقول ماركس؟ ... أهي حركة تشمل العالم والإنسان كما يقول هيجل وماركس معا؟ أم هي حركة مقصورة على الإنسان وحده كما يقول سارت؟
تلك وأشباهها هي الأسئلة المشروعة في هذا المجال، لا التطور من حيث هو كذلك.
فما أهم القضايا التي تثار اليوم، وما تزال تنتظر منا الجواب؟ أولها - فيما أرى - وأهمها وأعمها، قضية تسأل عن أيهما تكون له الأولوية في اعتبارنا: العلم أم الحياة ؟ العقل أم الوجدان والحدس؟ الحقائق العامة المجردة أم الخبرة الخاصة المباشرة؟ لقد انقسم الفكر - في عصرنا - حيال ذلك قسمين: أحدهما استقبل العلوم الطبيعية، وما انتهت إليه من تطوير للحياة، تطويرا جعل للآلة وللتقنيات مكانة الصدارة. أقول إن أحدهما قد استقبل هذه العلوم ومقتضياتها بالقبول والرضا، وكرس جهوده لخدمتها ولدفعها إلى الأمام ما استطاع إلى هذا الدفع من سبيل، وأما الآخر فقد ازور عنها وأشاح بوجهه رافضا، خوفا على ذات نفسه من الضياع. وإن العالم لتقسمه هاتان النزعتان، اللتان هما في الحقيقة وليدتا أم واحدة، لكنهما - كقابيل وهابيل - اختلفا هدفا ومسلكا. وفي وسعنا أن نقول - على وجه الإجمال - إن أمريكا والشمال الغربي من أوروبا وكذلك شرقيها قد انصرفت إلى النزعة العلمية عن طواعية، على حين اتخذت فرنسا وجاراتها موقف الاحتجاج والرفض، وأما نحن فقد تجاورت عندنا النزعتان، تتنازعان حينا، وتتكاملان حينا آخر.
إن قصة النزاع بين العقل وغير العقل من جوانب الإنسان، قديمة قدم التاريخ، فآنا هو نزاع بين العقل التقاليد، كما حدث لسقراط وآنا آخر هو نزاع بين العقل والتصوف، كما حدث في احتجاج الغزالي على الفلاسفة، وآنا ثالثا هو نزاع بين العقل والوجدان، كما حدث بين فولتير وروسو، وآنا رابعا هو نزاع بين العقل والدين، كما حدث في النصف الثاني من القرن الماضي بصفة خاصة. ولم تكن هذه هي كل ألوان الصراع بين العقل وغيره من جوانب الإنسان، وكأنما هذا العقل عدو للفطرة البشرية، وليس جزءا منها، كأنه مفستو فوليس أقحم نفسه في حياة فاوست ليضلها ويفسدها. ومهما يكن من أمر، فقد ظهر في أيامنا صراع جديد، هو بين العقل وخبرة الإنسان الباطنية المباشرة، أو قل - إن شئت - بين العقل والحياة، بين العام والخاص، بين الكل والجزء، بين الجماعة والفرد.
لقد شهد العالم - وما يزال يشهد - سيطرة للعلم تزداد قبضتها على الخناق، وإذا قلنا العلم، فقد قلنا العقل، مما أخذ يغرينا أن نسلم الزمام للبحوث العلمية وما تنتهي إليه من نتائج. مهما يكن أمر تلك النتائج؛ فالكلمة لأنابيب المعامل وقوائم الإحصاء، وعلينا أن نسمع ونطيع، فكان من الطبيعي أن تنشأ فلسفة لتواجه هذا الوثن الجديد، لتصيح في وجهه قائلة: لا، إنه إذا كان العقل أداة صالحة للتحليل والتعليل، فما يزال الإنسان أغزر من أن تحيط أحكام العقل وتحليلاته بكل ما في أعماقه وأغواره، إن قصارى العقل أن يقيس نتيجة إلى مقدمات، بحيث يتنبأ بأن كذا سيحدث إذا توافر كيت، لكنه عاجز عن رؤية اللحظة الراهنة في تيار الوعي، مع أن هذا التيار الباطني هو نفسه الحياة في سيالها الدافق، وكانت الوجودية هي هذه الفلسفة التي جاءت لتعلن هذا التمرد الرافض.
صفحه نامشخص